قرية في الدقهلية تتحول لبؤرة إنتاج أعلاف مغشوشة

15 مارس 2014

تحقيق استقصائي

 ولاد البلد – المحمودية قرية عادية ككل قرى محافظة الدقهلية؛ هادئة، وادعة وزراعية، لكنها اكتسبت شهرة إضافية؛ إنتاج الأعلاف المغشوشة للدواجن لا تتضمن أي قيمة غذائية تعبأ في بير السلم من خلال خلط نصف كمية من العلف الأصلي والباقي من بودرة حجر الجير وبقايا المقرمشات فلا تمد الدواجن بالقيمة الغذائية الكافية، الشيء الوحيد المشترك بين العلف الأصلي والمغشوش هو الشكل واللون.

يفدها تجار علف ودواجن من كل أنحاء البلاد لشراء طن العلف المغشوش بسعر يتراوح بين 800 و1200 جنيه مقابل 3800 جنيه سعر طن الأعلاف الأصلية التي تحتوي على مكونات أساسية مثل الصويا والمركزات والذرة ومضادات السموم.

ولتسهيل تسويقها فإن منتجي الأعلاف المغشوشة يعبئونها في شكائر تحمل أسماء شركات رسمية معروفة، وبحسب مسؤولين بشركتين من الشركات المرخصة للإنتاج المحلي فإن المحمودية تمثل بؤرة صناعة الأعلاف المغشوشة في مصر.

هذا التحقيق الاستقصائي الذي استغرق ستة شهور يكشف خبايا مصانع إنتاج العلف المغشوش في المحمودية، والذي تتغذى عليه دواجن يتناولها مواطنون في أنحاء البلاد وتبعات ذلك من أمراض.

نشأت هذه الصناعة في القرية، التي تبعد 130 كيلومترا شمال شرقي القاهرة، منذ ما يقرب من 10 أعوام، بحسب منتجي العلف المغشوش، الذين يحصلون على الجير من تجار مواد البناء وعلى المقرمشات من مخلفات المصانع. وفي المقابل فإن العلف الذي تنتجه شركات مرخصة يتألف من 20 في المائة على الأكثر من المقرمشات والحجر الجيري، وذلك تماشيا مع مواصفة تصنيع الأعلاف 1056 لسنة 1999.

وتشير تقديرات إلى أن حجم إنتاج الدواجن في مصر عام 2011 وصل إلى 800 مليون طائر سنويا تستهلك نحو 2.1 مليار طن من الأعلاف، بحسب تقرير صادر عن الهيئة العامة للتنمية الصناعية .

ويوضح أصحاب المصانع أو العاملين فيها أن المصنع الواحد ينتج 1400 طن يوميا وهناك 20 مصنعا على الأقل في المحمودية وحدها، أي أن إنتاج القرية سنويا من الأعلاف المغشوشة يصل إلى أكثر من 14 مليون طن. ويتوقع تقرير الهيئة العامة أن يصل إنتاج الأعلاف المحلي من شركات مسجلة إلى 2.2 مليار طن عام 2011.

يؤكد عصام منصور، مسؤول المبيعات بإحدى شركات الأعلاف المسجلة، إن الشركة لم ترفع أي دعاوى قضائية ضد وزارة التموين أو أي من مصانع المحمودية؛ وهذا ما يذكره أيضا رفيق شتا المسؤول في شركة أخرى من الشركات المرخصة. كما ينفي وكيل وزارة التموين بالدقهلية محمد نعمان كذلك أن تكون المديرية قد رفعت أي دعاوى على أي من مصانع المحمودية للأعلاف المغشوشة لأن احدا لم يتقدم بشكوى رسمية. 

في قلب المصنع

تسلل كاتب التحقيق إلى داخل أحد مصانع خلط وتعبئة الأعلاف المغشوشة ورصد عملية الإنتاج. داخل المصنع كانت الرائحة العطنة تسود المكان، كما أمكن تمييز رائحة مخلفات المقرمشات بوضوح. “.

في وسط المصنع حيث عملية مزج مكونات العلف المنتج، شوهد ماكينة كبيرة للخلط لها فتحة جانبية كبيرة لإدخال المكونات كلها حتى يتم خلطها معاً. وتندفع المكونات المخلوطة إلى أعلى بقوة حيث تُصب في ماكينة أخرى لها فتحة علوية تشبه القمع حيث يتم تعبئة الشكائر وإعدادها للتسويق.

ويشرح العشريني ت.أ. طريقة غش العلف قائلا “يتم عمل طبقة من المقرمشات توضع فوقها طبقة من الحجر الجيري، بحيث يتم خلط كل طن من مخلفات المقرمشات بستة أطنان من الحجر الجيري بنسبة 1:6. وبعد تقليبها على بعضها ياخدوها ويخلطوها مع العلف الأصلي بنسب تختلف من مصنع لآخر. بعد كده ياخد المصنع العلف المغشوش ويقوم بتعبئته في شكائر تحمل أسماء شركات معروفة، ويتم تسويقه على أنه علف أصلي.

تتبعنا سيارة نقل حمراء اللون خرجت من مصنع ثالث في الصباح الباكر بشرق القرية وهي محملة بالأعلاف، وتوجهت إلى تاجر الأعلاف خميس (هذا ليس اسمه الحقيقي) بمحافظة الفيوم.

يقول خميس إنه يتعامل مع مصانع الأعلاف بقرية المحمودية منذ عدة سنوات، مضيفا أنه يعلم أن العلف الذي تنتجه هذه المصانع “ليس مطابقاً للمواصفات” لكنه أشار إلى أن هذا العلف هو ما يطلبه السوق، مؤكداً أنه ليس مغشوشاً على الإطلاق “لكنه لا يحتوي إلا على القليل من القيمة الغذائية”. 

تجهيز الحجر الجيري

تبدأ عملية تجهيز العلف المغشوش فيما يسمى “ورشة البودرة” لإعداد الحجر الجيري الأبيض اللون، حيث يتم وضعه في كومة كبيرة ويسكب عليه لون أصفر لإكسابه لونا قريبا من لون العلف. تنتهي هذه المرحلة بتحول الخليط الى “بودرة”.

ويوضح سعيد، وهو أحد أصحاب المصانع، أن ورشة تصنيع البودرة لا تحتاج أكثر من عدة أمتار من الأرض، حتى أن البعض يقيمونها أمام منازلهم، أما الحجر الجيري فيتكلف الطن منه 120 جنيها. المكوّن الرئيسي الآخر إلى جانب الحجر الجيري هو بقايا المقرمشات مثل شرائح البطاطس.

شكائر مقلدة

يؤكد تاجر الأعلاف الذي طلب عدم ذكر اسمه أنه يتم طبع شكائر تحمل أسماء تجارية معروفة لاستخدامها في تعبئة العلف المغشوش.

ويوضح محاسب في أحد مصانع المحمودية، وهو مسؤول عن التعامل مع طلبيات الشكائر في مصنعه، أن سعر الشكارة يتراوح بين 1.75 قرش و200 قرش حسب جودة الشكارة. وتابع أن المطبعة قد موجودة في أحد مصانع الأعلاف حيث يطبع لنفسه وللمصانع الأخرى.

ولا يمكن التفرقة بين الشكارة الأصلية والمقلدة حتى للخبير. علاوة على ذلك فإن مصانع الأعلاف المغشوشة تشتري الشكائر القديمة لشركات أعلاف معروفة وتعيد تعبئتها.

منصور، مسؤول المبيعات بإحدى شركات الأعلاف المرخصة، أكد لجريدة “ولاد البلد” أن الشركة على علم بهذه المصانع وقامت بتغيير الشكائر التي تقوم بتعبئة منتجها فيه لتميزه عن المغشوش.

ويضيف أن الخسائر التي تتعرض لها الشركة ليست كبيرة، موضحا أن أعلاف شركته معروفة ولها زبائنها، موضحا أن من يشتري العلف الأصلي يعرف أين يجده ومن يسعى لشراء الأعلاف المغشوشة فإنه يتوجه إلى أماكن بيعها. لكنه رفض تحديد حجم هذه الخسائر. 

محاضر الشرطة تثبت الأعلاف المغشوشة

في 1 يناير 2013، تمكنت الشرطة من ضبط كمية كبيرة من أعلاف الدواجن ‘المغشوشة ومجهولة المصدر’ قبل بيعها بالأسواق. ويوضح محضر الضبطية أنه تم القبض على ع. ر.، وهو سائق، في منية سندوب بالدقهلية وبحوزته 6750 طنا من الأعلاف المغشوشة غير المصحوبة بأي مستندات أو فواتير تُفيد مشروعية حيازتها. وقد اعترف السائق أنه أحضر هذه الشحنة من مصنع بالمحمودية. لكن اسم المصنع لم يرد في المحضر بل تم تحريره ضد السائق فقط لأنه يحمل شحنة بدون أوراق.

وتم سحب عينات من الشحنة بمعرفة لجنة من مديرية الزراعة لإرسالها للمعامل للتحليل، وتحرّر بالواقعة المحضر رقم 26351 جنح مركز المنصورة لسنة 2013. وأثبتت تحاليل معامل مديرية الزراعة عدم صلاحية هذه الأعلاف، كما أكدت التحريات أن مصدر هذه الأعلاف هو أحد مصانع مركزات الأعلاف بقرية المحمودية. ولم يتخذ أي إجراء ضد المصنع كما أن المتهم خرج بكفالة في سبتمبر الماضي، وتم تحويل المحضر إلى المحكمة التي مازالت تنظر القضية.

يقول خالد لطفي المحامي أنه من المعتاد مع مثل هذه النوعية من القضايا أن يتم تحرير محضر وتحريز المضبوطات وعمل قضية للنظر أمام القضاء، وغالبا ما يخرج المتهم بكفالة من النيابة على ذمة القضية.

أما عقوبة الغش في الأعلاف طبقاً للقانون رقم 281 لسنة 1994 فهي الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تجاوز خمس سنوات، وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه ولا تجاوز 30 ألف جنيه، أو ما يعادل قيمة السلعة موضوع الجريمة أيهما أكبر. 

المسؤولون لا يعلمون شيئا

على الرغم من إثبات الأعلاف المغشوشة في محاضر الشرطة شدد المسؤولون في جهاز شؤون البيئة بالدقهلية على أنهم لم يسمعوا عن هذه المصانع.

يقول المدير العام بجهاز شؤون البيئة بالدقهلية المهندس عوض أبو العز إنه لا يعلم شيئا عن هذه المصانع. ويضيف أن الجهاز مسؤول فقط عن شروط وضوابط إنشاء المباني الخاصة بهذه المصانع وفقا للقرار الوزاري رقم 1498 الصادر بهذا الشأن عام 1996.

رغم مواجهته بما أجرته مديرية الزراعة من تحليل لعينة الشحنة المضبوطة وإثبات عدم صلاحيتها يصر وكيل وزارة الزراعة بالدقهلية المهندس أنور سالم على أنه لم تصله أي بلاغات أو شكاوى بهذا الشأن وبالتالي فإنه لا يعلم شيئا عن هذه المصانع ومدى مطابقة منتجاتها للمواصفات. ومع ذلك فقد أكد موظف أصغر بمديرية الزراعة طلب عدم نشر اسمه أن هناك إهمالا من جانب المديرية.

ويتهم المهندس محمد الشناوي، رئيس الاتحاد النوعي للبيئة بالدقهلية – منظمة غير حكومية تعنى بشؤون البيئة – إدارة البيئة بالتقاعس عن رصد هذه المصانع والتأكد من مطابقتها لشروط وضوابط الإنشاء كما يطالب وزارة الزراعة بالنهوض بمهامها في مراقبة جودة منتجات هذه المصانع. 

مصيبة الأعلاف المغشوشة

يؤكد رئيس قسم الدواجن بكلية الزراعة بجامعة المنصورة الدكتور فوزي صديق أن نسبة كربونات الكالسيوم (الحجر الجيري) يجب ألا تتجاوز 5 في المائة من مركزات الأعلاف الخاصة بالدواجن بحسب المواصفة المصرية رقم 1056 لسنة 1999. ويضيف أنه في حالة زيادة الحجر الجيري عن النسبة المقررة فإنه “يؤدي إلى إصابة الدجاجة بالهزال والضعف، وفي حال تجاوزت نسبة الحجر الجيري 50 في المائة فإن ذلك يؤدي إلى نفوق الدجاجة.”

يضيف الطبيب البيطري الدكتور أحمد عبد الله أن تجار الأعلاف في المحمودية “يضيفون نسبة عالية جدًا تصل أحيانًا إلى 50 في المائة بل وأحيانًا أكثر من ذلك.”

وقام عبد الله بتشريح إحدى الدجاجات النافقة بعد تناول هذا العلف فوجد كتلا متكلسة من الحجر الجيري داخل أمعاء الدجاجة ادت الى تليف جهازها الهضمي ونفوقها. 

تحليل أعلاف مغشوشة

قامت “ولاد البلد” بإجراء تحاليل بمعامل كلية الزراعة بجامعة المنصورة على 3 عينات من علف الدواجن المغشوش المنتج في ثلاثة مصانع مختلفة بقرية المحمودية، وذلك لبيان مدى صلاحيته للاستهلاك الحيواني ومدى تأثيره على صحة الإنسان الذي يتناول الدواجن التي تغذت على هذه الأعلاف.

تظهر نتائج التحاليل وجود نسبة عالية جدا من الحجر الجيري في بعض العينات وارتفاع نسبة السموم في عينات أخرى وانخفاض نسب العناصر المفيدة.

فقد أثبتت تحاليل العينة الأولى ارتفاع نسبة الحجر الجيري عن النسبة المقررة إذ بلغت 36.5 في المائة أي بزيادة 31.5 في المائة عن النسبة المسموح بها قانونا وهي 5 في المائة. بينما انخفضت نسبة البروتين بالعينة إلى 13.5 في المائة في حين أنه يجب ألا تقل عن 22 في المائة حسب المواصفة المصرية رقم 1056 لسنة 1999، كما انخفضت نسبة الدهون إلى 5.5 في المائة ويجب ألا تقل عن 7 في المائة.

فيما تبين من تحاليل فحص العينة الثانية انخفاض نسبة الدهون إلى 1.5 في المائة في حين أنه يجب ألا تقل عن 7 في المائة، كما انخفضت نسبة البروتين إلى 17 في المائة ويجب ألا تقل عن 22 في المائة.

ويوضح أستاذ الكيمياء الزراعية ومدير وحدة التحاليل الدقيقة بكلية الزراعة جامعة المنصورة الدكتور رمضان أحمد حسن أن ارتفاع نسبة الحجر الجيري في العينة الأولى عن النسبة المقررة إلى 36.5 في المائة يعرض الدجاج لأمراض كثيرة تصل إلى نفوقها، كما أن انخفاض نسب الدهون والبروتين يجعل العلف بلا قيمة غذائية.

وعن تأثير المواد المضافة إلى العلف، يقول طبيب الأمراض الباطنة والصدرية الدكتور سليمان عبده سليمان إن احتواء الأعلاف المغشوشة على نسبة عالية من مادة الحجر الجيري يعرض من يتناول الدجاج الذي تغذى على هذه الأعلاف للإصابة بالإسهال وقرحة المعدة ويُمكن أن يصاب بالفشل الكلوي

كما أوضحت التحاليل المعملية للعينة الثالثة أن نسبة السموم الفطرية (ميكوتوكسينات) بلغت 25 في المائة في حين أن النسبة المسموح بها يجب ألا تتجاوز 20 في المائة.

يقول أخصائي الميكروبيولوجي الدكتور محمد محمود إن زيادة نسبة السموم الفطرية في العلف عن النسبة المقررة يؤدي إلى تراكمها في جسم الإنسان ما قد يساعد على ظهور خلايا سرطانية. ويضيف أن هذه السموم الفطرية لا تؤدي الى نفوق الدجاج لكن انتقالها إلى الإنسان عن طريق أكل لحومها يؤدي إلى حالات تسمم تتفاوت حدتها حسب كمية السموم، وعلى المدى 

الحل في تدعيم الصناعة

رغم ما أثبتته التحاليل من خطورة ألاعلاف المغشوشة في قرية المحمودية، فإن البعض يرى أنها ليست مشكلة بلا حل، حتى لو كان حلا طويل الأجل.

يؤكد تاجر الأعلاف الأصلية ناصر أن القضاء على صناعة الأعلاف المغشوشة يكمن في تسهيل الدولة إقامة مصانع أعلاف رسمية، بل بتوفير الدعم لهذه الصناعة. ويوضح قائلا إن هذه الصناعة كثيفة العمالة وبالتالي تساعد البلاد على التغلب على مشكلة البطالة.

ويطالب الشناوي الدولة بمراقبة هذا النشاط أولا والتأكد من عدم مخالفته للقوانين بالإضافة إلى دعم صناعة الأعلاف التي تخلق فرص عمل.

تم اعداد هذا التحقيق الاستقصائي بدعم من شبكة أريج اعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربيةwww.arij.net ضمن برنامج تدعيم الإعلام لتغطية قضايا الإدارة العامة في المحافظات


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *