ARIJ Logo
lebanon map

حرمة المنزل وكورونا يحاصران نساء لبنان

جرائم العنف الأسري تتضاعف

تحقيق: زينب زعيتر

20/10/2020

مريم* شابة ثلاثينية هربت من شتائم وضرب زوجها إلى حبس شقيقها وتهديداته ببيع طفلتها ليصل بها الطريق إلى دار إيواء، وتتعرض اليوم لعنف جديد لعدم تمكنها من استصدار شهادة ولادة لطفلتها وتسجيلها في الأوراق الرسمية أو حتى الحصول على الطلاق القانوني، حين تعطلت المحاكم مع فرض قوانين الإغلاق المحكم (التعبئة العامة) لمواجهة انتشار فيروس "كورونا".

صمتت مريم سنة كاملة على التعنيف الجسدي واللفظي من زوج لا يعمل ويتعاطى حبوب "الكبتاغون" حتى لا تعود مطلقة بعد زواج أقبلت عليه بسبب الضغط النفسي الذي عاشته في منزل ذويها لأنّها "كبرت" ولم تتزوج -بحسب قناعات الأهل- كان عمرها آنذاك 27 عاماً.

وتقول: "طليقي كان يضربني بأيّ شيء يقع في يده، بكرسي الحديد أحياناً. ما تزال آثار الكدمات على جسدي، وكذلك علامات الضرب بحزام جلدي. كنت أصرخ من الوجع، ولم يكن يبالي" يمتد صمت مريم ثم تضيف: "لاحقاً صرت أخشى التواصل معه. أفضّل السكوت لأنّ أيّ حوار بيننا كان ينتهي بالصراخ والضرب وسجنني في المنزل".

انفصلت مريم عن زوجها بطلاق شفهي، وانتقلت مع رضيعتها إلى منزل والدتها المزدحم، حيث شقيقها وزوجته وأطفاله الثلاثة. وتحت وطأة الظروف الاقتصادية الخانقة، أصر شقيقها على ترك الطفلة لدى والدها مستخدماً أسلوب الحبس في الغرفة والتهديد ببيع الطفلة لعائلة محرومة من الأطفال، ومع خلافات الزوجية انقضت المهلة الإدارية لتسجيل الطفلة لدى مأمور النفوس.

المهلة القانونية لتسجيل الأطفال

يجب أن يتم التصريح بالولادة لدى مأمور النفوس خلال مهلة ثلاثين يوماً ليتمَّ قيدها في سجلات الأحوال الشخصية، بعد انقضاء هذه المهلة يبقى التصريح ممكناً مع دفع غرامة حتى مرور سنة على الولادة. بعدها لا يمكن التسجيل إلّا بقرار قضائي.

تتلقى مريم اليوم الدعم النفسي والاجتماعي والقانوني من منظمة "أبعاد" المعنية بالدفاع عن حقوق النساء، التي احتوتها وطفلتها في إحدى دور الإيواء التابعة لها.

العنف الأسري ارتفع بنسبة 87%
عدد الجرائم الأسرية المصرَّح عنها في أشهر تفشي كورونا
453
من نهاية شباط/ فبراير ولغاية أيار/ مايو من العام 2020
عدد الجرائم الأسرية المصرَّح عنها في نفس الأشهر من العام المنصرم
242
من آذار/ مارس ولغاية 30 حزيران/ يونيو 2019
chart 87%
معدل زيادة عدد الجرائم الأسرية المصرَّح عنها في أشهر تفشي كورونا بالمقارنة مع العام المنصرم
chart 47%
ارتفاع معدل جرائم العنف الأسري في الشهور الثلاثة الأولى من انتشار كورونا وقرار الحجر المنزلي في لبنان
*بحسب سجلات قوى الأمن الداخلي
corona-img corona-img
شكاوى لسيدات تعرضن للعنف الأسري

زمن الفقد

المختصة في علم النفس الاجتماعي والعيادي الدكتورة في الجامعة اللبنانية أنيسة الأمين تتحدث عما تسميه "زمن الفقد". فمفاتيح الحياة اليومية الطبيعية والتقليدية "فُقدت" بفعل الحجر، إضافة إلى فقدان العمل فضلاً عن الصراعات السياسية ما ينتج التوتر والعدائية والجهوزية لفتح باب العنف على مصراعيه.

وبفعل العزلة الاقتصادية يفقد الرجل إحساسه بالقوة و"الذكورة" التي غذّتها التربية المنزلية والثقافة السائدة والموروث الاجتماعي وهي الهالة التي يتمتع بها أمام زوجته. تقول الأمين: "العنف قد يسلك طريقين، بحسب بنية الشخص النفسية: فإمّا أن يرتد هذا العنف على الذات، ويعيش حالة من التبخيس والدونية وقلة الحيلة، أو أن يتوجه هذا العنف إلى الخارج القريب أي المرأة".

رانيا* تعرّضت للعنف على يد زوجها بأشكاله كافة، وصمتت في وجه هذا العنف إذعاناً منها للعادات والتقاليد ورواية "الصبر" التي ورثتها عن والدتها.

تروي أنّ خروج زوجها سابقاً من المنزل إلى عمله أو إلى أيّ مكان آخر كان بمثابة إبرة "مورفين". لكنّ فترة البقاء المطوّل في البيت جاءت بعد ذلك لتسهم في اشتداد العنف. وإدراكاً منها أنّه يتوجب على كل سيدة ألّا تسكت عن الظلم اللاحق بها، لجأت إلى جمعية "كفى" بحثاً عن المساعدة والدعم النفسي والاجتماعي وكذلك الاستشارة القانونية.

قصور قانوني

مقابل فقدان الحماية المجتمعية، يُفترض أن تكون الحماية القانونية ملجأً يقي النساء العنف. لكنّ الواقع مغاير لذلك، إذ ثمة قصور قانوني أسهم في زيادة وطأة العنف الأسري، خصوصاً في ظل كورونا والحجر المنزلي.

في لبنان، أُقر عام 2014 قانون يحمي النساء من العنف الأسري ويتميز بأنّه:

- لم يكن هناك قانون محدد يختص بالعنف الأسري، بعدما كانت هذه الجرائم تُصنف كجرائم من النوع الجنائي العادي.
- يعترف بالدرجة الثانية بحاجة السيدات المعرضات للعنف إلى الحماية وسبل الإنصاف القانونية.
- النص الذي يتيح للنساء الحصول على أمر حماية من الشخص المسيء.
- يدعو إلى إنشاء ملاجئ مؤقتة للناجيات من الإساءة.
- تخصيص نائب عام لتلقي الشكاوى والتحقيق في حالات العنف الأسري.
- إنشاء وحدات مختصة بالعنف الأسري بالشرطة اللبنانية المحلية للتعامل مع الشكاوى.

إلاّ أنّ القانون يحتوي على الكثير من الثغرات. إذ إنّه لا يُجرّم الاغتصاب الزوجي مثلاً، وتُصنّف جريمة قتل الزوجة أحياناً كـ "جريمة شرف".

تؤكد الأستاذة الجامعية والباحثة في مركز المعلوماتية القانونية الدكتورة هادية الشامي، أنّ عناصر التمادي في الجريمة الأسرية في زمن كورونا تعود إلى غياب الرادع، وتقصد به تحديداً إقفال المحاكم لفترة طويلة في زمن التعبئة العامة، ما أدى إلى عدم إحساس المعتدي بأنّ ثمة من يلاحقه أمنياً، وبالتالي إحساسه بالحرية التي تسمح له بارتكاب ما يشاء من تجاوزات. وفي زمن كورونا وفقدان المورد المالي، أصبح تكليف محامٍ أكثر صعوبة، وبذلك أحجمت الكثير من النساء عن متابعة قضاياهن في المحاكم، واكتفين بالتبليغ عن العنف فقط.

مسؤول مطّلع في قوى الأمن الداخلي- يرفض الكشف عن اسمه، لحساسية موقعه- يقول: "نسبة القلق ارتفعت ومعها تضاعفت الأمراض النفسية والضغوط المفروضة على المواطنين وبالأخص الرجال، الذين وجدوا أنفسهم في مواجهة تحت سقف واحد إلى جانب النساء، وظهر هذا العنف الخفي، الذي ترجمته التحقيقات الأولية لعدد من هذه الجرائم التي لا يمكن الكشف عنها".

ويؤكد المسؤول أنّ قطعات قوى الأمن كانت تتحرك تلقائياً فور ورود أيّ شكوى على الخط الساخن، "لم نتوقف عن العمل بل على العكس تضاعفت وتيرة العمل خلال كورونا، والأرقام بين أيديكم عن ازدياد نسبة العنف أكبر دليل على ذلك، وبدورنا كنا نقوم إمّا بتوقيف المدّعى عليه في حال كان هناك عنف متكرر أو تسطير محاضر تعهدات بحق المعتدين لعدم تكرار الفعل العنفي. وفي حال كان الجرم أكبر من مجرد اعتداء، فحتماً نحن -وبعد توقيف المعتدي- كنا ننتظر ادّعاء النيابة العامة للتحرك، وهذا إجراء قضائي".

corona-img corona-img corona-img corona-img

متى تتحرك النيابة العامة؟ متى يتحرك القضاء؟

تشرح قاضية معنية في جرائم العنف الأسري -ترفض الكشف عن اسمها لأنّها غير مخولة للحديث إلى الصحافة- الآلية المتبعة، وتشير إلى أنّ النيابة العامة تتحرك فوراً عندما تلجأ المعنّفة إلى المخفر لطلب الحماية، أو بمجرد تواصلها مع القوى الأمنية عبر الخط الساخن عند تبليغهم بأيّ ممارسة عنفية من قبل أحد أفراد الأسرة.

وتتابع القاضية: "حينها يتدخل الجهاز المعني في المخفر ويتمّ إحضار المعنّفة للإدلاء بإفادتها. وحالياً بسبب الزيادة الملحوظة في العنف الأسري، فإنّ النيابة العامة تتحرك فوراً حتى في ظل تعطل المحاكم أو عمل المحامين، وتعطي النيابة إشارتها غالباً إمّا بإحضار المعتدي وصولاً إلى حد توقيفه، وهذا ما حصل أكثر من مرة في العديد من الملفات التي استلمتها شخصياً".

هذه الإجراءات لم تكن متّبعة بالشكل المطلوب في الفترة الأولى من إقفال البلاد بسبب التعبئة العامة والإجراءات الصارمة خلال فترة الحجر، وهو ما جعل المحاكم مقفلة لفترة طويلة خلال هذه المدة، ليصدر بعدها قرار النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات رقم 68/ص/2020، ويتضمن إجراءات لحسن سير عمل النيابات العامة خلال فترة التعبئة العامة في منتصف شهر نيسان/ أبريل وبدء العمل به في أواخر الشهر، أي تقريباً بعد شهر كامل على تسجيل أول حالة كورونا في لبنان.

وجاء في نص القرار ضرورة الإيعاز إلى عناصر الضابطة العدلية بفتح محاضر فورية في جميع قضايا العنف الأسري، حتى في حالات الجرائم غير المشهودة. إضافة إلى عدم اشتراط حضور الضحية إلى مركز الضابطة العدلية للاستماع إلى إفادتها في حال أدلت بأنّها لا يمكنها الانتقال بسبب الأوضاع الصحية، وقيام المحامي العام الاستئنافي المختص بالاستماع إليها من قبله شخصياً أو من قبل الضابط العدلي المكلف بالتحقيق، عبر تقنية الفيديو كول أو بأيّ وسيلة يراها مناسبة.

corona-img corona-img

لبنان الخاسر اقتصادياً.. بالأرقام

تفيد أرقام وزارة العمل التي حصلنا عليها أنّ أكثر من 6500 عامل تمّ تسريحهم خلال الأشهر الستة الأولى من 2020، وهذا الرقم لا يعكس الواقع لأنّ بعض الشركات لا تصرّح بإغلاقها، والكثير من العمال المسرّحين لا يلجؤون إلى الوزارة للإبلاغ.

أفاد إحصاء للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بخروج 21 ألفاً و450 أجيراً من سوق العمل مع بدء الأزمة الفعلية لكورونا في لبنان، في حين تباطأت حركة التوظيف بنسبة 71%. وبحسب الصندوق المعني بضمان نهاية العمل، فإنّ 37.5% من الأجراء المصرّح بهم للضمان يعملون بأقل من مليون ليرة (نحو 661 دولاراً)، أي أقل من خط الفقر الأعلى المحدد بنحو 1.5 مليون ليرة (نحو 991 دولاراً)، في حين يعمل 86% بأقل من 3 ملايين ليرة (1983 دولاراً).

ومع انهيار سعر صرف العملة الوطنية؛ خسرت الرواتب أكثر من 80% من قيمتها، لا سيما أنّ للدولار ثلاثة أسعار صرف في البلاد، إذ يبلغ حسب السعر الرسمي 1510 ليرات، ووفق سعر المنصة الرقمية التي نظمها مصرف لبنان مع الصيارفة يبلغ 3800 ليرة، وفي السوق الموازية يتجاوز 8500 ليرة، ومن المرجح أن يرتفع أكثر.

تختصر ليلى* (أم لـ 4 أولاد) حالة العنف التي تتعرض لها، بترجمة فعلية للضائقة الاقتصادية التي تعيشها، فزوجها الذي كان يعمل في مجال تأمين العاملات الأجنبيات للمنازل، توقف عمله بسبب تفشي فيروس كورونا في لبنان، واضطراره إلى المكوث في المنزل لأكثر من 6 أشهر.

تقدّمت ببلاغ مؤخراً لدى إحدى المخافر وحصلت على تعهّد من زوجها رسمياً يقضي بعدم التعرّض لها وضربها، إلاّ أنّها ما تزال تجد في أسلوب عيش زوجها حجة لهذا العنف المستجد على حسب تعبيرها. تختصر ليلى وضعها بالقول: "قلة مالية وتعتير".

حالة ليلى هذه مماثلة لحالات سيدات كُثر رضين بالواقع الأليم لهن، حتى يبقين في منزل زوجي وإلى جانب أولادهن، بانتظار تبدّل الظروف للأفضل.

القلق العائم: عدو من نوع آخر

تقول الدكتورة أنيسة الأمين إنّ العنف مكوّن أساسي لدى البشر، يتمّ ترويضه بفعل الثقافة والتربية، غير أنّ العوامل الخارجية قد تولد طاقة زائدة تدفع إلى مزيد منه. يتقاطع البعد الشخصي هنا مع الأبعاد السياسية.

ففي جريمة بعقلين التي هزّت الرأي العام، حيث قتل مواطن زوجته ذبحاً وشقيقيْه ولبنانييْن و5 سوريين، تتحدث الأمين عما تسميه "القلق العائم". فالأجواء العدائية في لبنان مردها التوتر السياسي المستمر، الذي أُضيف إليه توتر أمني واقتصادي وضائقة حجر منزلي. ترى الأمين أنّ "القلق العائم من أصعب المراحل التي قد يصادفها الفرد. ففي الصراعات والحروب، الخطر مُعرّف ومُعيّن، لكنّنا اليوم إزاء حالة لا وجود فيها لعدو مباشر".

مع الجائحة وجد الناس أنفسهم أمام عدو مجهول يهدد حياتهم، يُشعِر الفرد بضعفه ويجعله صغيراً في عين نفسه، وهو ما يدفعه إلى تبخيس ذاته العاجزة. وهذا يفسح المجال أمام الاستسلام أو أمام انتهاج سلوك عنفي كثيراً ما تقع النساء ضحية له، على اعتبار أنّهنّ الحلقة الأضعف والأقرب إلى المعنف.

هي جائحة من النوع المستتر كما وصفتها مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة والمديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة فومزيلي موالمبو نكوكا، إذ بات الحجر يهدد السلام في المنازل.

* اسم مستعار

قاعدة بيانات تفاعلية توضح الإجراءات الاحترازية الرئيسية التي اتخذتها الحكومات العربية لمواجهة كوفيد-19، وأعداد الإصابات والوفيات بكورونا والمتعافين منها في الدول العربية. للاطّلاع اضغط/ي هنا.

corona-img corona-img corona-img corona-img