حازم فتحي (32 عاماً) استقدمته من القاهرة شركة "إنترناشيونال بيزنس سيرفيس"، المعروفة اختصاراً "IBS"، للعمل في قسم الصيانة، لدى الشركة المصرية للاتصالات المملوكة للحكومة. "دخلت الشركة على رجلي، طلعت منها مُعاق، أستعين بعكاز لأتمكن من السير، الشركة أخذتني لحم ورمتني عضم".
شركات التوريد تتحايل على القانون عند إنشائها. تارة تسجل نفسها كشركات لتوريد عمّال خدمات الأمن والنظافة، وهو نشاط مسموح بالقانون. وتارة تسجل نفسها كربّ عمل، وفق الناشط العمالي وائل توفيق.
المحامي المختص في القضايا العمالية ياسر سعد، فسر التحايل بأنّ "الدولة سنّت قوانين في أوقات حاولت الترويج لنفسها بأنّها دولة منفتحة اقتصادياً، ووضعت ضمانات وحوافز للمستثمرين على حساب العمال".
تأسست شركة "إنترناشيونال بزنيس سيرفيس" (IBS) سنة 1984. بدأت نشاطها بتقديم خدمات لرجال الأعمال. وأضافت لاحقاً تقديم الخدمات الفنية والإدارية للشركات، ثمّ عدلت النشاط ليُصبح "تقديم الخدمات الفنية والإدارية للشركات وتقديم الخدمات الطبية وإدارة المشروعات".
تفخر الشركة عبر موقعها الإلكتروني، بأنّها رائدة نشاط التعهيد في مصر، أي توريد العمالة. قاعدة عملائها تضم 227 شركة في قطاعات مختلفة.
يفسر الناشط العمالي وائل توفيق سبب لجوء شركات كبرى في مصر إلى التعاقد مع شركات التوريد، برغبة تلك الشركات في سحب أو نقل استثماراتها من دولة لأخرى. وأضاف: "شركات البترول والأسمنت والأسمدة تخشى ربط اسمها باستخدام مواد سامة، أو ممارسة أعمال خطرة، فتتأثر أسهم الشركة وقيمتها السوقية".
اضغط/ي على القطاع لإظهار البيانات
تتفاخر إكسون موبيل في تقرير أعمالها عن عام 2019، بأنّها تربح مليارات الدولارات بفعل "سلاسل التوريد". تصنع منتجاتها في دول وتصدّرها لأخرى. تمتلك الشركة 20 مصنعاً في أنحاء العالم. ويصل إنتاجها إلى 130 دولة. إكسون موبيل مصر تصدّر إنتاجها من زيوت المركبات إلى 45 دولة أوروبية وإفريقية، ووقّعت اتفاقيات تعاون مع وكلاء سيارات أوروبية وآسيوية داخل مصر.
يذكر موقع الشركة المُدرجة في بورصة نيويورك أنّها تُشغّل 400 عامل. بينما حدد تقرير أعمالها عدد عمالها بألف عامل. تعاقدت الشركة مع أربعة مقاولين لتشغيل 600 عامل لم يحظوا بالحقوق المنصوص عليها في قانون العمل المصري.
تعاقدت شركة إكسون موبيل مع شركة التوكيلات النموذجية بتاريخ 6 تموز/ يوليو 2009. كانت شركة التوكيلات تعمل في استيراد وتصدير المعدات والأجهزة الكهروميكانيكية. وعدلت نشاطها بعد توقيع العقد بـ 20 يوماً، ليصبح إدارة وتشغيل وإصلاح أساطيل النقل الثقيل المملوكة للغير أو للشركة، حتى يتوافق نشاطها مع طبيعة تعاقدها مع إكسون موبيل.
بتتبع العقود الموقعة بين إكسون موبيل وشركات توريد العمالة، نجد أنّ إكسون موبيل نصّبت نفسها المتحكم الأول والأخير في كل شيء يتعلق بالعمل، بما في ذلك استمرار العلاقة بين العامل وشركة التوريد من ناحية، وإكسون موبيل من ناحية أخرى. شركة التوريد ملزمة بتوفير عدد من العاملين بمؤهلات ومواصفات تحددها إكسون موبيل، وللأخيرة منفردة حقّ اختيار العمال وتحديد أجورهم ووضع جداول التشغيل ولوائح العمل، ومكافأة أو معاقبة أو ترقية أيٍّ منهم. ومنحت الشركة نفسها حقّ استبعاد أيّ عامل بسبب سوء المظهر أو السلوك -بلا تحديدها-، ومنع دخول أيٍّ من العاملين لمقراتها للأسباب التي تراها. الغرض الأساسي للتعاقد مع شركات توريد العمالة هو تهرب إكسون موبيل من حقوق العمال، بحسب قراءة الخبير القانوني المختص في القضايا العمالية أسامة جميل.
استُخدمت بنود التعاقد في فصل عمال "تعسفياً"، كما حصل مع ياسر محمود (42 سنة)، العامل في قسم التوزيع بشركة إكسون موبيل في الإسكندرية، وأمين صندوق نقابة العاملين في الشركة. يسرد ما حصل معه، قبل أن يُقيم دعوى قضائية -ما زالت في أروقة القضاء- للمطالبة بحقوقه: "الشركة فصلتني تعسفياً لمطالبتي بحقوق زملائي ومساندتهم، شردتني ولم تعوضني".
وهنا يتدخل أعضاء النقابة للتفاوض مع الشركة لتحسين ظروف العمل أو المطالبة بحقوق العمال المفصولين، ما دفع الشركة لفصل جميع أعضاء مجلس النقابة تعسفياً.
إكسون موبيل لم ترد على رسائلنا لدى مواجهتها بالوقائع الموثقة لدينا. كذلك الحال بالنسبة لشركات توريد العمالة "الخضري سنتر"، و"التوكيلات النموذجية". أما شركة "توب بيزنس"، فنفت أيّ علاقة لها بنشاط توريد العمالة، وقالت إنّها شركة مختصة في تقديم حلول الموارد البشرية. الشركة نفت أيضاً وجود أيّ علاقة مع شركة إكسون موبيل، وقالت في ردها: "هم ليسوا عملاء لدينا من الأساس".
"تلتزم الدولة بالحفاظ على حقوق العمال… وتعمل على حمايتهم من مخاطر العمل، ويُحظر فصلهم تعسفياً". مقتطفات من المادة (13) من الدستور المصري المعدّل 2019. لكنّ الشركة المصرية للاتصالات المملوكة للحكومة خالفت القانون بتعاقدها مع شركات التوريد المخالفة، لتسدد الحكومة في النهاية الفاتورة التي يتوجب على الشركة تحمّلها.
سقط العامل حازم فتحي عن السلم أثناء عمله بالشركة. وثبّت إصابته بمحضر رسمي. وأجرى عملية رباط صليبي على نفقة الشركة لكنّها فشلت. وأثناء خضوعه لعلاج طبيعي لإعادة العملية تفاجأ بـشركة "IBS" تُخطره بالفصل من دون أن يحصل على حقوقه. أفاد التقرير الطبي الصادر عن أمانة المراكز الطبية المتخصصة، بأنّ حازم يُعاني من قطع كامل في الرباط الصليبي.
العامل أحمد الحسيني أُصيب بكسر في الجمجمة وارتجاج بالمخ أثناء عمله. وبعد مكوثه أسبوعاً في المستشفى، طلب منه الأطباء الراحة في المنزل. وعندها قررت "IBS" فصله. الشركة المصرية للاتصالات تجاهلت الرد على مُعِدّ التحقيق. في حين لم يصلنا رد على رسائلنا الموجهة لشركة "IBS".
البنك الدولي المعني بالتنمية حول العالم يتربح من استغلال العمالة المصرية. تعاقد مع شركات التوريد لتشغيل شركة الأسمنت البلجيكية "تيتان" في الإسكندرية. تساهم مؤسسة التمويل الدولية (الذراع الاستثماري للبنك الدولي) بـ 80 مليون يورو في شركة "تيتان"، بما يعادل سُدس رأس مال الشركة.
مؤسسة التمويل الدولية ردّت بأنّها باعت أسهمها في "تيتان" عام 2019، من دون الإجابة على أسئلتنا المتعلقة بانتهاك حقوق العمال قبل ذلك العام.
لم يتغير الوضع بعد شكوى قدمها العمال والأهالي للبنك الدولي، بسبب مخالفة الشركة وثيقة معايير الأداء المعنية بالاستدامة البيئية والاجتماعية التي أقرّها البنك عام 2012.
خفضت شركة الأسمنت المُدرجة في بورصة أثينا التزاماتها تجاه العمال لزيادة هامش ربحها. وقللت عدد عامليها من 730 إلى 278 عاملاً. وعينت 425 آخرين عن طريق شركات: "يثرب، وأنواركو، وIBS" لتوريد العمالة.
أضرب العمال عام 2013 للمطالبة بمساواتهم بنظرائهم المُدرجين على قوة الشركة. فضّ الأمن اعتصامهم بعدها بـ 3 أيام واحتجز 80 عاملاً. اتهمت الشركة 28 عاملاً باحتجاز 15 إدارياً بمقرها وإتلاف ممتلكاتها، والتعدي على الأمن. محكمة جنايات "الدخيلة" قضت في 28 حزيران/ يونيو 2016، ببراءة جميع العمال. لكنّ الشركة فصلت العمال التابعين لشركات التوريد، كان بينهم محمد حامد إيكا، رئيس نقابة العاملين بشركة أسمنت تيتان سابقاً، الذي خرج خالي الوفاض بعد 13 عاماً في الشركة.
إيكا وياسر وحازم وقعوا ضحايا لتحايل الشركات. وقّعوا عقوداً مع شركات لتوريد العمالة أدّت إلى حرمانهم من حقوقهم. أُصيب حازم بإعاقة دائمة أفقدته القدرة على المشي، وعجز معها عن إعالة أسرته. أما ياسر وإيكا فقد عانيا لإيجاد عمل للإنفاق على عائلتيهما. يوضح المحامي في التعاونية القانونية لدعم الوعي العمالي ياسر سعد أنّ وجود شركة التوريد كوسيط بين العامل وربّ العمل، تُمكّن الأخير من التهرب من التأمين الصحي للعامل وأسرته، والتلاعب في مدد وقيمة التأمين الاجتماعي، ما يؤثر على قيمة معاش التقاعد الذي يتقاضاه العامل وأسرته بعد وفاته.
يُحرَم العامل أيضاً من مكافأة نهاية الخدمة. ولا يلتزم ربّ العمل بزيادة رواتب العمال سنوياً. ويتهرّب من توزيع 7 في المئة من الأرباح السنوية على العمال، وفقاً لما نصّ عليه قانون العمل. يكون العامل عرضة للفصل التعسفي، من دون الحصول على تعويض من رب العمل، يقول المحامي سعد.
يوضح شكري قشطة الرئيس السابق لنقابة العاملين في إكسون موبيل أنّ "شركات التوريد لا تؤمن طبياً على العمال، وإن فعلت تكون الخدمات التي يشملها التأمين متدنية، وتفضل الشركات فصل العامل على إنفاق مزيد من الأموال على علاجه عند إصابته سواء بمرض ما أو أثناء العمل".
بحسب قشطة، يتقاضى العامل الدائم بالشركة أجراً يزيد بمقدار ضعفين إلى 7 أضعاف على راتب زميله التابع لشركة توريد العمالة، رغم أنّهما يؤديان نفس العمل. ويُحرَم الأخير من بعض الخدمات والمزايا التي توفرها الشركة، في مخالفة للمادة (79) من قانون العمل، والاتفاقية (100) لسنة 1951 لمنظمة العمل الدولية، الخاصة بمساواة العمال والعاملات في الأجر لدى تساوي قيمة العمل.
وزارة القوى العاملة هي المكلفة قانوناً بمتابعة تنفيذ أحكام قانون العمل. وتشكل الوزارة وحدات للتفتيش على منشآت العمل للتأكد من تطبيق القانون.
منح القانون موظفي القوى العاملة سلطة الضبط القضائي، ومراقبة أنشطة الشركات والتفتيش على عملها وطواقمها. لكنّ المحامي العمالي ياسر سعد يرى أنّ "هذا لا يحدث على أرض الواقع".
بينما يتّهم شكري قشطة رئيس نقابة العاملين في إكسون موبيل سابقاً، موظفي وزارة القوى العاملة بالتقصير في متابعة الانتهاكات الناتجة عن نشاط شركات التوريد. ويتهم النقابي وائل توفيق الحكومة بأنّها لا تتخذ موقفاً جاداً تجاه مقاولي توريد العمال بداعي الحفاظ على المستثمرين الأجانب.
وزارة القوى العاملة اكتفت على لسان مستشارها الإعلامي هيثم سعد الدين، بنفي وجود شركات تعمل في مجال توريد العمالة بمصر. فيما تجاهل الوزير محمد سعفان الرد على رسائلنا. كما رفضت وزارة التجارة والاستثمار التعليق على مخالفات تسجيل شركات توريد العمالة.
تعرّضُ العمال للفصل التعسفي، وتخلي الشركات عن علاجهم، سواء عند إصابتهم أثناء العمل أو عند مرضهم، يلقي أعباءً إضافية على الحكومة المصرية، التي تجد نفسها ملزمة بتوفير معاش شهري لمن فقدوا مصادر دخلهم. إذ بلغ عدد الحاصلين على معاش "تكافل وكرامة" من الحكومة 3.6 مليون مستفيد بدعم إجمالي قدره 18.5 مليار جنيه (1.2 مليار دولار)، وفقاً لوزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج.
أصدرت وزارة التضامن الاجتماعي "بطاقة إعاقة" لحازم فتحي، تضمن علاجه وتسهّل حصوله على خدمات طبية بتكاليف مخفضة. وتكفلت الحكومة بعلاج "سعيد عمران" من مرض السرطان عن طريق التأمين الصحي، هو
عامل سابق في شركة إكسون موبيل عن طريق شركة "توب بيزنس" لتوريد العمالة.
أغلب العمال لا يفضلون إقامة دعاوى قضائية للحصول على حقوقهم من أرباب العمل، بسبب طول أمد التقاضي الذي يمتد لسنوات. ويرى المحامي العمالي ياسر سعد -تصله عشرات شكاوى الفصل التعسفي شهرياً- أنّ عملية التقاضي مرهقة ومكلفة مادياً ومعنوياً على حساب قوت يوم العامل وأسرته. لكنّ سعد أوضح أنّ قلةً تقيم دعاوى قضائية للحصول على حقها. يحدث ذلك بالرغم من تجريم القضاء المصري ممارسة نشاط توريد العمالة، فقد صدر حكم جنائي في (القضية 1724 لسنة 2014 جنح مينا البصل)، ضد شركة "توب سيرفيس" عن تهمة توريد عمال من دون ترخيص.
أقام ياسر دعوى قضائية -ما زالت منظورة- حتى يحصل على حقوقه القانونية التي أضاعتها عليه شركة توريد العمالة، واستغلتها إكسون موبيل لفصله تعسفياً. وكذلك حازم الذي فصلته الشركة المصرية للاتصالات بعدما أصبح معاقاً. وفقد كلاهما مصدر دخله، ليصبح مستقبل أسرتيهما فجأة في مهب الريح.