ARIJ Logo

4 محكومين ينتظرون الإعدام أو معجزة

حبل المشنقة وتعسّف القانون

يلتفّان على رقاب أطفال سودانيين

السودان- نور الدين جادات

26/08/2021

إنّه منتصف العام 2017. يلتقط محمد نور (51 عاماً) هاتفه فيأتيه صوت ابنه عباس:

أبي، لقد بدأت إدارة السجن بإجراءات إعدامي. قاموا بقياس عنقي ووزني. غداً يقومون بتنفيذ الحكم بزميلي فضل المولى، وبعده سيتمّ إعدامي.

منتصف العام 2021، وما يزال عباس و4 من زملاء السجن ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام بسبب "جرائم" أُدينوا بارتكابها وهم دون الثامنة عشرة من العمر في مخالفة صريحة لقانون الطفل السوداني لعام 2010.

مدثر وفضل المولى وأحمد جبريل وعباس محمد نور، يواجهون أحكاماً وفقاً للمادة (130-القتل العمد) تصل عقوبتها إلى الإعدام، رغم كل الجهود المبذولة لإنقاذهم، وذلك بعد أن قضوا سنوات طويلة -أمضى بعضهم 14 عاماً- خلف القضبان، في ظروف قاسية وأماكن احتجاز مع البالغين.

تعود قصة عباس إلى يوم 27 آب/ أغسطس 2013، حين أُحيل إلى قسم الشرطة في مدينة رفاعة بولاية الجزيرة وسط السودان، وأُودع الحراسة المشددة بعد تسببه في وفاة أحد أقرانه، طعناً بسكين جراء مشاجرة في الحي. مثُل عباس أمام المحكمة، وهو بعمر السادسة عشرة في صبيحة السابع من كانون الثاني/ يناير 2014. وفي تسارع للأحداث تمّت إحالته إلى محكمة الاستئناف بتاريخ 2 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، لتطالب محكمة الاستئناف بمعاملته كبالغ، ويُحكم عليه بالإعدام.

"هذه واحدة من أغرب القضايا التي مرّت على المحاكم السودانية لما رافقها من تجاوزات وظلم كبير جداً"، يقول عضو مركز "الإنصاف للدفاع عن حقوق الإنسان" في الخرطوم، المحامي طه فضل طه الذي يتولى الدفاع عن عباس والأطفال الآخرين.

ويوضح طه: "ارتكب عباس مخالفة للقانون وهو بعمر الخامسة عشرة، وحكمت عليه المحكمة بعد عام من سجنه بالإعدام شنقاً حتى الموت في مخالفة للقوانين المحلية والعالمية".

منذ ذلك الوقت وأسرة عباس لا تدخر جُهداً لإنقاذه، ويقول الوالد "القضية تعود إلى شجار نشب بين عباس وصديقه أثناء لعب كرة القدم في أحد أحياء مدينة (وَدْ مَدَنِي) وسط السودان. اشتدت المشاجرة وسدد عباس طعنة لصديقه الذي فارق الحياة. تمّ اقتياد عباس إلى قسم الشرطة ومنه إلى المحاكمة".

صورة عباس يوم ارتكابه الجريمة

خضع عباس لمحاكمة أولية طالبت بنقله إلى دار التدبير "الإصلاحية". ولكن في كانون الثاني/ يناير 2016، حُوِّلت القضية لمحكمة استئناف ولاية الجزيرة التي أصدرت قرارها بإلغاء حكم محكمة الموضوع، واعتبار عباس ذي الخمسة عشر عاماً رجلاً بالغاً، وهي نقطة تحول في مسار القضية وضعت عباس وجهاً لوجه مع عقوبة الإعدام لأول مرة وعاملته باعتباره بالغاً.

الخطوة التي أقدمت عليها محكمة الاستئناف فسرتها لاحقاً المحكمة القومية العليا -الدائرة الجنائية في قرارها رقم 355/ 2014- الذي ذكرت فيه نصاً:

"أخذت المحكمة القومية العليا بعد صدور قانون الطفل لسنة 2010، الذي جعل في مادته الرابعة سن البلوغ بتجاوز الثامنة عشرة، وقد قررت المحكمة العليا في سوابق حديثة أنّ تعريف الشخص البالغ الوارد في النص (3) من القانون الجنائي لسنة 1991 هو الصحيح والواجب التطبيق، ذلك أنّ القانون الجنائي مأخوذ من أحكام الشريعة الإسلامية التي تعتمد في تحديد البلوغ وسنّ التكليف بظهور علامات البلوغ الطبيعية".

تجاوزات ومُناصرة

قرارات الإعدام التي صدرت بحقّ الأطفال الأربعة بين الأعوام 2013-2019، دفعت منظمات حقوقية إلى إطلاق حملة "لا لإعدام الأطفال" وتنفيذ وقفات احتجاجية متتالية أمام مقرّ رئاسة القضاء في الخرطوم، بينما كانت المحاكمات تُجرى داخل القاعات. وفي المحصلة، فإنّ الحملات الداعية إلى وقف قرارات إعدام الأطفال، نجحت في فك القيود عن أقدام الأطفال وأيديهم وهم داخل الزنازين، أسوة بباقي المحكومين بالإعدام، إذ ينصّ قانون العقوبات السوداني على تقييد المحكومين إلى حين تنفيذ الحكم.

"لا لإعدام الأطفال"، وجمعيات حقوقية سودانية أخرى، وضعت آمالها على المحكمة الدستورية -أعلى سُلطة قضائية في البلاد- لتصويب الحكم، لكنّ المحكمة كان لها رأي مختلف. يقول طه: "صدر الحكم بموجب قانون لا يسنده أي منطق. قدمنا طعناً للمحكمة الدستورية لإنصاف عباس لكنّ المحكمة الدستورية شطبت الطعن بحجة أنّها غير مختصة، بالرغم من أنّها وفي كل أحكامها السابقة كانت تذكُر أنّها مُختصة. وبناءً على هذا الاختصاص، أصدرت عدداً من الأحكام السابقة، التي أمرت فيها بتطبيق قانون الطفل في قضايا مشابهة وألغت عقوبة الإعدام، لكنّها في هذه القضية حادت عن مذهبها الذي تتبعه ورأت أنّها غير مُختصة". وللعلم فإنّه يحقّ للقضاة أن يجتمعوا ويرفضوا الطعن إذا رأوا مبررات قانونية لذلك.

ويقول محمد نور: "عباس (ابنه) أخبرني أنّه تمنّى الإعدام في أقرب وقت عوضاً عمّا يعيشه من عذاب وترقّب. في كل مرة أُحدثه يردد لي عبارة: احتمال ده يكون آخر يوم لي يا بوي".

المحكمة الدستورية- تصوير خارجي

والد الطفل فضل المولى يروي قصة ابنه: "خلال هذا العام يكون ابني فضل قد قضى في السجن 14 عاماً، تمّ تجهيزه مرتين لتنفيذ إعدامه، وهو يعيش في توتر وقلق. على الرغم من ذلك خاض امتحان شهادة الأساس هذا العام من داخل السجن".

فضل الذي ارتكب فعلته بعمر الخامسة عشرة في عام 2012 أُحيل إلى المحاكمة، لكنّ إدارة السجن الكبير وسط السودان رفضت استلامه، لأنّه طفل على ما يوضح الوالد. ويضيف: "في العام نفسه تمّ تحويله لدار التدبير الإصلاحية بالخرطوم، قبل أن يعود إلى سجن مدني وهو محكوم عليه بالإعدام. ومنذ ذلك الوقت، وهو يعيش حالة هلع بسبب حبسه في السجن العام مع البالغين، إضافة للمعاناة التي نعيشها من تكاليف مالية، إذ يحتاج مبلغ 30 ألف جنيه (60 دولاراً) شهرياً كمصاريف داخل السجن، واضطررت لترك العمل بسبب المحاكمات المستمرة، وإجراءات الصلُح التي لم تتم".

ولتفسير هذه النقلة المفصلية في مسار القضية، أي معاملة الأطفال كبالغين، يقول القاضي السابق والمستشار في القانون الدولي الدكتور عمر إبراهيم كباشي:

"أحكام إعدام الأطفال صاحبها لغط كبير في فهم قانون الطفل الصادر في عام 2010 لجهة تعريف سنّ الطفل بما لا يجاوز 18 سنة، وأدى ذلك إلى تبني رأي بالمحكمة العليا الذي يرى أنّ قانون الطفل مخالف لأحكام الشريعة الإسلامية. وهناك رأي آخر لا يرى ذلك. وتمّ حسم الموضوع بصدور سابقة المحكمة الدستورية رقم 2013/51 التي قررت صحة سنّ الطفل الوارد في قانون الطفل، وألغت حكماً بالإعدام على طفل. وقررت أنّه لا يخالف الشريعة الإسلامية. ومن هنا نرى ضرورة الرجوع لسوابق دائرة المحكمة العليا ببورتسودان شرقي السودان، وهي ما تُعرف محلياً بسوابق (ملاسي) المبنية على دراسة أعدها ثلاثة من الخبراء القانونيين في مجال الطفولة، وهم الدكتورة أميمة عبد الوهاب والدكتور مصطفى عبود وأنا".

وبالبحث عن سوابق قضائية لنفس قُضاة المحكمة الدستورية الذين أصدروا حكم الإعدام بحقّ هذه المجموعة من الأطفال، وجدنا أحكاماً بعدم جواز إعدام من هم دون الثامنة عشرة. ففي العام 2013، حسمت المحكمة الدستورية التعارض بين قانون الطفل لسنة 2010، والقانون الجنائي لسنة 1991 إذ أكدت في أحكامها الواردة في قضية (ن.ق المحكمة الدستورية - النمرة /م د/ ق د/18/2005م)، عدم جواز تطبيق عقوبة الإعدام.
وكذلك في قضية الطفل (م.د/ ق.د/ 2018) وفي قضية الطفل (س.ن)، تَقرر ألّا يعاقب أحد بالإعدام وهو دون سن الثامنة عشرة حتى في جرائم الحدود والقصاص، نظراً لأنّ القانون المطبق هو قانون الطفل لعام 2010 وليس القانون الجنائي لعام 1991.

لكن يبدو أنّ بعض القضاة يرون أنّ "قانون الطفل مخالف للشريعة الإسلامية وأنّ تحديد الأهلية يجب أن يكون بسنّ البلوغ وليس عبر تحديد العمر"، يقول مدير معهد حقوق الطفل، ياسر سليم شلبي، متحدثاً عن "الأجواء التي تصدر فيها أحكام الإعدام بحق الأطفال". ويتابع قائلاً: "رغم النقلة التي حدثت في قانون الطفل لعام 2010 بالنص الواضح الذي يُعرّف الطفل بأنّه أيّ شخص دون الثامنة عشرة من العمر، إلّا أنّ عدداً من القضاة لهم رأي آخر".

ويضيف سليم: "في بعض الدورات التي أقامها معهد حقوق الطفل للقضاة، وجدنا البعض يرفض بشكل قاطع إعدام الأطفال، لكن في المقابل يصدرون أحكاماً بالإعدام على من هم دون سنّ الثامنة عشرة. وعندما تناقشهم يقولون إنّ هؤلاء ليسوا أطفالاً بل رجالاً بالغين. نذكر لهم أنّ بعض مؤسسات الدولة كالقوات المسلحة، لا تقبل من هم دون الثامنة عشرة، وكذلك رخصة القيادة لا يتمّ منحها لمن هم دون هذه السن، لكنّهم يتشبثون بموقفهم".

وكانت منظمة اليونيسف قد أصدرت تعميماً بعد صدور أحكام الإعدام بحقّ الأطفال، وصفت فيه الحُكم بأنّه تجاوز خطير للمواثيق الدولية. تهاني المبشر، مسؤولة دائرة الطفل بمنظمة اليونيسف، أعربت عن قلق شديد حيال هذه الأحكام، وقالت: "علمنا بصدور قرار من المحكمة الدستورية يؤيد حكم الإعدام على أطفال، وبعد بحثنا وجدنا أنّ عباس ارتكب الجرم وصدر في مواجهته الحُكم وهو بعمر 15 سنة وبضعة شهور بمعنى أنّه لم يكمل 16 عاماً من عمره، بعد ذلك بدأنا مع عدد من الناشطين في مجال حقوق الطفل بالتحرك في القضية".

يُذكر أنّه في العام 2019، وبعد سقوط نظام الإسلاميين في السودان، الذي عُرف بتشدده، حدثت تغييرات جذرية في عدد من القوانين، على ضوئها أجازت وزارة العدل تعديلات في عدد من القوانين المحلية، بينها إزالة التعارض بين القانون الجنائي وقانون الأسرة والطفل، وهو من مطالبات الجمعيات الحقوقية.

ولم يتمكن المحكومون من الاستفادة منها، لأنّهم سبق أن أكملوا جميع درجات التقاضي، وصولاً إلى المحكمة الدستورية، وبعد صدور حكمها يصبح قرارها واجب التطبيق.

وتشير اللجنة الدولية لحقوق الطفل في جنيف في آخر تقرير عام لها، إلى أنّها تشعر بقلق "إزاء تقارير صدرت مؤخراً مفادها أنّ أحكاماً بالإعدام ما تزال تصدر بحق أطفال". وتذكّر اللجنة الدولة الطرف، بأنّ تطبيق عقوبة الإعدام بحق الأطفال، يشكل انتهاكاً خطيراً للمادتين 6 و37 (أ) من الاتفاقية.

ويتحدث عثمان شيبة، الأمين العام للمجلس القومي لرعاية الطفولة، بالأرقام لأول مرة، قائلاً: "قمنا بعمل إحصاء في العام 2019 لعدد الأطفال الذين يواجهون المادة 130 التي تقود للإعدام، ووجدنا أنّ عددهم يقارب 100 طفل، 20 منهم تمت تسوية قضاياهم مع أسر الضحايا وتمّ الإفراج عنهم، بينما يواجه 80 منهم المادة 130 ويفترض أن يستفيدوا من التعديل الجديد، لكن نستطيع القول إنّ أحكام الإعدام بحق الأطفال صارت من الماضي".

عضو هيئة الدفاع عن الأطفال، المحامي طه، لم يكن متفائلاً بالتعديلات التي تمّت على القانون الجنائي، مفصلاً ذلك في قوله: "نشكك كقانونيين في أنّ تعديل التعارض في القانون الجنائي يمكن أن يوقف أحكام إعدام الأطفال، لأنّ قانون الأسرة والطفل كان موجوداً لحظة صدور الأحكام بحقهم، وما تمّ هو عملية تجاوز للقانون، التجاهل ذاته يُمكن أن يحدث الآن مع تعديل القانون الجنائي، وتصدر أحكام بإعدام أطفال آخرين. المشكلة الحقيقية تكمُن في أنّ بعض القُضاة يرون أنّ قانون الطفل مُخالف للشريعة الإسلامية لذلك يتغاضون عن تنفيذه بخلفياتهم الأيديولوجية".

وكان للداعية الإسلامية وعضو البرلمان السوداني السابق، الدكتورة عائشة الغبشاوي رأي حول ما يُثار من مخالفة قانون الطفل للشريعة الإسلامية، وما يصدره القُضاة من أحكام. فقد ذكرت في الدليل الذي أعده معهد حقوق الطفل بالتعاون مع اليونيسف ما يلي: "إنّ الفقيه شمس الدين السرخسي قد أورد أنّ الإمام أبو حنيفة، قد قدر رواية سنّ تقدير الغلام بثماني عشرة سنة، وفي الرواية الأخرى تسعة عشر عاماً، وهو الأصح. وقد فصل ابن نجم من فقهاء الحنفية في كتابه (الأشباه والنظائر صفحة 306): هو جنين ما دام في بطن أمه، فإذا انفصل ذكراً فصبي إلى البلوغ، فغلام إلى تسعة عشر عاماً".

عثمان شيبة يرسم طريقاً آخر لإنقاذ الأطفال الأربعة، ويقول: "كل مراحل التقاضي وظلّ وضعهم قائماً بأن يتمّ إعدامهم، لكن نحن نتطلع ونعمل مع أولياء الدم والضحايا للمضي في اتجاه العفو والتسوية أو الدية لتسوية القضية".