ARIJ Logo
yemen map

محاجرُ الموت في اليمن

فوضى وتلوث ومئات الأموات في مراكز عزل كورونا

تحقيق: محمد الحسني

26/09/2020
شاهد/ي خلاصة التحقيق في أقل من دقيقتين

دخل عبد الرحمن أحمد إلى محافظة صعدة الحدودية، يوم 26 آذار/ مارس، عائداً من المملكة العربية السعودية، حيث عمل لأربع سنوات في أحد المطاعم لإعالة أسرته المكونة من تسعة أفراد. توقف عبد الرحمن عن العمل في الخامس عشر من الشهر ذاته، بعد إعلان المملكة حظر التجوال الجزئي، واقتصار عمل المطاعم على الطلبات الخارجية، كإجراء وقائي لمواجهة جائحة كوفيد-19.

فوجئ عبد الرحمن، وهو في طريقه إلى منزله بمحافظة ريمة، بنقله إلى الحجر الصحي عند نقطة عسكرية في مدرسة بمنطقة بني عياش. وجد المكان مزدحماً، ولا تتوفر فيه أسرّة ما اضطره إلى النوم على الأرض من دون غطاء. بعد ثلاثة أيام وصل عدد المحجورين معه إلى مئة شخص، وأبلغهم الحراس أنّهم سينقلون إلى الحجر الصحي بمدرسة "إحماء الطلح" بمديرية سحار.

وجد عبد الرحمن المحجر الجديد أكثر ازدحاماً والأوضاع أسوأ. كان يجلس في الغرفة الواحدة أكثر من 20 شخصاً. دورة مياه واحدة يستخدمها أكثر من 150 شخصاً، مياهها تنقل من البرك المائية المكشوفة المحيطة بالمدرسة. "كانوا يعطوننا مياهاً ملوثة من مياه الآبار تظهر فيها بعض الشوائب". يتذكر عبد الرحمن أنّ الأتربة والحشرات والمخلفات البلاستيكية كانت منتشرة على النوافذ وفي الممرات وفناء المبنى. معظم أعضاء فريق الاستجابة والفريق الصحي في المحجر كانوا يختلطون بالمقيمين من دون كمامات أو قفازات أو استخدام معقمات. وكان يتمّ خلط المحجورين بالوافدين الجدد من دون إجراءات العزل والتعقيم. ويسمح للمحجورين بالخروج إلى الأسواق المجاورة لثلاث ساعات يومياً، تبدأ من الواحدة ظهراً، لشراء الطعام والمياه لعدم توفرها داخل المحجر.

يؤكد عبد الرحمن (23 عاماً)، أنّه لم يكن يمانع الالتزام بالحجر الصحي إذا ما توفرت أسرّة، ووجبات غذائية، وإجراءات وقائية. "كنت في سجن لا أكل ولا شرب. كانوا يعاملونني بامتهان وكأنّي لست آدمياً". قرر عبد الرحمن الهرب بعد يومين من وصوله، واتفق مع أحد أعضاء فريق الاستجابة على تنظيم هروبه عن طريق تحرير بطاقة خروج من الحجر الصحي.

عبد الرحمن واحد من 16 حالة رصدها مُعِدُّ التحقيق هربت أو تمّ السماح لها بالمرور، من مراكز العزل الوبائي والمحاجر الصحية التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً أو للحوثيين، (سلطات الأمر الواقع في صنعاء)، بعدما دفعوا مبالغ مالية للحصول على تصاريح خروج أو تسهيل خروجهم من مراكز العزل أو المحاجر الصحية، من دون خضوعهم للفحوصات. خرج هؤلاء بعد الاتفاق مع أعضاء فرق الاستجابة أو الفرق الطبية أو العسكرية في مراكز العزل والمحاجر الصحية، أو عن طريق أشخاص لهم علاقات بعاملين داخل هذه المراكز والمحاجر، في مخالفة لقانون الصحة العامة (رقم 4 لعام 2009)، الذي ينصّ في المادة (11) منه على "عزل المصابين بالأمراض الوبائية وتقديم الرعاية الصحية اللازمة لهم، وإخضاع المشتبه بإصابتهم للوقاية الصحية".

ويختلف الحجر الصحي عن مركز العزل الوبائي، بأنّ الأول يُعتبر منشأة تقيّد حركة الأشخاص الوافدين من مناطق تعرضت للوباء، ويشتبه بإصابتهم بمرض معدٍ ولا تظهر عليهم أعراض الإصابة، فيما تقيّد مراكز العزل الوبائي حركة الأشخاص المصابين بالعدوى، أو الحالات عالية الاشتباه، للمساعدة في الحد من انتشار الوباء.

بطاقة حجر صحي

بينت صورة عرضها عبد الرحمن على مُعِدِّ التحقيق التاريخ الفعلي لدخوله المحجر، بمقارنتها ببطاقة الخروج التي حررت له بتاريخ دخول قديم، تبين أنّه لم يَقضِ سوى يوميْن في الحجر الصحي بمديرية سحار. يقول إنّ عضو فريق الاستجابة عرض عليه تنظيم أمر هروبه منذ اليوم الأول. وعندما قرر الهرب دفع له 200 ريال سعودي أثناء تواجده بالحجر. وفي اليوم ذاته قدم عضو فريق الاستجابة له بطاقة الخروج ونقله مساءً بسيارته الخاصة، برفقة خمسة أشخاص كانوا معه بالحجر، إلى مدينة صعدة. ودفع عبد الرحمن له 300 ريال سعودي هناك، ثم سافر إلى صنعاء، ومنها إلى عائلته في محافظة ريمة.

corona-img corona-img

غياب الإحصائيات

يعترف يوسف الحاضري، المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة العامة والسكان التابعة لسلطة الحوثيين، بوجود حالات هروب من المحاجر الصحية التابعة للسلطة في صنعاء، من دون تحديد الأعداد بسبب غياب الإحصائيات. يقول الحاضري إنّ الجهات الأمنية أمسكت بحالات كثيرة بعد الإبلاغ عنها من قبل المواطنين، وتمّ توقيف عاملين بالمحاجر لتورّطهم في تسهيل عملية التهريب، ومحاسبتهم بحسب قانون الصحة العامة الذي قد تصل العقوبة فيه إلى السجن خمس سنوات أو غرامة تصل إلى ثلاثة ملايين ريال.

وتقول الدكتورة إشراق السباعي، المتحدثة الرسمية باسم اللجنة الوطنية العليا للطوارئ في الحكومة المعترف بها، إنّ اللجنة رصدت حالات هروب من مراكز العزل الوبائي والمحاجر الصحية، وقام فريق الرصد التابع للجنة بإلزامهم بالحجر المنزلي. وأرجعت سبب عدم عودة هذه الحالات إلى مراكز العزل والحجر الصحي إلى الحالة النفسية السيئة لهم.

corona-img corona-img

إجراءات غير كافية

إحدى قصص الهروب التي انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، لبسام سلطان (35 عاماً)، من محافظة تعز. أعلنت اللجنة الوطنية العليا للطوارئ أنّ بسام أُصيب بالفيروس في السادس من أيار/ مايو وتمّ وضعه في مركز العزل الوبائي بالمستشفى الجمهوري. "تعاملوا معي بوحشية وكأنّي ارتكبت جرماً، لم يتم إعطائي الغذاء وتكفّل أخي بشرائه لي من أحد المطاعم المجاورة". بعد ثلاثة أيام تمّ نقل بسام الى مركز شفاك الطبي، المخصص من قبل السلطات المحلية لعزل المصابين بكوفيد-19.

يقول بسام إنّه كان ينام من دون غطاء ولا يتمّ إعطاؤه الطعام الكافي، وإنّ إعلان اسمه كثاني إصابة بالفيروس بمحافظة تعز أدى إلى تعرضه وعائلته للسب والشتم من العامة. بعد ثلاثة أيام، استطاع بسام الهرب بمساعدة أحد العاملين الصحيين في المركز. وأعلن مكتب الصحة العامة والسكان بمحافظة تعز خبر هروبه.

يقول عبد المغني المسني، المدير الفني للمركز، إنّ المعاملة القاسية التي اشتكى منها بسام كانت بسبب طبيعة التعامل معه من قبل الطاقم عبر أقنعة وكمامات وملابس واقية وعدم ملامسته ومطالبته بالبقاء بغرفة العزل من دون مرافق. ويضيف أنّ أيّ ادعاءات أخرى قالها بسام غير صحيحة وهي عبارة عن مبررات لهروبه. ويعترف أنّ حادثة الهروب لم تكن متوقعة وأنّ إجراءات الحراسة لم تكن كافية ما سهل هروبه.

"محاجر للابتزاز"

ظهرت حالات الهروب بشكل متكرر بحسب رصد مُعِدِّ التحقيق، ومنظمة سام للحقوق والحريات، وشهادة أربعة أعضاء من فرق الاستجابة، في خمس محافظات هي حضرموت عبر منفذ الوديعة، وصعدة والبيضاء وريمة والجوف. إضافة إلى رصد حالات هروب عرضية في أربع محافظات أخرى هي صنعاء وتعز وعدن وحجة. وتراوحت المبالغ المدفوعة في عمليات الفرار بين 200 و3000 ريال سعودي. وتنوعت أسباب الهروب بين الخوف من الإصابة داخل المحاجر الصحية بسبب عدم توفر الإجراءات الاحترازية، وبين خوف البعض من الانتقال في حال الإصابة إلى مراكز العزل الوبائي، بالإضافة إلى عدم توفر الخدمات الأساسية كالطعام وأماكن النوم ودورات المياه.

وقد وثقت منظمة سام للحقوق والحريات حالات هروب أكثر من أربعين شخصاً من المحاجر الصحية. رئيس المنظمة توفيق الحميدي يقول إنّ الحرب في اليمن و"غياب الدولة كمؤسسة قائمة بدورها" جعل الكثير من الإجراءات المعلن عنها لمواجهة الوباء غير فعالة. ويضيف أنّه في "رداع" -على سبيل المثال- لم يكن هناك محجر صحي بالمعنى الفني، فهو ليس إلّا فناءً كبيراً في كلية التربية والعلوم الإدارية، يتاح الدخول والخروج منه بسهولة. "من يدفع مبلغاً مالياً يمكنه الخروج. المحاجر كانت للابتزاز وجمع المال أكثر من الحجر".

يقول أحد راصدي منظمة سام للحقوق والحريات في محجر "رداع"، الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، إنّ المحجر استوعب أكثر من ثلاثة آلاف شخص، عانوا انعدام التموين الغذائي، وإنّ النساء لم يجدن أماكن مخصصة للنوم ودورات للمياه، وإنّ المحجر كان عبارة عن "سوق" يتردد عليه الباعة بشكل مستمر، مضيفاً "طبيعي جداً عندما تكون في مثل هذه الظروف، ولديك القدرة على الهرب، أن تهرب، خصوصاً وأنّ المكان كان مضراً أكثر من كونه نافعاً".

استعرضت المنظمة مع مُعِدِّ التحقيق صوراً وفيديوهات التقطها مقيمون في المحجر الصحي بمنطقة "رداع"، أظهرت نوم العشرات من الأشخاص في فناء الكلية، وبها شهادات مقيمين على عدم الحصول على وجبات غذائية بشكل مستمر، وشكوى المقيمين من عدم توفر أدوات الوقاية والاحتراز، وعدم نظافة دورات المياه، وأنّ الباعة المتجولين كانوا يدخلون إلى المحجر بشكل عشوائي.

الحجر الصحي في "رداع"

أحد أسباب الهروب كان الخوف من الانتقال إلى مراكز العزل الوبائي، بسبب ارتفاع أعداد الوفيات فيها. في مركز الأمل للعزل الوبائي، بمحافظة عدن، المخصص لعلاج مرضى كوفيد-19 سابقاً، استقبلت منظمة أطباء بلا حدود، العاملة في اليمن (بين 30 نيسان/ أبريل و31 أيار/ مايو) 279 مريضاً، توفي منهم 143 شخصاً. وكانت المنظمة قد تسلمت في السادس من أيار/ مايو وحتى نهاية تموز/ يوليو، إدارة مركز الأمل للعزل الوبائي من السلطة المحلية بمحافظة عدن بعد عجز الأخيرة عن احتواء الجائحة.
الدكتور زكريا القعيطي، مدير إدارة المنشآت الطبية والصحية الخاصة بمكتب الصحة بمحافظة عدن ومدير مركز العزل الوبائي بمستشفى الأمل، تحدث عن قصور في دعم المحاجر الصحية وتجهيزها مادياً ولوجستياً. وقال: "كانت هناك حالات هروب لمرضى من داخل المركز، بسبب الإهمال وفشل التنظيم والتخطيط داخل المركز، غالبية المرضى كانوا يأتون مشياً على الأقدام ويخرجون جثثاً هامدة، ولهذا ظهرت حالات الهروب".

قاعدة بيانات تفاعلية توضح الإجراءات الاحترازية الرئيسية التي اتخذتها الحكومات العربية لمواجهة كوفيد-19، وأعداد الإصابات والوفيات بكورونا والمتعافين منها في الدول العربية. للاطّلاع اضغط/ي هنا.

corona-img corona-img

السماح بالعودة

خرج أسعد البرعي (31 عاماً)، من منفذ الوديعة الحدودي مع السعودية برفقة أكثر من 45 شخصاً، عقب إعلان اللجنة الوطنية العليا للطوارئ فتح المنفذ موقتاً أمام العالقين على الحدود اليمنية السعودية، الذين بلغ عددهم 200 مسافر. وقالت اللجنة قبل فتح المنفذ إنّها انتهت من التجهيزات الطبية التي تتضمن مختبراً ووحدة عناية متوسطة وإنّ جميع العالقين سيخضعون للعزل الطبي قبل المغادرة إلى مناطقهم.

غير أنّ أسعد لم يشهد أيّاً من هذه التجهيزات. فعقب وصوله إلى المنفذ، قامت مجموعة من الجنود بأخذ جواز سفره وأوراق شخصية أخرى له ولمجموعة من المسافرين، وتمّت مرافقتهم إلى مجمع الطارق بمنطقة العبر بعد تحديده محجراً صحياً. طلب الجنود القائمون على المحجر الصحي من المحجورين الدفع مقابل الإقامة والحصول على الطعام، ما أثار موجة من التظاهر والاحتجاج أدت إلى قطع الطريق الرئيسية، حتى وصول أحد منتسبي اللواء (23 ميكا)، الذي أخبرهم بالسماح لهم بالمرور والعودة إلى مناطقهم وتسليمهم جوازاتهم والمستندات الخاصة بهم، من دون الخضوع للحجر الصحي. الحادثة موثقة بفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي وتبين قطع الطريق الرئيسي في منطقة العبر من قبل المحتجين والسماح لهم بالعودة إلى مناطقهم.

عدم الرد

تواصلنا مع الدكتور خالد المؤيد، مدير إدارة مكافحة الأوبئة في وزارة الصحة العامة والسكان بصنعاء، ومدير ميناء الوديعة البري مطلق الصيعري، ونائبه أحمد الجنيدي، للرد على أسئلتنا حول حالات الهروب، والأوضاع التي تمّ رصدها في مراكز العزل الوبائي والمحاجر الصحية في المحافظات والمنافذ البرية، وبعد محاولات عديدة لم يتم الرد علينا والتجاوب معنا للإيضاح.

corona-img corona-img

"ما حد يموت ناقص عُمُر"

وصل عبد الرحمن إلى منزله بمحافظة ريمة. كان خائفاً على عائلته من الإصابة بالفيروس بسببه. فكر بالعودة إلى أحد المحاجر الصحية القريبة من قريته، ولكنّه اكتشف أنّ المحجر لا تتوفر به وسائل الوقاية والاحتراز. وهو ما أكده ثلاثة أعضاء من فريق الاستجابة الطارئة في منطقة رماع بمحافظة ريمة. وقالوا له إنّ احتمالية استقبال حالة مصابة بالعدوى، قد يؤدي إلى إصابة الجميع بمن فيهم الكادر الطبي.

بين الخوف من الإصابة بالفيروس وسوء حال المحاجر الصحية الذي دفعه إلى الهرب، قرر عبد الرحمن البقاء في المنزل، تارة يتوجس أن يصيب الفيروس أحد أفراد عائلته، وتارة أخرى يتمتم "ما حد يموت ناقص عُمُر".

قاعدة بيانات تفاعلية توضح الإجراءات الاحترازية الرئيسية التي اتخذتها الحكومات العربية لمواجهة كوفيد-19، وأعداد الإصابات والوفيات بكورونا والمتعافين منها في الدول العربية. للاطّلاع اضغط/ي هنا.

corona-img corona-img corona-img corona-img