ARIJ Logo

إهمال السلطة و"حماس" يقضي على تاريخ يمتد آلاف السنين

غزة تطمر آثارها بأبنية ومزارع

تحقيق: أمجد ياغي

18/11/2021

المواقع الأثرية في قطاع غزة، مثلها مثل بقية معالم القطاع معرضة للعدوان الإسرائيلي في أيّ لحظة، ومعرّضة أيضاً، للإبادة حرفياً عبر تعدّيات وانتهاكات من جهات فلسطينية رسمية وغير رسمية، بخلاف القوانين التي تحظر المساس بهذه المواقع. يوثّق هذا التحقيق انتهاكات ممنهجة بحق أشهر المواقع الأثرية في القطاع، كما يوثّق التقاعس عن حمايتها.

تحوّلَ موقعُ تلّ العجول الأثريّ في قرية المغراقة وسط قطاع غزة، إلى منطقة سكنية وأراضٍ زراعية. معالم الموقع تلاشت على مدار عشرين عاماً من تعدّيات السكان المتكررة.

بحسب تصنيف المدرسة البريطانية للآثار (تركز على أبحاث علم الآثار، وقامت بتنقيبات في مواقع فلسطينية خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين 1920-1945). يعود تاريخه للعصر البرونزي الأوسط (2200-1500 ق.م)، والبرونزي الأخير (1500-1200 ق.م)، مع استخدامات ضيقة في العصور التي تلتها، مثل العصر الحديدي والروماني والبيزنطي حتى الإسلامي.

أجرت المدرسة البريطانية أعمال تنقيب فيه بإشراف العالم البريطاني "وليام فلندرز بتري"، في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي. عثر المنقّبون على قطع أثرية وعملات نقدية وأدوات قديمة وقصور ومبانٍ. ونُشرت نتائج التنقيب في أربعة مجلدات حملت اسم "غزة القديمة" وتُعرض آثار من الموقع لغاية اليوم في المتحف البريطاني.

تلك الاكتشافات ما زالت تُدرّّس في جامعات بكندا والولايات المتحدة وبريطانيا، بحسب معين صادق،

—أستاذ التاريخ والآثار في جامعة تورونتو الكندية.

خلال جولة للموقع في أيار/ مايو 2021، لم نعثر على معالم أثرية أو طبقات معمارية. تلاشت تلك المعالم والطبقات التي وثقتها خرائط الاكتشاف في ثلاثينيات القرن الماضي، ووثائق فريق التنقيب الذي زاره عام 1999-2000. عثرنا على بعض القطع الفخارية فقط، فيما انتشرت المنازل والأراضي الزراعية في الموقع.

تدمير "أهم إرث فلسطيني قديم"

الحال الجديد الذي بدا عليه "تلّ العجول" كان صادماً لعالم الآثار النمساوي-السويدي بيتر فيشر، المختص في علم آثار شرق البحر الأبيض المتوسط ​​والشرق الأدنى، وقاد البعثة الفلسطينية السويدية في تلّ العجول سنة 2000.

علق "فيشر" على صور حديثة للموقع عرضناها عليه: "بناء المنازل، وزراعة أشجار الزيتون، وتجريف الموقع -كما شاهدته- دمر أهم إرث فلسطيني قديم. يفكر الناس في المدى القصير، وبالتالي يتجاهلون مسؤوليتهم تجاه الأجيال السابقة التي تبني عالمنا والتي من واجبنا الحفاظ على بقاياها".

يعتبر فيشر موقع تلّ العجول "متعدد الثقافات" مهماً للتراث العالمي، ويقول: "يُظهر الموقع روابط بين الثقافات مع جزء كبير من منطقة البحر الأبيض المتوسط ​​وإلى الشرق. كان بوابة بين مصر والشام، وله علاقات تجارية مكثفة مع قبرص، لكن البشرية فقدت أحد أهم ممثليها في بلاد الشام".



التدهور الحديث في "تلّ العجول" سبقته سلسلة من التعدّيات وثّقها العالم "فيشر" في آخر زيارة له إلى قطاع غزة عام 2011 قبل أن تمنعه إسرائيل من العودة مجدداً. كانت المنازل وأشجار الزيتون -كما يروي- في كل مكان بالمنطقة التي نقب فيها، وقام بتسييجها في جولته الأولى. ويقول إنّ الآثار التي تدلّ على العصر البرونزي المتأخر تمّ تدميرها. ما دفعه للتساؤل عن مصير القطع الأثرية التي لا بدّ أنّ المعتدين عثروا عليها عندما شيدوا المنازل أو زرعوا الأرض.

اليوم، يتعامل السكان المعتدون مع أرض الموقع على أنّها ملكهم الخاص. اعترض أحدهم معدَّ التحقيق أثناء وجوده هناك على اعتبار أنّه "شخص غريب لا يسمح له بالتقاط صور لأرضه الزراعية". الساكن الجديد للموقع عبّر عن تخوّفه من قدوم عصابات من أجل سرقة الآثار من الموقع، وأشار بيده إلى حُفرة أسفل أرض مزروعة بالزيتون كانوا ينقبون فيها ليلاً.

نقلنا المعلومات عن تلك التعدّيات إلى وزارة السياحة والآثار في غزة (تديرها حركة حماس). أقرّ مدير دائرة الحماية والترميم، أحمد البُرش بأنّ وزارته لم تقم بأيّ أنشطة "نظراً لحاجتهم لإمكانيات مادية وبشرية" لحماية المواقع الأثرية، مؤكداً أنّ "الاعتداء على تلّ العجول أمر قديم، وليس لدى الوزارة علم به، والموقع تُرك في عهد السلطة الفلسطينية".

لا يُنكر معين صادق الذي كان مديراً عاماً للآثار في الوزارة، بين عاميْ 1994 و2005، في عهد السلطة الفلسطينية، تعرُّض الموقع لتعدّيات في تلك الفترة، كذلك في فترة حكم الاحتلال الإسرائيلي للقطاع (1967-1993). لكنّه يشير إلى أنّ وزارته اتخذت بعض الإجراءات في سبيل توفير الحماية كوضع لافتة تحذّر من التعدي على الموقع باعتباره أرضاً وقفية، وتوفير حراسات، وهما أمران لا يتوفران حالياً.

يقول صادق: "كان يحصل تجريف في أيام الجمعة، نظراً لإجازات الحُرّاس، تتمّ مثلاً عمليات تجريف لا نعلم مصدرها، لاكتساب مساحات زراعية إضافية من التل خاصة في الجهة الجنوبية. حصل تعدٍ واحد من أجل بناء منزل (قبل عام 2007) رغم اعتراضنا، لكن للأسف استخدم (صاحب المنزل) نفوذه. لا أحد يجرؤ على ذلك إلا إذا كان ذا مركز قوي ومسنوداً من نافذين أو من عائلته".

مواقع أثرية بلا حماية

حال موقع تلّ العجول لا يختلف كثيراً عن حال غالبية المواقع الأثرية في قطاع غزة البالغ عددها حالياً 76 موقعاً، لم تستطع الجهات الرسمية حمايتها من التعدّيات، بل اعتدت على بعضٍ منها.

وشهدت فترة حكم السلطة الفلسطينية لقطاع غزة (1994-2007) أربعة انتهاكات "متعمدة" للمواقع الأثرية، في حين طالها 11 انتهاكاً خلال فترة سيطرة حكومة غزة الحالية، أي منذ أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، بحسب ما وثقه التحقيق.

تلّ العجول، وتلّ السكن، والبلاخية، وتلّ رفح "زعرب"، هي المواقع الأكبر مساحةً في قطاع غزة بنحو 740 دونماً (740 ألف متر مربع). شهدت ثلاثة منها انتهاكات من قبل جهات حكومية ومواطنين، ولا تتوفر فيها أيّ حراسات. ونجا موقع تلّ رفح من التعدّيات المباشرة، لكنّه معرّض للخطر بفعل العوامل الطبيعية، وتوقف أعمال الترميم والتنقيب فيه.

ثلاثة مواقع أثرية في قطاع غزة فقط وفّرت لها الحكومة الحراسات اللازمة، وهي تلّ أم عامر "دير القديس هيلاريون" وسط القطاع، وتلّ رفح "زعرب" برفح جنوباً، وموقع الكنيسة البيزنطية في جباليا شمالاً. وهي مواقع مرممة بتمويل من جهات دولية. في المقابل كانت سبعة مواقع تفتقر للحماية، وأُقيمت على أطرافها بيوت زراعية بلاستيكية، فيما غزت القمامة أجزاءً منها.

اختفت معالم 31 موقعاً أثرياً في قطاع غزة نتيجة التمدد العمراني والتعدّيات المتواصلة، وعدم تسجيلها كمواقع أثرية لدى سلطة الأراضي الفلسطينية بغزة (سلطة حكومية بدرجة وزارة أُنشئت عام 2002 لتولّي إدارة قطاع الأراضي) لحمايتها، وفقاً لما وثّقه فريق "كنعان"، وهو فريق شبابي يسجل المعالم القديمة عبر تطبيق رقمي باللغتيْن العربية والإنجليزية بحسب عضوة الفريق سندس النخالة.

تحمّل وزارة السياحة والآثار في غزة، السلطة الفلسطينية المسؤولية عن حماية الأراضي من تعدّيات السكان في العهد الذي كانت تحكم فيه، وعدم تسجيل الأراضي الأثرية وتحديد حرمة المواقع، لكن على أرض الواقع لم تستطيع هي الأخرى حماية تلك المواقع من التعدّيات، بموجب قرار بقانون رقم (11) لسنة 2018م بشأن التراث الثقافي المادي والساري في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذي يحظر المساس بالمواقع أو تدمير عناصر التراث الثابت ومكوناته.

في حين أنّ وزارة السياحة والآثار التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، لم ترد على تساؤلاتنا بخصوص الانتهاكات التي حصلت خلال فترة سيطرتها على المواقع في القطاع، قبل سيطرة حركة حماس.

قرار بقانون رقم (11) لسنة 2018
مادة (15):

يحظر على أيّ شخص القيام بأيّ فعل من الأفعال الآتية:
1. طمس أو تشويه أو تخريب أو تغيير أو تدمير أو التأثير على أيّ عنصر من عناصر التراث الثابت أو مكوناته.
2. نزع أيّ شيء أو مكوّن من مكوّنات التراث أو تحريكه من مكانه أو الكتابة أو النقش عليه.
3. إلقاء النفايات أو المخلّفات أو الأتربة في موقع التراث الثابت، والمنطقة المحيطة به.
4. بيع أو شراء أو تداول أيّ مواد منتزعة من تراث ثابت.
5. إجراء الحفريات أو النبش في مواقع التراث الثابت أو غيرها من المواقع بحثاً عن الدفائن الذهبية أو أيّ دفائن أخرى، ولو كانت في ملكه الخاص.

ما حدث من انتهاكات في موقع تلّ العجول ينسحب على غالبية المواقع الأثرية في قطاع غزة بحسب ما وثّقه التحقيق.