عشرون متراً هي المسافة الفاصلة بين حياة الطفلة أسماء (تسعة أعوام)، وموتها في 20 نيسان/ أبريل 2019. وعشرون متراً هي المسافة التي يعبرها يومياً مئات السوريين بحسب "هيومن رايتس ووتش"، هرباً من المعارك في المناطق الشمالية الغربية إلى الداخل التركي، بحثاً عن أمان مؤقت لأطفالهم، يدفعون لأجله ما تبقى من مدخراتهم أو ما تجود به جيوب أقاربهم.
لكن قلة تصل إلى المكان المنشود بعد رحلة شاقة محفوفة بالموت والسلب والنهب والابتزاز. آخرون يتعرضون للاعتقال، ويعذبون ويهانون، ليعودوا إلى إدلب من جديد، ومن تبقى منهم يكون مصيره الموت أو الإصابة.
كانوا ينظرون إلينا من فوق الجدار، تقول أم أسماء، وهي تروي قصة قتل عناصر حرس الحدود الأتراك طفلتها. الضوء الصادر من الكشاف الذي يحملونه حجب عنها رؤية وجوههم، هم يرونها على بعد عشرين متراً من الجدار. الرصاص طالها في الأراضي السورية هي وعائلتها وعائلة أخرى.
أصيب أطفالها وأصيبت الأم وقتلت أسماء. أحد الشبان حاول التحدث مع حرس الحدود باللغة التركية، طالباً منهم السماح له بإسعاف المصابين، وافقوا. وعندما همّ بحمل الطفلة المصابة، فتح الجنود النار مرة أخرى، ليقتل الشاب فورا، وسط صراخ العائلات والأطفال.
لأكثر من ربع ساعة كانت رشقات النار تملأ المكان، ولنحو ساعتين بقيت العائلتان تنتظران وصول من يسعفهما. أخت أسماء في حالة حرجة، أما باقي العائلة التي فقدت الأب، فقد أصيبوا في مناطق متفرقة من أجسادهم.
وثق معد التحقيق 21 حادثة، قتل فيها سوريون حاولوا عبور الحدود السورية التركية، بصورة غير شرعية، بينهم أربعة أطفال.
تتبع معد التحقيق خط سير تهريب سوريين على الحدود السورية التركية، عبر ثلاث نقاط انطلاق تتحكم بها جبهة تحرير الشام، هي حارم، والعلاني، ودركوش. تبدأ رحلة التهريب عبر قطع وصل بمبلغ 50 دولاراً يتقاسمها مكتب الهيئة ومندوب معتمد منها.
أنشأت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) أواخر العام 2015 ما بات يعرف بـ"مكتب أمن الحدود"، التابع لما يسمى بـ"قطاع الحدود"، لتنظيم عمليات التهريب إلى الداخل التركي على طول الحدود السورية التركية.
ويصف أبو جهاد، أحد عناصر أمن الهيئة، الحواجز بأنها لتنظيم أمور التهريب، وحماية المدنيين من المهربين المنتشرين في المنطقة.
وبحسب أبو أحمد، أحد المهربين، يتراوح عدد العاملين في التهريب بين 2000 و3000 عامل معظمهم من القرى المنتشرة على الشريط الحدودي، التي تحوّل أبناؤها للعمل في التهريب سواء لتأمين البيوت قبل الرحلة، أو للعمل كأدلاء للراغبين بالمرور إلى تركيا.
ومع انتشار حوادث القتل والسلب والنصب والإساءة للنساء، عمدت الهيئة بحسب أبو جهاد، إلى تنظيم جداول بأسماء الأشخاص للمرور عبر هذه القرى، يتحمل بموجبها المهرب مسؤولية من معه من الأشخاص ويحاسب في حال ورود أي شكوى على عمله، بينما تنتهي مسؤوليته بعد تجاوزهم الحدود، كذلك في حال عدم وجود الاسم في القوائم فيتعرض المهرب للمحاسبة.
توحي الإجراءات المتبعة بالراحة والتنظيم، إلا أن ما تقوم به هذه النقاط ليس أكثر من فرض إتاوات على المواطنين من دون أي حماية، إذ يقتصر عملهم في الأراضي السورية على محاسبة المهربين في حال تمّت الشكوى من عدم الدخول أو السلب. أما القتل من حرس الحدود، أو عمليات التشليح المتبعة في الأراضي التركية، فلا يتحمل مسؤوليتها الأمنيون ولا المهربون، الذين يحمون أنفسهم بإيصال مالي. يقول سالم قدري (مهرب سابق) إن الوصل يعفي المهربين من المسؤولية وفي حال عدم وجوده توضع الحوادث كلها في "رقبتنا".
لا ينكر القدري أن الحوادث التي تقع داخل الأراضي التركية، تكون غالباً بالاتفاق بين مهربين سوريين وآخرين في الطرف المقابل من الحدود التركية، وفي بعض الأحيان بحسب ما أخبرنا يكون ذلك بطلب من "المهرب السوري"، خاصة فيما يخص حوادث سلب وسرقة الخارجين من الحدود لنقودهم ومصاغاتهم الذهبية وهواتفهم المحمولة.
25 دولاراً عن كل شخص تتقاضها مكاتب تنظيم عمليات التهريب التي تمّ استحداثها من قبل هيئة تحرير الشام، وهي ثلاثة مكاتب -بحسب القدري وأبو طراد مهرب آخر-، "الدرية والزوف والعلاني". كما يتقاضى ما يُعرف بـ"المندوب" -موظف من قبل الهيئة تقتصر مهمته على التنسيق بين المهربين ومكاتب قطع الإيصالات- 25 دولاراً أخرى، تعود للهيئة أيضاً، إذ يتقاضى المندوب راتباً شهرياً، بحسب شهادات المهربين.
بلغ عدد الذين توجهوا إلى مكاتب الهيئة لقطع الإيصالات خلال الأشهر الأربعة (أيلول وتشرين الأول وتشرين الثاني وكانون الأول) من عام 2019، بحسب إحصائيات حصل عليها معد التحقيق من حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام (49032) شخصاً، دفعوا نحو 1.225.800 دولار كإيصالات للمرور فقط، أي بمعدل 300 ألف دولار شهرياً.
يقول من التقيناهم من مهربين إن الأرقام تزيد عن ذلك، خاصة وأنه يتم إلغاء الوصل في كل مرة يتم فيها دخول الأشخاص والإمساك بهم من قبل حرس الحدود، وهي الأعداد الأكبر، ليتم إعادتهم عبر معبر باب الهوى، ليعيدوا الكرة مرة أخرى، ناهيك عن بعض الأشخاص الذين يتأخرون في الوصول، وهو ما يفرض عليهم إعادة دفع الرسم من جديد.
يقول موسى الصالح، أحد الأشخاص الذين عبروا الحدود التركية، إنه يجهل سبب دفع هذه المبالغ التي تزيد من الأعباء على المواطنين، إذ يجبر الراغب بالدخول إلى تركيا على دفع مبالغ تتراوح بين (400 - 1800 دولار) للمهربين، وتزيد عليها أكلاف الإيصالات من قبل الهيئة والطعام والشراب والسكن في القرى الحدودية، خلال انتظار الوقت المناسب للمرور.
يقول طارق علي الذي عبر إلى تركيا مرات عدة، إن معظم من قتلوا كانوا في الأراضي السورية قبل تجاوزهم للحدود، ويتساءل عن سبب عدم قيام الهيئة بحماية المدنيين داخل المناطق التي تسيطر عليها، وإن كانت لا تستطيع فعل ذلك، فلماذا على الأشخاص الراغبين بدخول تركيا أن يدفعوا ما بين 400 و1800 دولار في كل مرة، منها 50 دولاراً للهيئة؟.
أعلنت الهيئة عن حل للنساء اللواتي يرغبن بدخول تركيا عند عدم وجود وثائق تؤكد صلتهن بالشخص المرافق لهن، بشراء ورقة "المحرم"، والتي باتت باباً جديداً من أبواب الإتاوات المالية، إذ يفرض على النساء الحصول عليها مقابل مبلغ ألف ليرة سورية (أي نحو 50 سنتاً بحسب معدل سعر الصرف في أيلول)، ويمنع دخول أي امرأة من دون هذه الورقة، وهذا يعرضها للاعتقال ريثما يحضر ولي أمرها ويتسلمها.
يقول المهرب سالم قدري: "ليس المهم حماية النساء، المهم بالنسبة لهم الألف ليرة، وهم غالباً ما يتأكدون من هوية الشخص المحرم عبر الاتصال بالأب أو الزوج من خلال تطبيق الواتس آب".
تقدر المبالغ المدفوعة للسيارات وورقة المحرم بناء على عدد الراغبين بالدخول إلى تركيا في الإحصائية الماضية بنحو خمسة ملايين ليرة سورية (2285 دولاراً) خلال أربعة أشهر للسيارات، وثلاثة ملايين و650 ألف ليرة سورية (1666 دولاراً) لورقة المحرم. ويدفع الركاب العائدون من الذين لم تتح لهم الفرصة بالدخول إيجار السيارات أيضاً، وتقدر المبالغ بنحو أربعة ملايين ليرة سوريّة (1827 دولاراً).
على امتداد الشريط الحدودي المحاذي لتركيا الممتد من معبر باب الهوى في ريف إدلب قرب مدينة سرمدا، وصولاً إلى بلدة خربة الجوز، تنتشر نقاط تفتيش للهيئة تمنع المدنيين وحتى المهربين الاقتراب من الحدود التركيّة، وتشترط على كل راغب بالعمل في التهريب التنسيق معها، بحسب سالم قدري.
يشير قدري إلى أن هناك بعض المهربين الذين ينقلون أشخاصاً إلى الحدود من دون علم الهيئة، والغالبية منهم ينسقون عملهم مع مكاتب قطع الإيصالات عبر المندوبين، خوفاً من تبعات الخروج عن طاعتها، لأنه في حال القبض على الداخلين من قبل قوات حرس الحدود التركية، فإنه سيتم تسليمهم للهيئة من خلال ثلاثة معابر عكسية إلى سوريا، وهي معبر باب الهوى ومعبري هتيا وخربة الجوز غير الرسميين، وحينها تبحث الهيئة عن المهرب الذي قام بتهريبهم لتتأكد من وجود إيصالات.
ويؤكد أن أحد أصدقائه الذين يعملون في التهريب أيضاً غاب فترة من الزمن، وحينها كان هاتفه الجوال مغلقاً وبعد نحو 30 يوماً اتصل بسالم ليخبره أنه كان مسجوناً في أحد سجون الهيئة، إذ تم تغريمه بـ300 دولار، وتوقيفه شهراً لأنه قام بتهريب عدة أشخاص من دون قطع إيصالات.
يضيف قدري: "لا توجد عقوبة واضحة لكن العرف بين المهربين أن العقوبة تتراوح حول ما سبق ذكره".
أحمد، نازح من حمص إلى ريف إدلب، توفيت ابنة شقيقته بيلسان (3 سنوات) أواخر عام 2017، نتيجة إعطائها جرعة منوم زائدة، تعطى للأطفال الصغار من أجل تهدئتهم أثناء محاولات العبور، كي لا يصدروا أصواتاً تثير انتباه عناصر قوات الحدود الأتراك.
يقول أحمد إن ابنة شقيقته توفيت، فعادوا بها ولم تكتمل عملية العبور، ويشير إلى أنهم راجعوا مكتب قطع الإيصالات وطالبوا بمحاسبة الصيدلاني الذي مزج المنوم بجرعة من شراب مضاد للسعال، فتم إرشادهم إلى محكمة تابعة للهيئة وتم رفع دعوى عليه، لكن بحسب أحمد لم تتخذ الهيئة أيّ إجراء ضده وبقيت صيدليته مفتوحة.
لا إحصائية لعدد الوفيات من الأطفال بسبب المخدر، لكن سالم قدري يؤكد أنه سمع بالعديد من حالات الوفاة المشابهة. ويشير إلى أن المهربين يجبرون الراغبين بعبور الحدود على إعطاء الأطفال الصغار المخدر المنوم، وإلا يرفضون تهريبهم.
وفي فترة لاحقة لتاريخ وفاة بيلسان، أكدت نقابة صيادلة إدلب الحادثة في بيان، وأشارت إلى أن طفلاً آخر قد توفي للسبب ذاته، وحذرت في بيانها من التعامل مع بعض الصيدليات التي يديرها أشخاص غير متخصصين، وطالبت بمحاسبة الفاعلين.
يتعرض العابرون الذين يتم إلقاء القبض عليهم داخل الأراضي التركية لمعاملة وصفوها بالمهينة، إذ يتركون في العراء ويتعرض قسم كبير منهم، خاصة الشبان، للضرب والشتم والتقريع من قبل حرس الحدود.
يقول أحمد العلي، عابر آخر إلى تركيا، إن الموت أرحم من الليالي التي قضيناها في "معسكر الاعتقال"، على حد وصفه، فليس هناك أي طعام أو شراب أو تدفئة، وغالباً ما يتم حشر الجميع في سيارات ونقلهم إلى أقرب نقطة لحرس الحدود، حيث يتم تعذيبهم وضربهم وإهانتهم، ويتركون في الساحة الرئيسية أمام استهزاء عناصر حرس الحدود.
ويضيف أن حرس الحدود يرحلون العابرين بعد مدة إلى مكتب الدراسات التابع لهيئة تحرير الشام في معبر باب الهوى، بعد إجبارهم على توقيع تنازل (استمارة عودة بشكل طوعي)، يحرمهم من حق دخول تركيا لمدة خمس سنوات، وبذلك يخسر العائدون المبالغ المالية التي دفعوها للمهرب ومكاتب الهيئة، وحق المحاولة مرة أخرى. وبحسب إحصائية نشرتها إدارة معبر باب الهوى، فإن عدد حالات الترحيل في العام 2019 بلغت 63848 شخصاً.