ARIJ Logo

قيود أمنية بالوراثة

ماضٍ بلا هوية وحاضرٌ مسلوب ومستقبلٌ مغلق

الكويت: عائشة الجيار

يدرك أحمد أنّ شيئاً ما لن يتغير وأنّ حياته تحت صفة "بدون جنسية" في دولة الكويت، مشفوعة بـ "قيد أمني" متوارث يحرمه وعائلته من الحصول على الحق في التعليم، والصحة، والوظيفة العامة، وتوثيق شهادات الولادة والزواج أو حتى السفر. هذا قدر ثقيل الوطأة تسلّمه من أبيه، وعليه أن يسلّمه كاملاً إلى أولاده وأحفاده.


لم يرتكب أحمد* أو زوجته وأولاده الأربعة ذنباً لكي يخسروا حقوقهم الإنسانية والمدنية التي تُجمع عليها القوانين الوضعية والدولية؛ مثل التعليم، والطبابة والسفر، وفق توثيق (هيومان رايتس ووتش).

ذنب هذا الشاب أنّه وُلد لأبٍ من فئة "البدون"، شاءت أقداره أن يقع في أسر الجيش العراقي إبان غزوه للكويت صيف 1990. وبعد فك أسره، اتُهم الأب بالتعاون مع آسريه فكانت عقوبته وضع "القيد الأمني"، الذي يحرمه من تجديد "البطاقة الأمنية المؤقتة"، ومعها جميع الحقوق الجزئية التي بالكاد يحصلون عليها كـ "مقيمين بصورة غير قانونية"، وفق نص البطاقة الأمنية ذاتها.


وعلى الرغم من أنّ المحكمة برّأت والد أحمد من تلك التهمة، إلّا أنّ القيد الأمني ظلّ عالقاً به طوال ثلاثة عقود. يلخص أحمد شكل الحياة التي يعيشها أصحاب القيود الأمنية، المقدّر عددهم بعدة آلاف من أولئك الذين تطلق عليهم صفة البدون في الكويت (نحو 100 ألف إنسان)، في غياب إحصاءات رسمية. أحمد كان من بين أربعة أشخاص وافقوا على تسجيل معاناتهم أمام الكاميرا بشرط حجب أسمائهم، وذلك من بين 20 حاملاً لقيد أمني قابلتهم معدّة التحقيق، على مدى عشرة أشهر.

"نعيش على هامش حياة بلا بيانات، بلا تواريخ وبلا وثائق. حياة تشبه كلمات مكتوبة على ورق كربون، سرعان ما تمحى بفعل الزمن ولا يتبقى منها شيء"، يشرح أحمد ويردف بحسرة "نحن مثل هذه الأوراق لا دليل على وجودنا ولا معالم لنا". القيد الأمني يفاقم معاناة البدون، لأنّ صاحبه لا يستطيع تجديد بطاقته الأمنية المؤقتة -التي تصرف لهذه الفئة لنيل الحد الأدنى من الحقوق المدنية- وبالتالي يحرم من الدراسة، والعمل، والسفر أو العلاج. إذ يصعب على "وارث القيد" تجديد بطاقته الأمنية المؤقتة (الخضراء)، التي من المفترض أن تمدّد سنوياً لدى "الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية" في الكويت.

ويصدر هذا الجهاز الحكومي قيوداً أمنية غير قانونية عابرة للأجيال بحق أشخاص من فئة (البدون)، فيضاعف حرمان أفراد هذه الفئة من امتيازات حاملي الجنسية الكويتية والمقيمين العرب والأجانب. وفوق ذلك، يُحرم وارثو "القيد الأمني" من تجديد البطاقة الأمنية السنوية اللازمة للحصول على فرص عمل مؤقتة بلا ضمانات، أو حتى إكمال الدراسة على نفقتهم الخاصة، أو تلقي العلاج أو حرية التنقل. كل ذلك يتناقض مع الدستور الكويتي النافذ منذ 1962، واتفاقيات حقوق الإنسان الأممية.

الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية (أو من يعرفون بالبدون) أُنشئ في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 بمرسوم من مجلس الوزراء الكويتي رقم (476) لسنة 2010. وتعلن رئاسة الجهاز أنّه يستهدف حلّ مشكلة البدون في الكويت.

  • الفروق المجتمعية في الكويت
  • من هم أصحاب القيود الأمنية؟

    قضية "القيود الأمنية" طفت على السطح بعد الغزو العراقي للكويت على شكل سوابق أمنية غير متقادمة بحق آلاف "البدون"؛ الذين تدرجت تسميتهم منذ ستينيات القرن الماضي بين "غير كويتي" و"بدون جنسية" ثم اختُزل التعريف بهم بكلمة "بدون".

    وتفيد بيانات وزارة الداخلية واستخبارات الجيش بأنّ القيود المتوارثة تتضمن تهماً خطيرة. إلّا أنّ ورثة قيود أمنية يؤكدون أنّهم لم يُمنحوا فرصة دحض تهم معظمها غير مسندة بأدلة. يترتب على القيود حرمان حامليها من معظم حقوقهم المدنية؛ بما في ذلك الخدمات الصحية واستصدار شهادات الولادة والوفاة، وفق تقارير صادرة عن (هيومان رايتس ووتش).

    وتحرم الحكومة الكويتية فئة البدون من المساواة في سوق العمل، بخلاف المقيمين العرب والأجانب.

    تمتد مشكلة القيود الأمنية عمودياً لتشمل الأب والأم والأبناء والبنات، وأفقياً لتشمل الإخوة والأخوات وأزواجهم/ن وأطفالهم/ن، وصولاً إلى أبناء العم وأبناء الخال وعوائلهم، بحسب المدير السابق لجمعية حقوق الإنسان والمحامي في قضايا البدون في الكويت محمد الحميدي.

    يكشف الحميدي أيضاً أنّ بعضها "يشمل حتى أطفالاً في سن الرابعة أو الخامسة من العمر"، لافتاً إلى عشوائية واتساع ظاهرة وضع القيود الأمنية.

    مدن الصفيح

    صورة الدولة الفارهة التي عرفناها عن الكويت الغنية بالنفط، تتغير على مشارف منطقة تيماء؛ إحدى مناطق تركّز البدون في محافظة الجهراء، التي وصلناها على أمل اللقاء باثنيْن من المتضررين. أحمد ورفيقه سالم من القلائل الذين وافقوا على الحديث معنا على مدى عشرة أشهر تطلبها إنجاز هذا التحقيق.

    كان الصفيح يغطي الدور القديمة المنخفضة ذات الطابق الواحد، تتفرع عنها غرف عشوائية شُيّدت بلا تخطيط لتوسيع مساحات الدور وحل مشكلة زيادة أفراد العائلات. ولهذا كانت الشوارع تضيق كلما تقدمنا إلى داخل الحي، وبالكاد وصلنا أخيراً إلى منزل سالم.

    هناك، استقبلنا شاب في العشرين من عمره، وبادرنا بالقول حين عرف الغاية من زيارتنا "صدقيني ليس هناك أمل، خلاص نحن سنظل على حالنا، لا تتعبي نفسك". كانت عبارته تشي بمقدار اليأس والإحباط الذي يطوق حياة المتعايشين مع القيود الأمنية.

    كان هذا الشاب ابن صاحب الدار سالم الذي سمح لنا، بعد تردد، بإدارة الحوار في منزله مع أحمد، ومعه هو شخصياً.

    إرث ثقيل

    يتذكر الأربعيني أحمد يوم فرض القيد الأمني على والده عام 1991، حين كان أحمد تلميذاً. منذ ذلك الوقت، حُرم أحمد وعائلته وإخوته وأطفالهم فيما بعد من تجديد البطاقة الأمنية.

    والد أحمد، العسكري السابق وصاحب القيد الأمني الأول في العائلة، يناهز السبعين عاماً الآن، ويعاني منذ سنوات داء السكري. هذا الرجل المسن لا يتمتع بتأمين صحي في المستشفيات العامة.

    يقول أحمد إنّه لجأ إلى محاكم الكويت لاستصدار بطاقة هوية له ولأفراد أسرته بهدف التخلص من معاناة القيد الأمني. وعلى الرغم من أنّ القضية امتدت لأربع سنوات وانتهت قبل عشر سنوات بحكم لمصلحة أحمد بالحصول على جميع الوثائق والإثباتات، إلّا أنّ الحكم لم ينفَّذ حتى الآن.

    ثمن المطالبة بالحقوق

    لا تمنح الحكومة الكويتية لأبناء فئة البدون أيّ تصاريح إقامة قانونية شبيهة بالتي تُصرف للمقيمين العرب والأجانب. بل تكتفي بإصدار بطاقة أمنية يصنفّون فيها على أنّهم "مقيمون بصورة غير قانونية". وتتضمن البطاقة بيانات الشخص المعني وعبارة في الجزء الخلفي تنص على أنّ "هذه البطاقة ليست إثباتاً بالهوية. ولا يمكن استخدامها لأغراض أخرى"، أي أنّها لا تفرض أيّ حقوق لحاملها.

    ومع ذلك فإنّ لهذه البطاقة المؤقتة، أهمية كبرى في استمرار حياة البدون، على الرغم من صعوبتها. ولهذا، يمثل الحرمان من تجديدها عقاباً جماعياً قاسياً يتسبب في تعقيد حياة حاملي القيد الأمني وعائلاتهم؛ فهو يعني عملياً أنّهم لن يتمكنوا من الحصول على خدمات في هذه البلاد الغنية، التي تنفق سنوياً 21.5 مليار دينار كويتي (73.6 مليار دولار) لمواطنيها الذين لا يتجاوز عددهم 1.33 مليون، بحسب ميزانية 2018_2019.

    قصّة أحمد تتشابه مع معاناة رفيقه سالم، الذي يدفع الآن ثمن إقدامه على المشاركة في تظاهرات سلمية في مدينة الجهراء للمطالبة بحقه وحقوق نظرائه من فئة البدون، بالعيش سواسية مع مواطني بلدهم. بعد تلك المظاهرات في شباط/ فبراير 2011، فُرض على سالم قيد أمني تراكمت آثاره عليه وعلى عائلته على مدى السنوات اللاحقة. يقول سالم "في البداية حُرمت من تجديد البطاقة الأمنية، ثمّ فصلوني من الوظيفة الحكومية. وحُرمت لاحقاً بسبب هذا الفصل من حقوقي المادية والمعنوية، وترتب على ذلك كله عدم قدرتي حتى على تعليم أبنائي في مدارس خاصة، لعدم تجديد بطاقتي الأمنية".

    على أمل رفع القيود عنه، وقّع سالم تعهداً أمام الجهاز المركزي أقرّ فيه بالتنازل عن حقّه في الخروج في تظاهرات أو نشاطات للمطالبة بالحقوق المدنية للبدون، لكّن "القيد الأمني" ما يزال سارياً.

    الطريق إلى التجهيل

    تتجلّى مظاهر الحرمان بشكل خاص في الحدّ من قدرة أصحاب "القيود" على التعلم، وهي كبرى مشاكل "البدون"، كما يراها أكاديمي ناشط في مجال حقوق الإنسان، طلب عدم ذكر اسمه.

    فعلى صعيد الدراسة مثلاً، تتكرر في شهر أيلول/ سبتمبر مشكلة حرمان أطفال البدون من دخول المدارس الخاصة بسبب عدم وجود أوراق ثبوتية. فعملياً، لا يُسمح لأطفال فئة البدون بالالتحاق بالمدارس الحكومية، لأنّهم من الناحية الرسمية، يقيمون في الكويت "بصفة غير قانونية"، حسب تعريف البطاقة الأمنية. ومن ينجح في دخول مدرسة خاصّة، تؤمّن له رسوم الدراسة من خلال صناديق خيرية وتبرعات محسنين.

    مع ذلك، تتفاقم مشكلة الالتحاق بالمدارس الخاصّة، حسبما يشرح الناشط مؤكداً أنّ الجهاز المركزي يفرض على البدون الذين يراجعون لتجديد بطاقاتهم الأمنية، أن يوقعوا تعهداً بصحة المعلومات المذكورة في البطاقة، من دون إطلاعهم على تفاصيل تلك المعلومات؛ أي "التوقيع على بياض". هذه المعاملة دفعت أعداداً كبيرة منهم إلى رفض التوقيع، وهكذا توقفت جوانب من حياة البدون بسبب رفض تجديد بطاقاتهم.

    لا ينحصر الحرمان من الدراسة في المراحل الأساسية (الابتدائية، والثانوية ثم الجامعية)، بل يمتد حتى إلى الدراسات العليا. وهذا ما حصل مع شاب من فئة البدون رفض الجهاز المركزي قبول ترشيحه لدراسة الماجستير في جامعة الكويت، ما دفع عضو لجنة الماجستير الدكتور عماد خورشيد، إلى تقديم استقالته. وأعلن د. خورشيد على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" أنّ سبب استقالته هو "رفض أحد المرشحين من فئة البدون بسبب إصرار الجهاز على تجديد البطاقة الأمنية للمرشحين المتقدمين لهذا البرنامج، أو حصولهم على جنسية دولة أخرى أو الحل الأخير بحرمانهم من الدراسة".

    يؤكد د. خورشيد لكاتبة التحقيق صحّة الاستقالة ومضمونها، لكنّه يعتذر عن الحديث عن سائر التفاصيل لكونه عضواً في هيئة التدريس وغير مسموح له التحدث في هذا الأمر.

    قطع الأرزاق

    تنطبق هذه العبارة حرفياً على حال الشاب العشريني عايد حمد مدعث. إذ دفعه الحرمان من وظيفته بسبب عدم موافقة الجهاز المركزي على تجديد بطاقته الأمنية، إلى الانتحار شنقاً في غرفته بمدينة الجهراء.

    كان لذلك الحادث الذي وقع في السابع من تموز/ يوليو 2019، تأثير بالغ في قطاعات شعبية واسعة في البلاد، وأعاد قضية البدون إلى الواجهة مجدداً. فبعد أسبوع واحد على انتحار مدعث، نظم نشطاء البدون اعتصاماً سلمياً، لكنّ جهاز أمن الدولة اعتقل 14 منهم، بحسب منظمة هيومان رايتس ووتش، التي أعلنت في 22 آب/ أغسطس أنّ 12 من المعتقلين، بدأوا إضرابهم عن الطعام احتجاجاً على انتهاكات حقوقهم وحقوق مجتمع البدون.

    حتى الآن، ما تزال قضية انتحار المدعث تولد تعاطفاً في الشارع الكويتي، لكنّها مع هذا، لم تحرّك ملف أصحاب القيود الأمنية.

    أنواع القيود الأمنية

    ثمّة ثلاثة دوافع وراء القيود الأمنية في نظر المجتمع الكويتي، بحسب المحامي محمد الحميدي:

    القيد السياسي: ردّاً على القيام بنشاط سياسي مثل المظاهرات للمطالبة بحقوق البدون أو انتقاد الجهاز المركزي في وسائل التواصل الاجتماعي.

    أما القيد الثاني فيتصل بقضية الجوازات المزوّرة، التي تكشف القصدية في قنص الأشخاص من فئة البدون لإلصاق القيد الأمني بهم.

    يلخص الحميدي هذه القضية، بأنّ دولاً كانت تبيع جوازات للبدون خلال السنوات 1992-2000، بعلم الحكومة الكويتية. حتى أنّ إعلانات منح جوازات سفر صالحة لخمس سنوات كانت تنشر في الصحف الكويتية. لكن فيما بعد، كما يقول الحميدي، صنفت الحكومة هذه الجوازات على أنّها مزوّرة، ووضع الجهاز المختص قيوداً أمنية على أصحابها. وعلى الرغم من أنّ أحكاماً عديدة صدرت عن محكمة الاستئناف بإعادة هؤلاء الأشخاص إلى وضعهم الطبيعي السابق -محدّدي الجنسية (بدون) وليس كأصحاب قيود أمنية- فإنّ الجهاز المركزي رفض تنفيذ تلك الأحكام.

    أما القيد الثالث فهو قيد القرينة؛ ويعني الاشتباه بأنّ الشخص المعني بالقيد له قريب يحمل جنسية أخرى مثل العراقية، أو السورية أو حتى الأجنبية. في هذه الحالة، يُقدِم الجهاز المركزي على كتابة عبارة على ظهر البطاقة الخضراء المخصّصة لفئة البدون، تشير إلى أنّ هذا الشخص (صاحب البطاقة) لديه قرينة أو أوراق دالة لقريب له من جنسية ما، حسب ما يوضح الحميدي.

    ظلم بالعدوى

    بسبب النوع الثالث من القيود الأمنية (قيد القرينة) تعيش السيدة الكويتية سعاد (في منتصف الخمسينيات من عمرها) مع وابنها وابنتها الوحيدين معاناة متواصلة، بعد طلاقها من أحد "البدون".

    حصل ابنها وابنتها على حق الدراسة الجامعية العليا، باعتبارهما أولاد مواطنة كويتية الجنسية، لكنّهما عادا وخسرا ميزة الانتماء إلى أم كويتية بعد أن أشار الجهاز المركزي في سجلاته -لسبب غير معروف- إلى أنّ الابن كان "عراقياً"، والابنة كانت "سورية".

    عرفت السيدة سعاد لأول مرة أنّ ابنها كان عراقياً وابنتها سورية، فقط حين ذهبت ذات يوم لتجديد بطاقتيهما الأمنيتين بنفسها. فهي تعرف أنّها كمواطنة كويتية لن تتعرض للمهانة كما قد يتعرض لها ابنها وابنتها "البدون".

    حتى الآن، لا تستوعب السيدة سعاد كيف يمكن أن يكون للأب والأم ذاتهما ولدان من جنسيتيْن مختلفتيْن؛ أحدهما عراقي والثانية سورية. لكن منذ ذلك اليوم، بدأت تدفع -مع ابنيها- ثمن هذه الحالة الغريبة، ذلك أنّ نجلها حُرِمَ من التوظيف، فيما حُرِمَت ابنتها من الحصول على شهادة زواج.

    هذا اللغز يشرحه أستاذ القانون العام في جامعة الكويت والخبير الدستوري د. محمد الفيلي. فهو يعتقد بأنّ الجهاز المركزي يصدر هذه القيود من دون تقديم الإثباتات والأدلة القانونية الخاصة بها. ويجادل د. الفيلي بأنّ هذا أمر غير مقبول وخطير، إذ يفهم من القيود في وضعها الحالي بأنّها حق للإدارة "ممثلة بالجهاز المركزي" في الحصول على معلومات تمهيداً لاتخاذ قرار. ثم يردف "من غير المقبول أن يتخذ قرار على درجة عالية من الخطورة، يقترب من فكرة الجزاء، من دون احترام الحق في المواجهة مع المعني أو احترام حقه في الدفاع عن نفسه". ويؤكد د. الفيلي "أنّنا قد نكون هنا بصدد معلومات غير سليمة، أو مجرد اتهامات وأقاويل، أو معلومات مضلّلة من قبل أشخاص يراد منها تصفية حسابات شخصية".

    تكميم الأفواه

    في ملف البدون وأصحاب القيود الأمنية، يتلازم الخوف من العقاب والضرر مع الحرمان من معظم الحقوق الطبيعية للإنسان. خلال البحث في هذا التحقيق، كان متضررون يقفون على هامش الفكرة وكشف المعاناة. وكانوا يتجنبون ذكر التفاصيل التي قد تفاقم الضرر. في أحيان، بدا الأمر وكأنهم يخطون خطوة إلى الأمام في الحديث عن معاناتهم، ثم يتراجعون فجأة. العديد منهم رفضوا مجرد المشاركة في الحديث في هذا التحقيق، ما أدّى إلى تأخّر استكمال التقصّي.

    ويلوح مقدار الخطر الذي يستشعره حاملو القيود الأمنية حتى حين يتصل الأمر فقط بإجراء مقابلة صحفية وتوثيق بصري. إذ لم يوافق متحدثنا الثلاثيني جاسم، على تصوير الفيديو الخاص باللقاء إلا بعد أن أخفى وجهه بغطاء الرأس العربي (الشماغ/ الغترة).

    يختزل جاسم معاناته بتلك الصورة القاتمة التي رسمها خلف وجهه المغطّى "هكذا هي حياتنا الفعلية، نعيش مكممين، وممنوعين من الكلام. وإن تكلمنا نعاقب، وعقاب البدون ليس مقتصراً على الشخص نفسه، بل هو عقاب أشمل يتمدد مثل الأخطبوط".

    سُجِّلَ بحق جاسم قيد أمني قبل ثماني سنوات. كانت تهمته المشاركة في تظاهرة سلمية في فبراير/ شباط 2011. ومنذ ذلك التاريخ وهذا القيد يحيل حياته إلى جحيم.

    لم ينجح جاسم في التخلص من قيده الأمني حتى حين مثل أمام المحكمة وحصل على البراءة. فالقيد الأمني ظلّ قائماً لأنّه محصن بمبدأ حق السيادة. وكلما زاد نشاط جاسم في مجال حقوق البدون كلما اتسعت دائرة المشمولين بالقيد الأمني من عائلته وأقربائه. "في البداية فُرض القيد على زوجتي وأولادي، ثم والدي وإخوتي. وانتقل لاحقاً إلى أبناء العم والخال، ثم أخيراً صار ينتقل حتى إلى أزواجهم وأبنائهم، وما يزال ينتشر مثل السرطان في شجرة العائلة".

    يشعر جاسم بالذنب أحياناً. فهو لا يعتقد أنّه يرتكب جرماً حين يطالب سلمياً بحقوقه كإنسان، لكنّ كل من حوله بدأوا يدفعون الثمن. يقول جاسم "الجميع صار ينبذني ويتهمني بأنّني أنا ونشاطي الحقوقي نتحمل وزر القيود الأمنية التي فرضت عليهم. بصراحة حياتهم توقفت بسبب القيود، وهم يواجهون المشاكل في محاولتهم الحصول حتى على أبسط الأشياء مثل شهادات الميلاد أو عقود الزواج أو المراجعات الحكومية". هذا القيد "حرمني وحرم عائلتي وأقربائي من كل حقوقنا، وصار عقدة نفسية أعانيها على الدوام".

    أرقام متغيرة

    حتى الآن، ليست هناك أرقام محددة لعدد القيود الأمنية المفروضة على فئة البدون. فبينما يرى المحامي محمد الحميدي أنّها بالآلاف، يعتقد المحامي والناشط في قضايا البدون محمد عبد الله العنزي، أنّها "أرقام متغيرة". ويشرح ذلك بالقول إنّ "الأعداد تتغير يومياً، فقد يقضي شخص من فئة البدون 20 أو 30 سنة بلا أيّ قيود أمنية، ثم يستيقظ في أحد الأيام ليجد عليه قيداً أمنياً".

    ويعتقد العنزي أنّ معظم هذه القيود "لا يوجد ما يبررها من جانب الجهاز المركزي".


    للمحامييْن العنزي والحميدي تفسيران مختلفان لموقف الجهاز المركزي. إذ يرى العنزي أنّ الجهاز المركزي يعتقد أنّ فئة البدون تخفي مستندات وأوراقاً ثبوتية لدول مجاورة، وبالتالي فإنّ وضع قيود أمنية هو أنسب وسيلة للضغط عليهم من أجل إظهار مستندات جنسياتهم الأخرى. ويصف العنزي مشكلة البدون بـ "كرة الثلج التي تكبر يوماً بعد يوم، فيما يزداد وضع البدون مأساوية مع مرور الوقت".


    فيما يرى المحامي الحميدي أنّ العدد المتزايد من القيود الأمنية يشبه "لعبة أرقام"، يتبعها الجهاز لإظهار أنّ حجم مشكلة البدون هو أصغر مما تظهر عليه. إذ يقدّر عدد "البدون" بـ 100 ألف إنسان وهم في تزايد مطّرد مع حالات الزواج والإنجاب بمرور السنوات. لذلك يرى الحميدي أنّ الجهاز المركزي يسعى إلى تقليص الأعداد المعلنة، فمثلاً "من خلال القيود الأمنية يستطيع الجهاز أن يقول إنّ 10 آلاف من البدون هم عراقيون، و10 آلاف آخرين هم سوريون، و10 آلاف سعوديون، و10 آلاف إيرانيون"، وهكذا "فإنّ مجمل أعداد البدون الذين يحتاجون إلى حلول لمشاكلهم، سيكون 20 ألفاً أو 25 ألفاً فقط، فيظهر الجهاز وكأنّه قام بحل الجزء الأكبر من مشكلة البدون"، حسبما يرى المحامي المختص.

    مخالفات دستورية وقانونية

    الحرمان من العمل، والتعليم، والطبابة والسفر والحصول على الأوراق الثبوتية يشكّل مخالفة للدستور الكويتي. فالمادة 29 من الدستور تنصّ على "أنّ الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين".

    انتقال القيد الأمني أفقياً وعمودياً يشكّل أيضاً عقاباً جماعياً، كما يؤكد الخبير الدستوري د. محمد الفيلي، كما يحدث "خللاً في الضمانات الدستورية" ويخرق الأساس القانوني القائم على أنّه "لا جريمة ولا عقوبة من دون نص". ويشرح د. الفيلي بأنّ المحاكمة "لا تكون عادلة ما لم يتم احترام حق الدفاع عن النفس، كما لا يجوز أن يكون من يوجه الاتهام هو نفسه القاضي، لأنّ هذا لا يتسق مع العدالة".

    المحامي الحميدي يحمل طرحاً مشابهاً. فهو ينتقد "فرض القيود الأمنية من دون أدلة، أو إثباتات أو حتى مواجهة مع الأشخاص الذين تفرض عليهم هذه القيود". ويؤكد أنّ "هذا الإخلال ترسخ أكثر حين أصدرت محكمة التمييز الكويتية في تشرين الأول/ أكتوبر 2017، حكماً يقضي بأنّ هذه القيود هي حق سيادي للدولة"، أي أنّه لا يجوز للمتضررين الطعن بها أو مقاضاة من أصدرها في المحاكم الكويتية.

    وبناءً على هذا، يؤكد الحميدي أنّ القيود الأمنية تخالف المواثيق الدولية التي وقعت عليها الكويت. لكنّه يرى في المقابل أنّ فارضي القيود يستغلون ثغرة في تلك المواثيق. فهي تسمح للأسف، كما يقول الحميدي، باستمرار هذه المخالفات، "الدستور الكويتي والاتفاقيات الدولية التي التزمت بها الكويت تنص على عدم وضع هذه القيود من دون أدلة، لكن للأسف معظم المواد المتعلقة بهذا الأمر في الدستور وكذلك الاتفاقيات الدولية ترافقها جزئية أخيرة، وهي أنّ ذلك يجب ألّا يكون (مخالفاً للنظام العام)"، حسب ما يشرح الحميدي. ويردف "لهذا السبب يُترك هذا الأمر كحق سيادي للدولة، والأمم المتحدة تحترم الأمور المتعلقة بالسيادة، ولا تتدخل في هذه الأمور لأنّ لكل دولة سيادتها".

    مزايا، وابتزاز وتهديد

    مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أعلن رئيس مجلس الأمة الكويتي اقتراحاً لقانون بشأن "البدون"، وُصف بأنّه الحلّ النهائي لقضية البدون. وبعد ثلاثة أشهر، لم يُحَلْ مقترح القانون إلى لجنة الاختصاص أو يعرض للنقاش تحت القبة.

    الناشطة الكويتية في حقوق الإنسان وقضايا البدون هديل بوقريص ترى أنّ مقترح القانون لم يأتِ بجديد "هي ذات شروط الجهاز (لكنّها) وُضعت في إطار تشريعي.. لا جديد".

    مقترح القانون يتحدث عن مزايا للبدون كالتعليم، والعلاج واستخراج الأوراق الثبوتية، على الرغم من أنّها احتياجات أساسية يُحرم منها حاملو القيد الأمني. ويشترط أيضاً أن يبرز البدون جنسية غير الكويتية لينالوا هذه الحقوق أو المزايا كما وصفتها المادة (4) من مقترح القانون، حسب ما توضح بوقريص.

    عضو منصة الدفاع عن البدون د. فهد رشيد المطيري يصف مقترح القانون على حسابه في تويتر، بأنّه ابتزاز وتهديد بغرض الإكراه.

    مداخلة أممية

    في اجتماع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته الخامسة والثلاثين، نفى وفد الكويت التقارير عن إقصاء البدون في المجتمع الكويتي. "يوجد في الكويت من تنطبق عليهم تسميات عديمي الجنسية أو البدون أو غيرها من المسميات المدرجة في الاتفاقيات الدولية، إنّما هم أشخاص نزحوا إلى الكويت بطرق غير شرعية طمعاً بمزايا الجنسية الكويتية"، حسبما جادل ممثل الجهاز المركزي في الاجتماع الذي عُقد في 29 يناير/ كانون الثاني 2020. وأكد أنّ البدون يحصلون على "التعليم والعلاج مجاناً ويحصلون على الوثائق الرسمية ورخص القيادة وبطاقات التموين والعمل بالقطاعين العام والخاص".

    الناشط الحقوقي نواف الهندال حضر اجتماع المجلس ونقل الجلسات عبر حسابه على منصة توتير، لينطلق بعدها هاشتاج #وفد_الكويت_الكاذب على المنصة.

    خارج التغطية

    وجهت مُعدّة التحقيق عدّة مخاطبات إلكترونية إلى "الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين"، وهي وسيلة التواصل الوحيدة مع القيّمين على هذا الجهاز، بين مطلع مارس/ آذار 2018 و13 كانون الثاني/ يناير 2019. تركزت الأسئلة على قانونية وضع القيود الأمنية على أفراد من فئة البدون، وعلى القانون الذي يستند إليه الجهاز في توريث القيود الأمنية للأبناء والأحفاد. ولكن، وحتى نشر هذا التحقيق، لم يصلنا أيّ ردّ من الجهاز، التابع لرئيس الوزراء.

    كما وجهّت معدّة التحقيق أسئلة موثّقة عبر البريد الإلكتروني إلى وزارة العدل ولجنة الشؤون التشريعية والقانونية في مجلس الأمّة الكويتي، لمعرفة الوضع القانوني لحاملي القيود الأمنية وعدد الشكاوى المسجلة لدى الجانبين.

    بموازاة ذلك، حاولنا الاطّلاع على مستجدات هذا الملف لدى منظمة "هيومان رايتس ووتش"، عن طريق نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا السيد مايكل بيج، الذي كان قد التقى في منتصف فبراير/ شباط 2019 مع رئيس الجهاز المركزي الكويتي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية (البدون) صالح الفضالة. وكانت جريدة القبس الكويتية نشرت بتاريخ 18 فبراير/ شباط أنّ الجهاز أجاب عن أسئلة المنظمة في ذلك اللقاء.

    رحب السيد بيج بالتواصل مع معدّة التحقيق عبر حسابه على تويتر، ووعد بالرد على الأسئلة عبر البريد الإلكتروني. لكنّ السيد بيج لم يجب بعد ذلك عبر البريد الإلكتروني، ولا على رسائل تويتر المتكررة.

    قبل أن نغادر حي تيماء الفقير، قال لنا أحمد إنّ مشكلة البدون والقيود الأمنية "ستظل تكبر مع الزمن. بالنسبة لعائلتنا بدأ القيد الأمني بشخص واحد، ثم انتقل إلى أسرته الصغيرة المكونة من ثلاثة أفراد، وبعدها انتقل القيد عبر ثلاثة أجيال من الجد إلى الأبناء ثم الأحفاد، ليشمل 35 شخصاً هم مجموع عائلتنا الكبيرة الآن".

    لسنوات قادمة، ستستمر ظاهرة فرض القيود الأمنية على البدون عبر الأجيال شاملة الأقرباء والأنسباء. قيود تحرمهم من التعليم، والعمل والحلم بمستقبل أفضل. يتشابه المسنّون والشباب في الحشر ضمن رقعة جغرافية وظرف تاريخي لا يتغير، لم يختاروه يوماً، ولم يتسببوا به.

    *اسم مستعار

    مقارنة بين المزايا الممنوحة

    الأوراق الثبوتية
    البدون بقيد أمني
    - جواز السفر مقيد: لا يوجد أو غير مفعّل.
    - بطاقة الهوية: غير صالحة.
    - رخصة قيادة: لا يوجد أو لا تجدد.
    البدون
    - جواز السفر: مؤقت.
    - بطاقة الهوية: مؤقتة.
    - رخصة القيادة: مؤقتة.
    المواطن الكويتي
    - جواز سفر.
    - بطاقة هوية.
    - رخصة قيادة.
    العلاج
    - لا يحظى بعلاج مجاني لعدم توفر بطاقة هوية "إلّا في حالات استثنائية من وزير الصحة"، ويعتمد على العلاج الشعبي.
    - لا يحظى بفرصة العلاج في الخارج.
    - العلاج على نفقته الخاصة.
    - ليس له تأمين صحي.
    - العلاج والسفر للخارج في الحالات الخطيرة.
    - العلاج على نفقة الدولة.
    - إجراء عمليات جراحية.
    - تأمين صحي خاص للمتقاعدين.
    الزواج
    - لا يمكنه الزواج وعقد القران لعدم وجود بطاقة أمنية صالحة، ويعتمد على الزواج العرفي، أي بدون توثيق.
    - بلا دعم مالي من الحكومة وعليه تقديم طلب إذن بالزواج إلى "الجهاز المركزي لمعالجة أوضاع المقيمين بصورة غير قانونية"، ومن دون التصريح لا يمكنه الزواج.
    يستغرق ذلك من ثلاثة إلى ستة أشهر.
    - قرض زواج قدره 4 آلاف دينار كويتي (13 ألف دولار).
    - منحة مالية قدرها 2000 دينار كويتي (6500 دولار).
    - لا صعوبة في عقد القران وتوثيق الزواج.
    التالي
    العمل
    البدون بقيد أمني
    - استحالة فرص العمل سواء في القطاع العام أو الخاص.
    البدون
    - ندرة الحصول على وظيفه حكومية.
    - صعوبة العمل في القطاع الخاص.
    - عدم إمكانية إنشاء مشروع خاص و/ أو نيل دعم حكومي لذلك.
    المواطن الكويتي
    - وظيفه حكومية: متاحة.
    - وظيفه في القطاع الخاص: متاحة.
    - فرص إنشاء مشروع خاص.
    - دعم حكومي لإنشاء مشاريع استثمارية.
    التعليم
    - الأطفال: لا يمكنهم الالتحاق بالمدارس.
    - أبناء البدون لا يمكنهم التعلّم في أيّ مؤسسة خاصة أو في جامعات حكومية أو خاصة.
    - لا يمكنهم الالتحاق بالدراسات العليا.
    - لا يتمتع بالتعليم المجاني (إلّا إذا كانت الأم كويتية ولدى البدون بطاقه سارية).
    - التعليم في المدارس الخاصة برسوم عالية.
    - الالتحاق بالجامعات الحكومية بصعوبة كبيرة، ورسوم باهظة للدراسة في الجامعات الخاصة.
    - قد يُمنع من السفر للدراسة أو يتوقف عن استكمال دراسته في الخارج بسبب عدم تجديد جواز السفر المؤقت.
    - تعليم حكومي مجاني.
    - تعليم في المدارس الخاصة.
    - الالتحاق بالجامعات الحكومية.
    - البعثات الحكومية للدراسة في الخارج.
    - البعثات الحكومية للجامعات الخاصة في الكويت.
    حق السكن
    - لا يمكنه التملك.
    - لا يمكنه استئجار منزل بسبب عدم وجود أوراق ثبوتية.
    - يحظر القانون الكويتي تملّك البدون داخل الكويت.
    - لا يتمتع بأيّ مزايا إسكانية (قدامى العسكريين كانوا يحصلون على سكن منخفض التكاليف قبل الغزو الكويتي).
    - سكن حكومي.
    - بدل إيجار.
    - سكن منخفض التكاليف.
    - استئجار سكن خاص من أفراد.
    السابق