عقارات المسيحيين في العراق... استيلاء منظم بالتزوير وقوة السلاح

عقارات المسيحيين في العراق... استيلاء منظّم بالتزوير وقوّة السلاح

عصابات تستولي على عشرات آلاف العقارات العائدة للمسيحين بالتزوير وقوّة السلاح

تحقيق: أسعد الزلزلي السبت 2021/12/18

عقارات الحرف (ن)

أكثر من عامٍ ونصفٍ قضتها بيرونيا إبراهيم أوديشو (67 عاماً) تدور بين المحاكم والدوائر العقارية لاسترجاع منزل العائلة الكائن في بغداد بعدما فوجئت بأنّه تمّ بيعه ثلاث مرات منذ عام 2012 بتزوير توقيعها وتواقيع إخوتها العشرة.

هاجرت بيرونيا، وهي عراقية مسيحية في سبعينيات القرن الماضي، ثمّ التحق بها أفراد عائلتها في التسعينيات، وتركوا مستأجراً في منزلهم الواقع بمنطقة الأثوريين في مدينة الدورة بالعاصمة بغداد.

في العام 2019 عادت بيرونيا لزيارة قبر والديْها، لتكتشف أنّ منزلهم قد تمّ بيعه في عام 2012 بتزوير توقيعها وتواقيع إخوتها العشرة، علماً أنّ أحدهم توفي قبل بيع المنزل لكنّها وجدت اسمه ضمن أسماء الموقّعين.

لجأت بيرونيا لتوكيل محامٍ وقامت بمراجعات متكرّرة لدوائر العقار والمحاكم أملاً في استعادة منزل العائلة الذي يمثل آخر جذورهم المتبقية في العراق.

تقول بيرونيا

إنّ العشرات من المسيحيين في منطقتهم خسروا منازلهم بطرق مشابهة.

وتروي كيف أُجبِرَ عمّها على إخلاء منزله بعد مداهمته فجراً في أحد أيام عام 2007 من دون أن يُسمح له بأخذ أيّ غرض من البيت. آنذاك كانت السيطرة في هذا الجزء من بغداد لتنظيم "القاعدة"، فاقتحم المنزل مسلّحون من أبناء المنطقة نفسها وخيّروا العمّ بين الهجرة أو دفع الجزية أو إعلان إسلامه، وهو ما اضطرّه للهرب إلى شمال العراق حيث توفّي بحسرته.

وفي الوقت الذي كَثُرَ فيه الحديث عن استباحة تنظيم "داعش" لأراضي وعقارات الأقلّيات الدينية في الموصل وبعض المحافظات العراقية الأخرى، إلّا أنّ الانتهاكات التي بدأت منذ عام 2003 ما تزال مستمرة حتى اليوم ولا تقتصر على طرف دون الآخر كما سيكشف هذا التحقيق.

فالعراقيون لم ينسوا بعد وسم "حرف النون" الذي يُرسم على جدران منازل المسيحيين في مناطق كثيرة أخرى وأولها بغداد، في إشارة لوصفهم بالنصارى، ما يتيح قتلهم والاستحواذ على عقاراتهم سواء من ملكيات الأفراد أو الأوقاف الدينية.

استيلاء بسطوة المتنفّذين والجماعات المسلّحة

في قلب بغداد وفي مدينة زيونة يقع منزل صلاح غزالة (59 عاماً) وزوجته ديانا توماس (60) عاماً، اللذيْن بذلا كلّ ما يملكان لشراء قطعة الأرض وبنائه عليها. وفي العام 2000 نتيجة الأوضاع المادية توقّف صلاح عن إكمال المنزل في مراحله الأخيرة، ووضعَ لحمايته حارساً مع عائلته مقابل راتب شهري.

هاجر صلاح وزوجته إلى سوريا ومنها إلى أميركا في عام 2007، واستمرّ بالتواصل مع الحارس للاطمئنان على المنزل حتى العام 2018 لكنّه فوجئ بعد أسبوع من آخر مكالمة بإبلاغ الحارس له أنّ البيت قد تمّ بيعه بمكاتبة عقارية عن طريق وكالة من ديانا زوجته في محافظة أربيل رغم أنّهما لم يزورا العراق منذ مغادرتهما.

تحرّك صلاح للاتصال بكلّ معارفه والوصول إلى دائرة العقار، وبعد البحث وجد أنّ أحد المتنفّذين الذي ينتمي لمليشيا مسلّحة استولى على الدار وراح يراجع دائرة العقار لتحويل ملكيتها. ولكنّ صلاح خشيَ ذكر جهة مسلّحة بعينها، إلّا أنّ المنطقة التي يقع فيها العقار تخضع لسلطة الميليشيات الشيعية المعروفة بـ "المقاومة"، وقد حصل مُعِدُّ التحقيق على الوثيقة التي تثبت التزوير بالإضافة إلى كتاب حكومي باسم الشخص.

وكانت الدائرة العقارية أوقفت المعاملة وحجزتها لشكها بالمرأة التي ادّعت أنّها ديانا وحضرت لتوقيع تحويل الملكية بنفسها حاملة جواز سفر بريطانياً.

أوكل صلاح محامياً لمتابعة القضية في العام 2018 بعدما بلَغَهُ أنّ المستولي باشر بهدم المنزل وتحويله لمحلات تجارية.

بعد شهر من توكيله، اتصل المحامي بصلاح وأبلغه أنّه تعرّض للضرب والتهديد وتمّت سرقة حقيبته، معتذراً عن إكمال القضية. لجأ الرجل بعدها إلى نوّاب مسيحيين ومتخصصين في دائرة الأوقاف المسيحية وتواصل كذلك مع الأمانة العامة لمجلس الوزراء لكن دون جدوى.

تملّك صلاح اليأس وتدهورت حالته الصحية، وفضّل عدم الاستمرار في محاولات استرداد عقاره الذي يبلغ ثمنه اليوم أكثر من 700 ألف دولار. وحتى إعداد التحقيق تحوّل منزل صلاح لمبنى تجاري يضم شققاً سكنية ومحلات في قلب "زيونة" أغلى مناطق العاصمة بغداد.

بعد
قبل

استيلاء حكومي

في كركوك شمالاً لا يختلف الحال كثيراً، وإن تبدّلت السلطات المسيطرة بين مجموعات سنّيّة مسلّحة حتى 2017، ثمّ ميليشيات شيعية بعد ذلك مع الإبقاء على شيءٍ من تقاسم النفوذ. فقد تواصل مُعِدُّ التحقيق مع أسعد عزريا داوود الذي تمّ الاستيلاء على منزله من قبل جماعات مسلحة باعته عبر التزوير.

لكنّ خوف عزريا المقيم في أميركا اليوم، منعه من الذهاب إلى كركوك التي تشهد وضعاً أمنياً غير مستقر حتى اليوم، دفعه لتوكيل محامٍ بهدف استعادة المنزل. بعد شهر واحد، أبلغ المحامي عزريا أنّه تعرّض للتهديد واعتذر له عن المضي في إكمال الدعوى المطالبة باستعادة المنزل خوفاً مما قد يلحق به من أذى.

تتنوع عمليات وطرق الاستيلاء على عقارات المسيحيين في العراق كما يبين بعضها النائب في البرلمان العراقي عن المكوّن المسيحي، يونادم كنا، بالقول إنّها "كثيرة ومتنوّعة، منها ما يتمّ عبر الاحتيال والتزوير والاستيلاء بالقوّة"، مشيراً إلى وجود حالة غريبة مرّت عليه مؤخراً عبر إقامة بائع حلويات متجوّل في إحدى المناطق، دعوى ضدّ مواطن مسيحي مهاجر يمتلك بيتاً في منطقته، ادّعى فيها مع الشهود أنّه أقرض صاحب الدار مبلغاً مالياً قدره 600 مليون دينار عراقي (نحو 500 ألف دولار) مطالباً بتحويل ملكية الدار له تعويضاً عن المبلغ، وكاد الأمر يتحقق لولا تحرّكه مع جهات مسيحية لإيقاف الموضوع.

ولفت إلى أنّ

هناك عمليات احتيال رافقت عمليات التحويل عبر الاتصال فعلاً بصاحب الدار وإيهامه بنيّة شراء الدار والسفر له أو التواصل مع وكيله وتوقيع عقد مبدئي دون دفع الأموال ثمّ تزوير العقد وتحويل ملكية الدار

عقوباتُ التزويرِ في القانونِ العراقي

يقول الخبير القانوني علي التميمي، إنّ القانون العراقي صريح في قضايا التزوير إذا ما ثبت وفق المستندات والشهود والوثائق، إذ تصل العقوبة بحسب المادة 289/ 298 من قانون العقوبات العراقي للسجن مدة 15 عاماً مع القبض على كلّ المتّهمين بالقضية، سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء ثمّ تُحال القضية إلى محكمة الجنايات، ويرفع المتضرّر دعوى مدنية أخرى لمحكمة البداءة للمطالبة بأصل العقار والحصول على التعويض من المدّعى عليهم.

مثّلت الحالات التي قدّمها مُعِدُّ التحقيق أمثلةً قليلةً وبسيطة على انتهاكات قامت بها جماعات مسلّحة عن طريق التزوير والجهات الحكومية التي أشعرت المسيحي بأنّه مواطن مغلوب على أمره وأنّ القانون لا يحميه. وحاولنا الحصول على إحصائية رسمية لعدد العقارات التي تمّ الاستيلاء عليها بعد عام 2003 لكنّنا لم نوفّق نتيجة الخوف والملاحقة. لكنّ النائب في البرلمان يونادم كنا أحالنا إلى إحصائية صادرة عن قيادة عمليات بغداد أشارت إلى وجود 36 ألفَ منزل مسلوب من المسيحيين والمسلمين (سنة وشيعة)، لافتاً إلى أنّ عدد منازل المسيحيين تحديداً، التي تمّ الاستيلاء عليها، لا يمكن إحصاؤه رغم استمرار الظاهرة حتى اليوم وعلى مرأى ومسمعٍ من الجميع.

وبحسب رئيس أساقفة أبرشية أربيل للكلدان المطران بشار وردة فإنّ العدد يزيد عن 25 ألفاً في عموم مناطق العراق، مع عدم القدرة على اعتماد إحصائية باعتبار أنّها مسؤولية الدولة، ولكنّها "تلجأ دائماً لتشكيل لجانٍ لتسويف الأمر". ويلفت المطران إلى مغادرة نحو مليون مسيحي العراق، دون رجعة خلال السنوات الماضية، حيث لم يبقَ اليوم أكثرُ من 400 ألف مسيحي من أصل مليون ونصف كانوا يعيشون في العراق قبل عام 2003.

في المقابل، وبحسب أرقام غير رسمية يملكها النائب السابق جوزيف صليوا يرتفع العدد إلى أكثر من 60 ألف عقار تمّ الاستيلاء عليها في جميع المحافظات عدا إقليم كردستان، كثيرٌ منها في محافظات الوسط والجنوب التي لم يدخلها "داعش".

استمرار الظاهرة واللّجان المؤقتة

رغم اعتراف الحكومة لسنوات سابقة بوجود ظاهرة التلاعب بأملاك المسيحيين، إلّا أنّ تحركاتها كانت محدودة جداً، كما تفاقمت الظاهرة مع دخول "داعش" وكَثُرَ بيع عقارات المسيحيين. تحرّك بعدها القضاء ووزارة العدل، وأصدروا قراراً يشترط وجود ممثل من ديوان الوقف أو النوّاب المسيحيين في البرلمان عند بيع هذه العقارات، لكنّ الظاهرة لم تتوقف.

النائب السابق صليوا، يشير إلى أنّ الحكومة وضعت محدّدات على بيع عقارات المسيحيين، واشترطت موافقة الجهات الدينية، للحدّ من محاولات الضغط على الأفراد وإكراههم على بيع ممتلكاتهم، لكنّ ما يحصل هو أنّ ذات الجهات الدينية، توافق على بيع العقارات وحتى الكنائس، ما يجعل الجهات الحكومية عاجزة عن فعل شيء.

ويؤكد النائب الحالي يونادم كنا أنّ الظاهرة مستمرة حتى اليوم، رغم كلّ محاولات الحدّ منها، إثر التحرّكات التي قادتها الجهات المسيحية وأدّت إلى إصدار القرارات وتشكيل اللجان الحكومية وحتى من قبل الجهات السياسية، مستشهداً باللجنة التي شكلها التيار الصدري العام الماضي، وهو تيار سياسي شيعي يقوده مقتدى الصدر، ويمتلك تمثيلاً نيابياً كبيراً، قال إنّ لجنته أعادت أكثر من 60 عقاراً إلى أصحابها.

كلام كنا توافق مع إعلان مجلس القضاء الأعلى على موقعه الرسمي في بداية عام 2021، أي قبل زيارة البابا بشهر واحد، إصدار أحكام بالسجن لسبع وست سنوات على اثنيْن من أفراد عصابة قامت بالاحتيال على عشرات المسيحيين من المهاجرين عبر السفر إليهم وادّعائهما نيّة شراء منازلهم، وتوقيع وكالات لهم.

كنائسُ للبيعِ أو الاستثمار

ليست عقارات المسحيين هي ما تمّ الاستيلاء عليه فحسب، فحتى كنائسهم وأديرتهم ورهبانياتهم، بيع بعضها وعُرِضَ البعضُ الآخرُ للاستيلاء على مرأى المؤسسات الحكومية المسؤولة عن رعاية مصالحها.

ففي الوقت الذي كانت فيه أنظار العالم متّجهة صوب وصول بابا الفاتيكان للعراق بداية هذا العام في زيارة وُصِفَت بالتاريخية، لإحلال السلام واحترام الأديان ودعوة أبناء العراق من المسيحيين للعودة إلى أرض الوطن، كانت الآليات والجرّافات مستمرة بالعمل على تجريف أرض العقار المرقّم 35/22 راغبة خاتون والعائد لرهبانية بنات مريم الكلدانيات في منطقة الأعظمية وسط العاصمة بغداد بعد بيعها كقطع أراضٍ سكنية. وكان العقار يضمّ قبل تجريفه، داراً للأيتام وكنيسةً صغيرةً للقاطنين في الدار.

استيلاءٌ باسمِ القانون

الصراع على ملكيّة أرض عقار الرهبانية استمر نحو 5 سنوات. وفقاً للوثائق الرسمية والمخاطبات التي حصلنا عليها من العام 2016، إذ تعود ملكية أرض العقار لرهبانية بنات مريم الكلدانية التابعة للرهبنة اليسوعية من الطائفة اللاتينية.

تظهر وثيقة تحصّلنا عليها مطلع العام 2016 إرسال رئيس الطائفة اللاتينية في العراق المطران جان سليمان، كتاباً إلى ديوان الأوقاف المسيحية والأيزيدية والصابئة المندائية في العراق يطالب بالتحرّك السريع لإيقاف بيع عقار الأعظمية وعدم التصرّف به، مرفقاً بنسخة من سند الملكية، الذي يظهر ملكيته لجمعية الصداقة العراقية الأمريكية العلميّة في بغداد التابعة للطائفة.

وفي تموز (يوليو) من العام نفسه، أرسل ديوان الأوقاف كتاباً لدائرة التسجيل العقاري في مدينة الأعظمية التابعة لوزارة العدل مطالباً إيّاها بوقف كافة إجراءات التصرّف بأرض العقار العائدة للرهبانية، وكتاباً آخر لهيئة الضرائب يطالب بمنع ترويج معاملة بيع العقار، فضلاً عن كتاب لهيئة الضرائب يطالبها بمنع ترويج معاملة بيع العقار أو التصرّف به موقعة بإمضاء رئيس الديوان حينها.

بعد خمسة أشهر، عاد نفس الديوان ليرسل كتاباً إلى نفس الدائرة معلناً سماحه بإجراء عملية الترويج، لكنّ الدائرة القانونية في دائرة التسجيل العقاري وأمانة بغداد رفضت ترويج معاملة البيع نظراً لعائدية الرهبانية ومكانتها.

حكايةُ الرهبانية...
التأسيسُ والاستيلاءُ مراراً

عملية البيع والشراء المتعلقة بأملاك المسيحيين، وخاصة الأوقاف الدينية منها، عملية معقدة جداً، وتحتاج للجان ودراسات جدوى معقّدة قبل البيع والترميم، شريطة الاستبدال بمكان آخر كما يبين المطران بشار متي الذي عمل كرئيس لكنيسة الحكمة الإلهية المجاورة للرهبانية لعام كامل سنة 1995 وتابع حيثيات القضية.

ويقول المطران بشار وردة إنّ "أرض الرهبانية التي بُنِيَت إلى جانب كنيسة الوحدة وكلية بغداد على يد جمعية الآباء اليسوعيين، تعرّضت للاستيلاء والمصادرة والتأميم من قبل الحكومة مرّات عدة منذ تأسيسها بعد العام 1932، وبعدها مرّت بتحوّلات ملكية عدة، كان آخرها الصراع على بيعها بين الرهبانية وجمعية الصداقة"، مبيناً أنّ "الوقف أرسل كتاب الموافقة على ترويج البيع في النهاية بعد الاتفاق على منح أموال للجمعية مقابل تنازلها رغم أنّ قانون إدارة الوقف لا ينصّ على أحقّيتها في التدخّل بالبيع ومنح الموافقة لأنّ قانون الوقف لم يُتِحْ له ذلك".

في المقابل، تقول هيئة التراث الحكومية إنّ الكنائس تخضع لقانون الآثار والتراث رقم (55) لسنة 2002، الذي يمنع منعاً باتاً تغيير الصفة الوظيفية للكنائس والأبنية التراثية أو تغيير الغرض الذي أُنْشِئت لأجله، إلّا بموافقة السلطة التراثية وحصراً الوزير، ويعتبره جرماً يحاسب عليه القانون بالحبس وإعادة البناء إلى ما كان عليه في الأصل، وحتى إن ارتأت الجهات المالكة البيع، فيجب الحفاظ على الكنيسة والمبنى الأثري والتراثي وعدم التجاوز أو الإضافة عليها. لكنّ ما وثّقه مُعِدُّ التحقيق يظهر عكس ذلك تماماً.

كنائسُ للاستثمار

من مبنى الحكومة العراقية تقع كنيسة السريان الكاثوليك في سوق الشورجة أكبر أسواق العراق. الكنيسة التي تعتبر إحدى أقدم الكنائس في العراق ويعود تأسيسها إلى العام 1834، لم تسلم هي الأخرى من عمليات الاستثمار والبيع، إذ تحوّل محيط الكنيسة إلى محلّات تجارية بعد أن تمّ استثماره ولم يتبقَّ من الكنيسة سوى باطنها المخصص للعبادة، أمّا محيطها فتحوّل إلى واجهة تجارية.

يبحث مُعِدُّ التحقيق منذ سنوات عدة، في موضوع تلك الكنائس. وكان قد زار رئيس هيئة التراث ووكيل وزارة الثقافة لشؤون الآثار والتراث قيس رشيد في العام 2017 بعد الاستثمار، ليبلغه أنّ الاستثمار قد مُنِح وفق إجازة من قبل الوقف السنّي، على اعتبار أنّ محيط الكنيسة يعود للوقف السنّي وليس المسيحي. ونظرياً، منعت الهيئة هذا الأمر لكنّ رشيد قال إنّ "الوقف السنّي ارتكب خطأً لا يُغتفر، إذ أعطى إجازات استثمار لواجهات كنائس ولم يراعِ مكانتها الدينية والأثرية، وهذه ليست المخالفة الوحيدة التي تمّ تشخيصها، إذ قمنا برصد حالات أخرى ورفعنا دعاوى في المحاكم حول الموضوع"، لكنّ المشكلة هي "أنّ الجهة التي منحت الترخيص لاستثمار كنيسة الشورجة هي الأخرى جهة حكومية مثلنا".

الوكيل الأسبق، أشار في اللقاء السابق إلى أنّ "هناك أكثر من 3 آلاف مبنى أثري وتراثي تمّ الاستيلاء عليها بعد العام 2003، بعضها كنائس ومبانٍ دينية وتراثية تعود لمختلف الديانات" منوهاً إلى أنّ "من يتحمل مسؤولية فقدان هذه المباني هي جهات حكومية وأصحاب تلك المباني".


لم تكن هاتان الكنيستان في بغداد، الوحيدتيْن اللتيْن تمّ بيعهما أو استثمار أجزاء منهما، إذ يقول النائب السابق (مسيحي) جوزيف صليوا، إنّ "هناك أربع كنائس أخرى تمّ بيعها أو بيع مساحات أراضٍ عائدة لها، اثنتان منها في البصرة وواحدة في بابل وأخرى في الناصرية".

صليوا استشهد بحادثة شهدتها الأيام الأخيرة التي تلت زيارة البابا فرنسيس للعراق، فقد تمّ توجيه استدعاء من قبل أحد مراكز الشرطة في بغداد للبطريرك لويس ساكو بطريرك طائفة الكلدان في العراق والعالم الذي رافق البابا طيلة زيارته للعراق بقضية موافقته على بيع أرض كنيسة في البصرة ثمّ العدول عن الأمر لعدم الحصول على الموافقات الرسمية، وكان صاحب الشكوى هو المستثمر الذي منحه ساكو الموافقة على بيع أرض الكنيسة.

ووفقاً لوثيقة الاستدعاء الصادرة بحقّ ساكو من قبل مركز شرطة الصالحية -التي تصفه بالمتّهم- فإنّ عليه الحضور للمركز بناءً على شكوى مقدّمة من المستثمر مهدي ناجي وفي حال عدم حضوره فسيتمّ إصدار أوامر القبض بحقّه خلال ثلاثة أيام. ردّ إعلام البطريركية ببيان يفيد بأنّ الأمر ليس صحيحاً وأنّ الأرض الممنوحة لا تعود للكنيسة وأنّ الوكالة التي مُنحت للمستثمر هي للمراجعات، وليست البيع، واتّهم البيان المستثمر بأنّه مدفوع من جهة سياسية، حيث أغلق مجلس القضاء الأعلى الدعوة بعد الطعن من محامي البطريرك.

أما النائب يونادم كنا وعند سؤاله عن عدد الكنائس التي بيعت أو استثمرت نفى وجود ذلك، وقال بأن الكنيسة الوحيدة التي تم السماح باستثمار أجزاء منها مع المحافظة على هويتها هي كنيسة مريم العذراء في باب المعظم مؤكدا ملاحظاته على أمر الاستثمار لكنه قال بأن الأمر قانوني.

وبين تصريحات صليوا وتصريحات كنا, هناك 6 كنائس بيعت أراضيها أو استثمرت أجزاء منها.

اختلافاتٌ قانونية

تتنوع القوانين المتعلقة بطبيعة العقارات الدينية وأحقّية تولّيها والتصرّف بها وهذا التنوّع يزيد التعقيد، فالجهات الدينية المسيحية تردّ على أحقية بيع العقارات بأنّ الدستور العراقي وفقاً للمادة (43) الفقرة "ب" ينصّ على أنّ الوقف هو المسؤول عن "إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية بعد أن ينظّم ذلك بقانون خاص بالوقف"، كما يقول المطران بشار وردة الذي أشار كذلك إلى أنّ الفقرة الثامنة في المادة الأولى من قانون إدارة الأوقاف العراقي لسنة 1966 حددت الأوقاف الإسلامية ولم تُشِرْ إلى باقي الديانات وهو ما يعطي للمسيحيين حرّية التصرّف بها.

تواصل مُعِدُّ التحقيق مع الهيئة العامة للآثار والتراث للتعليق على ما توصّل إليه، فكان الردّ بأنّ الكنائس تخضع لقانون الآثار والتراث رقم (55) لسنة 2002، مؤكدة قيامها برفع دعاوى قضائية ضدّ أمانة بغداد وجهات أخرى لتجاوزات بهذا الخصوص، كما أشارت إلى أنّ القانون يبيح البيع والشراء من المالكين شريطة الحفاظ عليها وعدم التجاوز أو الإضافة عليها.

اختلاف من الداخل

ويتّهم النائب السابق جوزيف صليوا جهات دينية وجهات داخل الوقف بالتواطؤ في بيع الكنائس وهدمها في العراق، إذ نشر بياناً حول أرض الرهبانية واستثمار محيط كنيسة الباب الشرقي في بغداد.

كما انتقد صليوا، صمت الجهات الحكومية، فهناك عدد من الكنائس في مناطق متعددة من بغداد بيعت بتسهيل من شخصيات في الوقف المسيحي وبطريركية الكلدان الكاثوليك، مؤكداً وجود اتفاقيات "غير مفهومة" تجري بين الوقف المسيحي، وشخصيات سياسية مسيحية، لم يسمّها، أفضت إلى بيع عدد كبير من الكنائس والعقارات ومنها أرض الرهبانية.

ورداً على اتهامات صليوا، نفت بطريركية بابل للكلدان (الكاثوليكية) في العراق عبر موقعها الرسمي، وجود عمليات بيع كنائس في العراق لاستثمارها في أعمال تجارية، مؤكّدة حرصها على حماية الكنائس القديمة والجديدة، وأنّها مستمرة في صيانتها.

أما عضو مجلس النواب عن المكوّن المسيحي يونادم كنا، فرأى أنّ ما يحدث هو أمر طبيعي، وأنّ البيع والاستثمار يتمّ بموافقة من المالكين ووفق السياقات القانونية، وعلى الرغم من توافقه مع الأمر، لكنّه أكد وجود ملاحظات لديه حول الموضوع والآليات التي يتمّ بها.

"الأمطار" أزالت منزل ساسون حسقيل

لم تكن كنائس المسيحيين وعقاراتهم هي المستهدف الوحيد من عقارات الأقلّيات، فليس بعيداً عن كنيسة الشورجة، يقع منزل ساسون حسقيل أول وزير مالية عراقي بين عاميْ 1921 و1925 والذي كان معروفاً بساسون أفندي. للمنزل مكانة دينية خاصة لدى الطائفة اليهودية التي تمّ تهجير معظم أبنائها من العراق في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. فالمنزل يمثل مبنى تراثياً وأيضاً مبكى للطائفة، ويشاع بأنّه مدفن كما تُظهر صور أرشيفية حصرية تحصّل عليها مُعِدُّ التحقيق الذي تابع ملفّ قضية المنزل منذ أربع سنوات عندما استيقظ أبناء منطقة شارع الرشيد على ساحة فارغة كانت بالأمس منزلاً تراثياً ودينياً يهودياً دون عِلم الدولة.

حينها التقى مُعِدُّ التحقيق بمدير دائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة والسياحة والآثار شفيق المهدي وأجرى لقاءً حصرياً معه (توفي المهدي بعدها بعاميْن)، وكان منبرياً للدفاع عن مكانة هذا المنزل. وحاول المهدي كثيراً الوقوف في وجه استثماره، لكنّ محاولاته لم تفلح عندما منحت أمانة بغداد أرض المنزل إجازة استثمار للمقاول حسين القريشي كما يظهر كتاب صادر عن الأمانة بتوقيع أمينها نعيم عبعوب إلى هيئة الاستثمار ورئيسها شاكر الزاملي يؤكد فيه تسليم الأرض. ورغم حصولنا على وثائق حصرية صادرة عن مديرية شرطة حماية الآثار والتراث ومن مدير دائرة التراث وقسم المسح التراثي في وزارة الثقافة والسياحة والآثار والتراث والقسم القانوني في الوزارة، وكذلك مكتب المفتش العام، تؤكد عدم قانونية التلاعب بالعقار المعروف بـ 16-17 سبع ابكار، إلّا أنّ المستثمر والأمانة مضيا قدماً في محو كلّ أثر أو دليل أثريٍّ للدار للهروب من الملاحقة القانونية، كما أشار المهدي حينها قائلاً "من المخجل أن يحاولوا الضحك علينا وعلى عقول العراقيين. كيف للأمطار أن تزيل منزلاً كاملاً بأنقاضه وأساساته وحديده؟ إنّهم يعتدون على قدسية كلّ الأديان في وضح النهار بعد أن سال لعابهم على موقعه التجاري في وسط شارع الرشيد قبالة نهر دجلة".

منزل ساسون حسقيل بعد أيام من هدمه

أمانة بغداد كانت قد بررت في حينه أنّ المنزل حُوِّلَ للاستثمار منذ ثمانينيات القرن الماضي خلال فترة حكم صدام حسين، وأنّ المنزل مهدّم من قبل وليس مكاناً تراثياً.

تمّت إحاطة المنزل بسياج خاص ومُنِعَ الدخول إليها حتى اليوم رغم صدور حكم غيابي يقضي بحبس أمين العاصمة السابق لسبع سنوات على خلفية قضايا فساد أخرى، والقبض على رئيس هيئة الاستثمار شاكر الزاملي وإيداعه السجن في بداية هذا العام بتهمٍ تخصّ الفساد.

حقّ الردّ والنفي

تواصل مُعِدُّ التحقيق مع وزارة العدل العراقية للحصول على ردّها في كلّ ما ورد عبر البريد الإلكتروني الرسمي لها، ورقم الهاتف الخاص بالمتحدث الرسمي باسمها أحمد لعيبي المخوّل الوحيد في الوزارة بالتصريح، لكنّ الوزارة امتنعت عن ذلك. كما أرسلت "أريج" كتاباً بالبريد المضمون للحصول على إجابات حول هذه المسألة، إلّا أنّ الوزارة رفضت استلامه.

أما ديوان الوقف المسيحي فقد وافق على الردّ لكن لينفي وقوع أيّ عملية بيع للكنائس، موضحاً أنّ "كافة التصرفات التي قام بها المتولّي تمّت على أوقاف لا تحمل صفة الكنيسة وبمراقبة دقيقة لعملية استبدالها وفق القوانين السارية في العراق".

وأوضح الديوان أنّه يعتمد في عمله على "عدة قوانين" تخوّله بالتصرف، منها قانون رعاية الأوقاف رقم (64) لسنة 1966، ونظام المتولّين رقم (46) لسنة 1970، وقانون الديوان رقم (58) لسنة 2012، وبالأخصّ المادة (18) التي تنصّ على أنّ "الديوان يحلّ محلّ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية المنحلّة فيما يتعلق بالأوقاف والأموال". وعن بيع أرض الرهبانية يردّ "بأنّها مؤسسة دينية ولم يتم بيعها، بل بيعت أوقاف عائدة لها وأنّ الممانعات الصادرة من "اللاتينية" كانت لأسباب داخلية تتعلق بتحديد المتولّي المسؤول عن إعطاء الموافقات".

أُنْجِزَ هذا التحقيق بدعمٍ وإشرافٍ من شبكة "أريج"، ويُنشر بالتزامن مع صحيفة Kristeligt Dagblad الدنماركية ضمن شراكة مع مشروع ميديا بريدج.