ARIJ Logo

صرف 40 ألف موظف سوري بقرارات إدارية تخرق الدستور

وصمة "الإرهاب" لقطع الأرزاق

تحقيق: حبيب شحادة

3/8/2020
شاهد/ي خلاصة التحقيق في أقلّ من دقيقتين

مادة قانونية واحدة صدرت بمرسوم رئاسي سوري في العام 2012 حوّلت عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين إلى عاطلين عن العمل، من دون أن يحصلوا على رواتبهم المتأخرة، أو مستحقات نهاية خدمتهم، والأخطر من ذلك أنّها وصمتهم بـ "الإرهاب". وعلى الرغم من أنّ تطبيق المادة بحد ذاتها يرتبط بصدور حكم قضائي قطعي مسبق، إلّا أنّ صلاحيات أخرى مُنحت لرئيس الحكومة، عبر مادة قانونية أخرى، تتيح له اتخاذ قرار بصرف الموظفين، جعلتها ذريعة لممارسة عقاب غير مبرر قانونياً.

هكذا فوجئ مدير مدرسة "نبع الصخر"، التابعة لمحافظة القنيطرة، محمد مطلق الدلي (56 عاماً) بأنّه لم يعد موظفاً حكومياً بعد 33 عاماً من الخدمة، فقد صدر قرار بتاريخ 22/6/2017 من رئيس مجلس الوزراء السابق (عماد خميس) يقضي بصرفه من الخدمة وإيقاف مستحقاته التقاعدية.

الدلي الذي صُرف بقرار إداري، في مخالفة واضحة للسلطة التنفيذية بتجاوزها السلطة القضائية، كان قد بقي على رأس عمله طيلة فترة خروج المحافظة عن سيطرة الحكومة بين عاميْ 2014-2018. وعلى الرغم من أنّ دائرة شؤون العاملين في مديرية تربية القنيطرة أكدت ذلك مراراً بكتب رسمية مُوجهة لوزارة التربية، لم تتمّ إعادة النظر في قرار فصله، ما اضطره إلى رفع دعوى قضائية لم يبت فيها حتى كتابة هذا التحقيق.

وبحسب مصدر رسمي في إدارة قضايا الدولة (رفض الكشف عن اسمه) فقد بلغ عدد قضايا الصرف من الخدمة المرفوعة في القضاء الإداري نحو 40 ألف قضية. أي أنّ هناك أربعين ألف شخص من الموظفين السابقين في الدولة الذين ينتظرون إنصافهم، بعد أن أصرّت الحكومة على التعامل معهم بوصفهم "إرهابيين".

المادة (143): القضاء الإداري، هو السلطة المختصة بالنظر في جميع المنازعات الناشئة عن تطبيق هذا القانون بما في ذلك الخلافات المالية الناجمة عن الأجور والتعويضات للعاملين وسائر المنازعات التي تنشأ بينهم وبين أيٍّ من الجهات العامة.

المادة (137): مع الاحتفاظ بأحكام قانون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش وأحكام قانون الجهاز المركزي للرقابة المالية: يجوز بقرارٍ من رئيس مجلس الوزراء بناءً على اقتراح لجنة مؤلفة من وزير العدل ووزير الشؤون الاجتماعية والعمل ورئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية صرف العامل من الخدمة وتصفّى حقوق العامل المصروف من الخدمة وفقاً للقوانين النافذة.

لا يسمح باستخدام العامل المصروف من الخدمة بموجــب الفقرة /1/ من هذه المــادة - وذلك مهمـــا كانت صفة هذا الاستخدام ـ إلّا بقرار من رئيس مجلس الوزراء يجيز ذلك.

يكشف هذا التحقيق أنّ الحكومة السورية خالفت نصوصاً في الدستور السوري وقانون العاملين الأساسي رقم 50 لعام 2004، والقانون 20 لعام 2012 الصادر بمرسوم تشريعي عن الرئاسة السورية، وذلك بصرف العاملين بشكل غير قانوني، وحرمانهم من مستحقاتهم التقاعدية، إضافة إلى رفع دعاوى ترك عمل على البعض منهم، ما أدى إلى تشريد الآلاف من الموظفين وتركهم من دون مصدر رزق.

مادة (1) من القانون (20)

يُسرّح من الخدمة كلُّ عامل أو موظف في الدولة أيّاً كان القانون الخاضع له، ويحرم من الأجر والراتب ومن كافة الحقوق التقاعدية من تثبت إدانته بحكم قضائي مكتسب الدرجة القطعية بالقيام بأيّ عمل إرهابي سواء كان فاعلاً أو محرّضاً أو متدخلاً أو شريكاً، أو لدى انضمامه إلى المجموعات الإرهابية أو تقديم عون مادي أو معنوي لهم بأيّ شكل من الأشكال".

عقاب سياسي

يؤكد على التعسف في استخدام المادة (1) من القانون (20) عضو مجلس الشعب محمد خير العكام الذي يرى أنّها "استخدمت بكثرة" منذ بداية الحرب في سوريا، داعياً إلى إحالة العاملين المصروفين من العمل إلى المحاكم المختصة.

بينما تصرّ رئيسة إدارة قضايا الدولة المستشارة هدى الصواف، على أنّ "المصروفين من الخدمة، وتحديداً من كانوا في المناطق المحاصرة، حصلوا على قرارات قضائية تمكّنهم من العودة إلى عملهم، واسترداد مستحقاتهم المالية وفق النصوص القانونية"، موضحةً، من جهة أخرى، أنّ من ترك عمله نتيجة الأحداث أُعيد إلى العمل، ومن سافر خارج البلاد حُكم عليه بالسجن لمدة شهر وصرف من الخدمة. لكنّها، وسريعاً، تعود لتعترف بأنّه ربما يكون هناك ظلم قد وقع بالفعل على العاملين في المناطق المحاصرة.

وفقاً لمدير إدارة التشريعات الوظيفية في وزارة التنمية الإدارية غياث فطوم، فإنّ أسباب قرارات الصرف من العمل كانت "سياسية". يوضح ذلك بالقول: "يُصرف العاملون من دون ذكر الأسباب الموجبة لذلك، ولا يمكن إعادتهم إلّا بقرار موقّع من رئيس الحكومة حصراً. ما يعتبر حرماناً من الوظيفة العامة بلا مسوّغ قانوني".

إنّها إذن قرارات تعسفية غير مُعلّلة، على خلاف ما يجب أن تكون عليه القرارات الإدارية، وفقاً لما يقوله المستشار القانوني بشير عز الدين. والأمر يتعدى ذلك إلى ما يشكل مخالفة دستورية واضحة، إذ يلفت عزالدين إلى أنّ ربط إعادة العامل المصروف من الخدمة بموافقة رئيس الحكومة هو حرمان من حق دستوري يؤكد أنّ جميع المواطنين متساوون في تولي الوظائف العامة، بحسب ما جاء في المادة 26 من الدستور.

مواصلة الدلي عمله خلال سنوات سيطرة الفصائل المسلحة على محافظته (القنيطرة) كانت بموافقة من اللجنة الأمنية فيها والمحافظ، فقد طُلب من جميع المدرسين في المحافظة الاستمرار في عملهم. يشير الدلي إلى أنّ نحو سبعين مدرّساً في المحافظة تمّ صرفهم من الخدمة مثلما حصل معه، وأنّ سبب صرفه يعود إلى تقارير كيدية من قِبَلِ "حزبيين" في بلدته (أي منتسبين إلى حزب البعث الحاكم في سوريا) تتهمه بالقيام بأعمال ضد الدولة، والانتماء إلى فصيل إرهابي، تمّ تحويله على إثرها إلى محكمة الجنايات. يقول ساخراً: "بعد خدمة لمدة 33 عاماً أصبحت إرهابياً!". وبانتظار أن ينصفه القضاء يعتمد الدلي اليوم على العمل الزراعي "غير المجدي" وفقاً لتعبيره، في تحصيل دخل متواضع ينفق منه على أولاده الثمانية الذين ما زالوا على مقاعد الدراسة.

يشمل هذا التحقيق عيّنة من 12 حالة لأشخاص كانوا يعملون في جهات حكومية مختلفة، وحُرِموا من مستحقاتهم وحقوقهم التي تكفلها القوانين.

icon bag
الوظيفة
icon pin
مكان العمل
icon
التهمة
icon
مآل القضية في القضاء
سامر عزت
icon bag
مدرّس
icon pin
القنيطرة
icon bag
لا يوجد
icon bag
منظورة أمام القضاء
علاء
icon bag
مدرّس
icon pin
دوما
icon bag
ترك العمل
icon bag
مرفوع عليه دعوى في القضاء الجزائي بتهمة ترك العمل
محمود
icon bag
مدرّس
icon pin
القنيطرة
icon bag
لا يوجد
icon bag
منظورة أمام القضاء
نضال
icon bag
مهندس
icon pin
السويداء
icon bag
لا يوجد
icon bag
صرف مستحقاته بنسبة 25% وعدم إعادته إلى العمل
ثائر
icon bag
مدرّس
icon pin
القنيطرة
icon bag
لا يوجد
icon bag
منظورة أمام القضاء
سميرة
icon bag
موظفة
icon pin
السويداء
icon bag
وهن نفسية الأمة
icon bag
صرف 25% من مستحقاتها
ماهر
icon bag
عامل
icon pin
زراعة دير الزور
icon bag
لا يوجد
icon bag
منظورة أمام القضاء
مروان
icon bag
موظّف
icon pin
شركة الفرات للنفط
icon bag
لا يوجد
icon bag
منظورة أمام القضاء
هيفاء
icon bag
مُدّرسة
icon pin
السويداء
icon bag
لا يوجد
icon bag
صرف 25% من مستحقاتها
شادي
icon bag
مدرّس
icon pin
السويداء
icon bag
وهن نفسية الأمة
icon bag
لم يرفع دعوى
محمد الدلي
icon bag
مدير مدرسة
icon pin
القنيطرة
icon bag
لا يوجد
icon bag
منظورة أمام القضاء
أحمد مروى
icon bag
موظف
icon pin
دير الزور
icon bag
لا يوجد
icon bag
لم يرفع دعوى

31 شكوى فقط في مجلس الشعب

بتهمة أخرى هي "الانقطاع عن العمل" تمّ صرف المدرّس علاء (50 عاماً)، من مدينة دوما، من الخدمة وإحالته إلى القضاء الجزائي، على الرغم من أنّه لم يترك عمله في الواقع. دوما وقعت تحت سيطرة "جيش الإسلام" وتمّت محاصرتها لثلاث سنوات، لم يغادر فيها علاء المدينة مرة واحدة لاستلام راتبه، خشية اعتقاله من قبل الأجهزة الأمنية، بحسب ما يقول. وبعد أن استعاد الجيش السوري المدينة ذهب إلى مديرية تربية ريف دمشق كي يحصّل رواتبه عن تلك السنوات، ليُفاجَأ بقرار فصله.

جرم ترك العمل في القانون السوري تنظمه المادة (364) من قانون العقوبات.

كل من قبل عملاً لدى الدولة أو إحدى مؤسساتها العامة بموجب صك تعيين صادر عن تلك الجهة، ويتقاضى أجراً لقاء هذا العمل يعتبر حكماً في عداد العاملين في الدولة، وعليه الالتزام بقواعد وأصول النظم والقوانين، والتقيّد بما يصدر عن الجهة التي التزم التعيين فيها.

إذ يعاقب القانون بالحبس من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات، وبغرامة لا تقلّ عن الراتب الشهري مع التعويضات لمدة سنة كاملة، كل من ترك عمله أو انقطع عنه في أيّ جهة من جهات القطاع العام أو المشترك قبل صدور الصك القاضي بقبول استقالته، وكذلك كلّ من اعتُبر بحكم المستقيل لتركه العمل أو انقطاعه عنه مدة خمسة عشر يوماً.‏

لجأ بعض المتضررين من هذه القرارات إلى مجلس الشعب (البرلمان) لتقديم شكواه، لكن منذ العام 2016 لم يتجاوز عدد هذه الشكاوى 31 شكوى يطالب أصحابها بإعادتهم إلى العمل وإلغاء قرار الصرف. ويفترض أن تقوم اللجنة بمتابعتها مع رئاسة الحكومة، ومع الجهة الإدارية المختصة، بحسب رئيسها عبود الشواخ.

لكن، وفقاً لرئيس مكتب الشكاوى في المجلس نبيل ناجي فإنّه "لم يأتِ أيّ رد حيال هذه الشكاوى سواء كان لجهة إعادة العامل أو عدمه". ويقول ناجي: "هناك من يأتينا بقرار قضائي مُلزم بإعادته للعمل لكنّه غير مُنفّذ، فنقوم بطلب تنفيذ القرار من رئاسة مجلس الوزراء، أو من جهة العامل المصروف. ويتمّ تنفيذ القرار".

ويُرجع المحامي رضا حيدر انخفاض عدد الشكاوى المُقدمة لمجلس الشعب إلى "انعدام الثقة به"، ولكون غالبية الناس تعلم ألّا نتيجة من وراء الشكوى.

تهمٌ غائمة

الصرف من الخدمة لم يكن مقتصراً على العاملين في المناطق الساخنة أو تلك التي كانت محاصرة. سميرة نوفل (53 عاماً) موظفة في مديرية استصلاح الأراضي في السويداء، صُرفت من الخدمة، بعد 28 عاماً من العمل الحكومي، بتهمة "إضعاف الشعور القومي والمس بهيبة الدولة، ووهن نفسية الأمة". تقول "قرار الصرف لم ينص على سبب واضح، لكنّ قرار المحكمة الإدارية نصّ على تلك التهم". رفعت سميرة دعوى لدى القضاء الإداري بالسويداء، وحصلت على حكم ببطلان التهم المنسوبة إليها، وتعويضها بـ 25% من قيمة راتبها عن الفترة التي أُوقفت فيها عن العمل، وإعادتها إلى عملها. لكنّ إدارة قضايا الدولة طعنت في القرار وحوّلت قضيتها إلى المحكمة الإدارية بدمشق، التي حكمت لها بقرار يؤكد على صرف مستحقاتها التقاعدية. غير أنّ جهة عمل سميرة رفضت تنفيذ القرار القضائي.

يعبّر عضو مجلس الشعب العكام عن انزعاجه من تهم كالتي وُجّهت لسميرة، ومن الطريقة التي يُدار بها ملف "الصرف من الخدمة"، الذي "يجب أن يُدار عبر القضاء المختص فقط، وليس عبر رئيس مجلس الوزراء"، مؤكداً أنّه يجب على الحكومة احترام سيادة القانون ومبدأ الفصل بين السلطات، وتنفيذ الأحكام القضائية.

ويشدد المحامي حيدر على أنّ "عدم صرف المستحقات التقاعدية ضمن قرار الصرف مخالف للقانون"، وأنّ من يفعل ذلك مستغلاً منصبه، يمكن للعامل المصروف رفع دعوى عليه، وهي مخالفة لها عقوبة جزائية تعرّض المسؤول للحبس. لكنّ الوقائع تبيّن أنّ أيّاً من العاملين المصروفين لم يرفع دعوى من هذا النوع على أيّ مسؤول، باستثناء سميرة التي ادّعت على مديرها وعلى وزير الزراعة بشخصهما، لكنّ النتيجة كانت معروفة سلفاً، إذ لم تغير الدعوى شيئاً في مآل قضيتها، ولم يتمّ حبس أيٍّ منهما.

أمور سرية

يقرّ عضو مجلس الشعب العكام بأنّ المادة (137) قد أُسيء استخدامها، إذ تمّ صرف العديد من العاملين لأسباب لا علاقة لها بأداء الموظف، لافتاً إلى أنّ العامل حتى لو كان مرتكباً لجُرمٍ فيجب إحالته للقضاء للبت في أمره، لا أن يُترك القرار للسلطة التنفيذية كما يحدث اليوم.

أما المستشار القانوني عز الدين فيرى أنّ إنصاف المصروفين يكون عبر تعديل النص "غير الدستوري" في المادة (137)، "الذي يحرم القضاء من بسط رقابته على الإدارة العامة"، لكنّ ذلك يحتاج إلى "جرأة" من مجلس الدولة بحسب ما يقول.

أسئلة كثيرة أثارها هذا التحقيق توجّهنا بها إلى رئاسة الحكومة، التي رفض مكتبها الصحفي، طيلة شهرين، إحالتها إلى الأشخاص المخولين بالإجابة عنها، ليحسم بعد ذلك مديره مرشد ملوك المسألة بقوله إنّ: "كلّ هؤلاء المفصولين من العمل مسلّحون وعليهم قضايا أمنية"، وهذا أمر يناقض حقيقة كل الحالات التي وثقها التحقيق.

أما وزارة التربية -أكبر جهة حكومية تعرّض موظفوها للصرف- فامتنعت عن الإجابة على أسئلتنا، وبرّر وزير التربية عماد العزب ذلك بالقول إنّ: "المعلومات ضمن الأسئلة المُقدمة في حال أجبنا عليها لا يمكن أن تُنشر، وقرارات الصرف من قِبلنا هي أمور سرية يجب ألّا تنشر أيضاً".