"فضلات استشفائية" خارج الرقابة

17 نوفمبر 2016

تحقيق: درة بن عبد القادر

تاب -على الطريق المؤدية إلى مصب نفايات “برج شاكير” وبالقرب من حي العطار، الواقع على بعد نحو عشرة كيلومترات عن العاصمة تونس، تلفحك روائح خانقة وتظللك سحب غبار منبعث من أكداس القمامة التي بالكاد تترك لك المجال لالتقاط أنفاسك، ثم ما تلبث أن تصل إلى درجة تتعود بها على هذا الجو الذي يعكس نوعية حياة تفتقر لأدنى مقومات السلامة الصحية والبيئية.

نفايات، على اختلاف مصادرها، منزلية كانت أو صناعية وحتى استشفائية، خطرة غير معالجة أو عادية، غالبا ما تجد طريقها، إلى هذا المصب الذي تم إحداثه سنة 1999، والذي يعد من أكبر المصبات المراقبة في تونس الكبرى، لتترك لمصيرها في الطبيعة إلى حين طمرها في أديم الأرض.

ففي “برج شاكير” تدفن، سنوياً نحو مليون طن من النفايات بمختلف أنواعها، بمعدل يتراوح بين 2700 و3000 طن يومياً، وهي كميات تطرح تحديات عدة على مستوى   النقل والتعاطي الآمن معها خاصة في حالة النفايات الخطرة غير المعالجة التي قد تتهدد صحة الإنسان والطبيعة على حد السواء ومنها بالأساس النفايات الاستشفائية الخطرة.

بحسب وزارة الصحة تتكون المنظومة الصحية في: القطاع العام – 23 مستشفى جامعي – 35 مستشفى جهوي – 108 مستشفى محلي – 2100 مركز صحة أساسيةالقطاع الخاص 91 مصحة خاصة

 وتفرز المؤسسات الاستشفائية العمومية حوالي 16 ألف طن من النفايات في السنة، 43 بالمائة منها (أي ما عادل 7000 طن)، نفايات خطيرة، حسب آخر دراسة صدرت عام 2009، عن الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات التابعة لوزارة البيئة.

وفي مشاهد تتكرر يومياً أمام أعوان وعمّال المصبات، يتسرب جزء هام من النفايات الاستشفائية الخطرة دون معالجة على متن جرارات البلديات أو شاحنات تابعة لشركات مختصة في التصرف الآمن في هذه النفايات، إلى داخل مصب برج شاكير، بما يمثل خطراً يتربص بالقاصي والداني في منطقة العطار والعاملين به.

ويكشف هذا التحقيق خللاً تعاقدياً ومخالفات تأتيها المستشفيات في مجال التصرف في النفايات الاستشفائية الخطرة بالإضافة إلى ضعف رقابة الوكالة الوطنية لحماية المحيط، في فوضى الإلقاء العشوائي للفضلات الطبية الخطرة دون معالجة في المصبات المراقبة بما يتهدد الصحة والبيئة.

 

خلل تعاقدي

تعريف النفايات الخطرة 

تعتبر نفايات أنشطة صحية خطرة على معنى الفصل 5 من الأمر عدد 2745 لسنة 2008 المؤرخ في 28 جويلية 2008 المقترح من وزيري الصحة والبيئة والتنمية المستديمة والمتعلق بضبط شروط وطرق التصرف في نفايات الأنشطة الصحية:

  • النفايات الواخزة والقاطعة (الأدوات والمعدات الواخزة والقاطعة الآيلة للترك كالإبر والمباضع وشفرات والسكاكين وقطع البلور والمسامير)
  • النفايات المتعفنة (النفايات الملوثة بصفة مؤكدة أو محتملة بعناصر مرضية مكثفة)
  • النفايات البيولوجية المكونة كليا أو جزئيا من مواد أو خلايا بشرية (الأجزاء التشريحية التي يصعب تحديدها والأنسجة المخصبة او المختلطة أوالملوثة بمواد عضوية أو مواد متأتية من الدم)النفايات الكيميائية (تفرزها الصيدليات أو ما شابهها والمتأتية من الأقسام والمخابر
  • النفايات القابلة للاشتعال
  • والانفجار الأعضاء البشرية (المشائم والأجنة والموتي)

نفايات استشفائية خطرة يتم القاؤها كيف ما اتفق وسط غيرها من الفضلات العادية، وأخطار تهدد كافة العاملين في القطاع الصحي والمشتغلين في خدمات الدعم المرتبطة بمرافق الرعاية الصحية ومرتادي العيادات الخارجية والمرضى المقيمين بالمستشفيات والعاملين في مرافق التخلص من النفايات وسكان المناطق القريبة من المصبات، حسب الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات.

كما تقر الوكالة بأن نفايات الأنشطة الصحية قد تتسبب بأمراض جراء تلوثها بميكروبات شديدة العدوى وفتاكة وبمواد شديدة السمومة للخلايا البشرية وبأدوية ومواد كيميائية خطرة ومواد مشعة مهلكة وأخرى حادة وقاطعة للأنسجة البشرية. وقد ينتج عن التعرض إلى هذه المواد الإصابة بالعوز المناعي المكتسب (السيدا / الإيدز) والتهاب الكبد الفيروسي (أ- ب – ث)، والتهابات جلدية وتسممات مختلفة وحروق وجروح وخدوش بالإضافة إلى ملوثات بيئية (تلوث التربة والموارد المائية والهواء).

مختلف هذه المخاطر وردت في شكوى متساكني منطقة العطار والعاملين بمصب برج شاكير لمعدة التحقيق على غرار محمد علي الطرابلسي العامل سابقاً بهذا المصب، الذي بات لا يبارح كرسيه المتحرك بسبب وخزة حقنة طبية مستعملة وملوثة تم إلقاؤها دون معالجة بين النفايات في مصب برج شاكير.

وأكد الطرابلسي في حديثه لمعدة التحقيق، ” لقد أصبت بوخزة إبرة سنة 2013، كانت وراء تعفن رجلي التي راحت ضحية النفايات والمصب، الذي قضيت فيه سنوات من العمل، وأكد لي الفريق الطبي أن التعفن في رجلي لا يمكن معالجته إلا بالبتر، خاصة أني مصاب بمرض السكري الذي يمثل أحد عوامل الاختطار وساهم في تعكر الإصابة”.

ظاهرياَ، وإن تم التسليم بأن الأمور تسير على ما يرام داخل أسوار المؤسسات الاستشفائية وعمليات الفرز تتم كما ينبغي لها ذلك، وفقا لمقتضيات الأمر الوزاري عدد 2745 لسنة 2008 المؤرخ في 28 جويلية 2008 المتعلق بضبط شروط التصرف وطرق التصرف في نفايات الأنشطة الصحية، إلا أن المستشفيات بجميع أصنافها لا تمتلك السلطة الرقابية على تلك النفايات خارج أبوابها، رغم أن القانون لا يعفيها من المسؤولية على توابعها والإلقاء بها في الطبيعة كما اتفق.

وينص الفصلان التاسع والثالث عشر على التوالي على وجوبية فرز نفايات الأنشطة الصحية الخطرة عند مصدرها بحسب طبيعتها وخصوصيتها وعلى أن توضع هذه النفايات في حاويات تحمل عبارة ” نفايات خطرة ” بصورة واضحة وغير قابلة للمحو مع تحديد الهياكل والمصالح والأقسام المنتجة لها.

ورغم أن ترسانة القوانين التي تنظم عملية التصرف في النفايات الطبية، القاضية أيضاً بتعاقد أغلب المستشفيات مع شركات تقوم بعملية جمع النفايات الخطيرة ونقلها والتصرف فيها طبقاً للفصل الثامن من الأمر عدد 2745 لسنة 2008 المؤرخ في 28 جويلية 2008، فان الإلقاء العشوائي للفضلات الصحية لا يزال مستمراً من قبل الشركات ومصالح البلدية المكلفة بجمع النفايات بشكل عام، بما يمثل مصدر خطر يتهدد البيئة والصحة على حد السواء.

ومن المفارقات أنه لا يوجد أي فصل قانوني ينص صراحة على حق المؤسسة الاستشفائية في فرض رقابة على مسار نفاياتها خارج أسوارها وطرق التصرف فيها من قبل الشركات المختصة في التصرف الآمن فيها ومتابعة جودة الخدمات محور التعاقد بين الطرفين كما انه يتبين بالاطلاع على العقود المبرمة بين المستشفيات والشركات المختصة في التصرف الآمن في النفايات الطبية غياب أية بنود تسمح للمؤسسات الاستشفائية بمتابعة مسار نفاياتها. 

ففصول العقد، الذي تحصلت معدة التحقيق على نسخة منه، ينص فقط على أن الرقابة تتم عن طريق وصولات تقدمها الشركات المكلفة بالنقل والتصرف في النفايات للمستشفيات، للتثبت من أنها قد قامت فعلاً بإيصال النفايات إلى المصب دون التثبت من قيام الطرف الثاني بمعالجتها من عدمه حيث لا يملك المستشفى، حسب بنود العقد، حق معاينة طريقة المعالجة قبل الوصول الى المصب.

وتقتصر عملية الرقابة عليها فقط من قبل الوكالة الوطنية لحماية المحيط، التي تتحرك غالباً عقب إعلام أو شكوى بشأن وقوع تجاوزات، تتقدم بها خاصة الشركات التي تتصرف في المصابات المراقبة والتي يؤكد القائمون عليها أن شكاياتهم لا تجد آذانا صاغية، ليستمر بذلك الإلقاء العشوائي للفضلات الصحية خطراً يتهدد العاملين في المصبات والعملة الذين يقومون بفرز النفايات خاصة في المصبات العشوائية “البرباشة” وعلى متساكني المناطق المجاورة للمصبات.

وأكد مسؤولو حفظ الصحة بالمستشفيات التي تمت زيارتها، أن مهمة الرقابة، على مسار النفايات خلال المرحلة ” خارج أبواب المستشفى إلى مركز المعالجة ومنه الى المصب” موكولة إلى الوكالة الوطنية لحماية المحيط، وليس للمؤسسة الاستشفائية أي علاقة بها، وهو ما اعتبروه خللاً قانونياً واجرائياً يجب تفاديه. 

وأفاد مسؤول بالوكالة الوطنية لحماية المحيط، فضل عدم الكشف عن هويته، أن فرق المراقبة التابعة للوكالة حررت عدة محاضر ضد شركات مخالفة مختصة في مجال التصرف في النفايات الصحية سنة 2015 بعد زيارة خمس مؤسسات في ولايات تونس. كما قامت بثماني عمليات مراقبة لهذه المؤسسات، خلال ذات السنة واتخذت في حق ثلاثة مؤسسات مخالفة إجراءات قانونية لردعها والحد من التلوث.

%d8%af%d8%b1%d8%a93

ويعمل 30 مراقباً محلفاً فقط، بالوكالة الوطنية لحماية المحيط، لمقاومة كل أشكال التلوث في 24 ولاية للبلاد التونسية، مما يجعلها تشكو نقصا في الموارد البشرية ويجعل مهمة الرقابة على كل المجالات صعبة حسب تقدير هذا المسؤول، الذي أغفل أنه بمقتضى الفصل الأول من القانون عدد 91 لسنة 1988 المؤرخ في 2 أوت 1988 المتعلق بإحداث الوكالة الوطنية لحماية المحيط، يمكن للوكالة الاستعانة في عمليات الرقابة بالخبراء المراقبين التابعين لها والمؤهلين خصيصاً للغرض وأعوان القطاع العام المؤهلين أيضاً للقيام بمهمة المراقبة.

 

العقوبات التي يفرضها القانون في مجال التصرف في النفايات

ينص القانون عدد 41 لسنة 1996 المؤرخ في 10 جوان 1996 المتعلق بالنفايات وبمراقبة التصرّف فيها وإزالتها في الفصل 47 (جديد) على أنه:

يعاقب بالسجن من شهرين إلى عامين وبخطية يترواح مقدارها من مائة الى خمسين ألف دينار أو بإحدى العقوبتين فقط كل شخص تعمّد تسليم نفايات الى من ليسوا مستغلين لمؤسسات ومنشآت مصادق عليها للتصرف في ذلك الصنف من النفايات أو تعمّد إزالة نفايات في منشآت لم يلتزم مستغلوها بكراس الشروط و كل شخص تعمّد مخالفة أحكام الفصلين 13 و14 من هذا القانون أو تعمّد إزالة نفايات في منشآت لم تتحصّل على الترخيص المنصوص عليه بالفصل 31 مكرّر من هذا القانون أو يقم بتبليغ المعلومات المطلوبة في الفصل 34 من هذا القانون الى الإدارة أو أدلى بمعلومات خاطئة.

كما تنطبق أحكام هذا الفصل على كل شخص تعمّد مخالفة الشروط المنصوص عليها بالفصل 36 من هذا القانون والمتعلقة بتكييف ونقل وعنونة النفايات الخطرة أو تعمّد مخالفة التراتيب المنصوص عليها بالفصل 38 من هذا القانون والمتعلّقة بالحدّ من إنتاج النفايات الخطرة أو تعمد مخالفة التراتيب المنصوص عليها بالفصل 41 من هذا القانون.

مستشفيات مخالفة للقانون

وفي الوقت الذي توكل فيه المؤسسات الاستشفائية المتعاقدة مع شركات مختصة في التصرف الآمن في النفايات الصحية مهمة معالجة نفاياتها والتصرف فيها ونقلها إلى المصبات، تظل المؤسسات غير المتعاقدة تتكبد عناء معالجة هاته النفايات بمفردها،  لتلقي بها بعد ذلك لمصالح البلدية غير المؤهلة  للتصرف في النفايات الاستشفائية، وليتولى لاحقا أعوان البلدية الإلقاء بها  في مصبات  النفايات مباشرة على غرار ما يحدث في  مستشفى البشير حمزة بتونس العاصمة / مستشفى الأطفال/  الذي لم يتوصل الى إبرام أي اتفاقية مع  شركة مختصة  إلى حين  كتابة هذا التحقيق.

وبذلك تخالف إدارة هذا المستشفى مقتضيات الفصل 8 من الأمر عدد 2745  الذي ينص على أن تتولى بنفسها “معالجة وإزالة النفايات الناتجة عن أنشطتها، و بأجهزة كفيلة بمعالجة وإزالة هذه النفايات طبقا للمواصفات المعمول بها وطنياً ودولياً، وأن تبرم اتفاقية كتابية مع مؤسسات خدمات تكلف بعمليات نقل ومعالجة وإزالة تلك النفايات طبقاً لذات المواصفات”.

ويوضح عبد العزيز الرازقي مسؤول حفظ الصحة في المستشفى العمومي البشير حمزة، أن “تطبيق القانون مكلف” حيث أن تكاليف التصرف في نفايات المستشفى المقترحة من قبل الشركة التي استجابت لطلب العروض للتصرف في النفايات الطبية مكلف جداً، والميزانية لا تسمح به، مبرراً بذلك عدم التوصل إلى التعاقد مع شركة لمعالجة النفايات الاستشفائية، ومواصلة هذه المؤسسة تجاوز القانون وإلقاء فضلاته مباشرة من خلال المصالح البلدية المكلفة بذلك.

ولذلك تتم، حسب قوله، عملية فرز النفايات من المصدر أي بالمستشفى، ووضعها في الأوعية المخصصة لها، طبقا لمقتضيات القانون، لتترك لاحقاً إلى مصيرها بجانب أكياس القمامة العادية ذات اللون الأسود وفق ما عاينته معدة التحقيق، وتنقل فيما بعد من قبل أعوان البلدية، مباشرة إلى مصب المراقب “برج شاكير” بما أنه المصب الذي يستقبل جميع أصناف النفايات.

في جولة بين المستشفيات الكبرى وسط تونس العاصمة، والجهوية والمحلية وفي بعض مراكز الصحة الأساسية بعديد المناطق من البلاد، وقفت معدة التحقيق على حجم التجاوزات التي تقترف على مرآى من جميع الأطراف المتدخلة.

وفي الوقت الذي يفرض فيه الفصل 9 من الأمر عدد 2745 لسنة 2008 إجبارية فرز نفايات الأنشطة الصحية الخطرة عند مصدرها، تلقي مراكز الصحة الأساسية، والمستشفيات المحلية، نفاياتها الصحية العادية والخطرة دون معالجة.

وتضطر هذه المراكز لترك مهمة التخلص من نفاياتها على اختلاف درجة خطورتها إلى المصالح البلدية غير المؤهلة للتصرف في هذا الصنف من النفايات أو للإلقاء بها أحياناً عدة في الطبيعة بما تشمله من إبر وضمادات وغيرها من الفضلات المتأتية من الأنشطة الصحية   لتحرق لاحقاً وتنبعث منها الغازات في الهواء الطلق.

وتؤكد وكالة التصرف في النفايات في دليل أفضل الممارسات في التصرف في نفايات الأنشطة الصحية، لسنة 2015 أن حرق نفايات الأنشطة الصحية يتسبب في انبعاث غازات سامة في الهواء: الديوكسين والفيران، ويعد المصدر الثاني لإفراز هذين الملوثين العضويين.

ورغم التزام المؤسسات الاستشفائية وخاصة منها الجهوية والجامعية بمقتضايات الفصل 13 من الأمر عدد 2745 لسنة 2008 القاضي بإجبارية وضع نفايات الأنشطة الصحية الخطرة في حاويات تحمل عبارة “نفايات خطرة” بصورة واضحة وغير قابلة للمحو مع تحديد الهياكل والمصالح المنتجة للنفايات، غير أن عدد هام منها لم تحترم معايير التخزين الوسيط.

ففي جولة قادت معدة التحقيق إلى خمس مستشفيات جامعية، وثقت بالصور والمعاينة مخالفة أغلب هاته المستشفيات / الرابطة والبشير حمزة وشارل نيكول ومحمود الماطري/ مقتضيات الفصل 14 من ذات الأمر القاضي بإجبارية تخزين نفايات الأنشطة الصحية الخطرة في محل وسيط للخزن مهيأ للغرض بكل وحدة أو قسم طبي أو في محل محاذ لها مباشرة.

وتتمثل هذه المخالفات في وضع مختلف أصناف النفايات الخطرة والعادية في أماكن مفتوحة وفي بعض الممرات وأمام الأقسام الطبية، في متناول المارة ومعرضة للأمطار والقوارض والحشرات والحيوانات / قطط وكلاب/، إلى حين تتكفل المؤسسة المختصة المتعاقدة بمعالجتها ونقلها إلى مصب برج شاكير.

مصب برج شاكير … مقبرة لكل النفايات

مأساة سكان منطقة العطار مع مصب برج شاكير، تختزل شتى أشكال المعاناة، في المناطق المحيطة بالمصبات وتخبر عن حجم شكوى المتساكنين من أجوار أذاقوهم المر ألوانا حتى ألفوهم وتركوا بصمتهم في الماء والهواء والتربة وصحة السكان الذين اشتكى عدد منهم لمعدة التحقيق ضنك الحياة وقساوتها.

%d8%af%d8%b1%d8%a92

في مصب برج شاكير، كما في مصب الرحمة بولاية نابل، اختلط الحابل بالنابل، وكثيراً ما يتعرض العمال على غرار محمد علي الطرابلسي إلى حوادث جراء النفايات الخطرة ومنها الاستشفائية، وإلى أمراض جلدية وتنفسية وفيروسية عدة، حيث كشف عدد ممن إلتقت بهم معدة التحقيق في المصبين (نتحفظ على ذكر أسمائهم)، أنهم يجدون فضلات متأتية من المستشفيات مباشرة دون معالجة؛ ضمادات ملطخة بالدماء وأحيانا أطرافاً بشرية مبتورة وغيرها من الأدوات الطبية الواخزة التي قد تعرض حياتهم للخطر.

ويؤكد جلال النفطي مدير عام مساعد بشركة “ايكوتي” المستغلة لمصب برج شاكير وأربعة مصبات أخرى منها مصب الرحمة، أن عشرات الشاحنات التابعة لشركات خاصة وللمصالح البلدية ترد على مصب برج شاكير يومياً محملة بأطنان من النفايات بمختلف أصنافها ومنها الاستشفائية الخطيرة، لتلقي بها هناك دون معالجة، ودون إزالة مخاطر التلوث منها، رغم الرقابة التي يقوم بها العمال هناك. 

ولاحظ النفطي، قائلاً “عندما نفتح الأكياس البلاستيكية نجد فيها إبرا وحقناً، وفضلات وأوساخ عمليات جراحية ملوثة بالدماء وأحياناً نعثر على أعضاء بشرية مبتورة”، رغم توفر النصوص القانونية التي تفرض عملية التصرف في النفايات الاستشفائية الخطيرة.

ويؤكد أن تقاريراً حول عديد التجاوزات /تحفظ عن عددها/ رفعتها الشركة منذ توليها استغلال المصب سنة 2014 ورفعتها إلى الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات لإعلامها بهذه المخالفات حتى تتخذ الإجراءات اللازمة، لكن ظلت دون صدى.

ويتم التعاطي مع النفايات الواردة على المصبات المراقبة التي تشرف عليها الوكالة الوطنية للتصرف، بطريقة الردم أو دفن النفايات ومنها النفايات الطبية الخطرة المعالجة وطمرها في أحواض تحفر في الأرض وهي طريقة شائعة في أغلب البلدان، وتتطلب تدابير خاصة مثل اختيار موقع إنشاء المصب من الناحية الجغرافية، لتسمح بمراقبة التربة والطبقة المائية ومنع التلوث وهذا ما لا ينطبق على مصب برج شاكير الواقع على بعد زهاء 300 متر عن المنازل المتداعية بحي العطار.

وضعية مصب برج شاكير كغيره من مصبات النفايات في تونس، تضرب عرض الحائط بمقتضيات الفصل 24 من القانون عدد 41 لسنة 1996 الذي ينص على أن  يتم التصرف في النفايات بدون التسبب في أي  خطر على صحة  الإنسان وبدون أن تستعمل طرق أو أساليب يمكن أن تضر بالبيئة، وخاصة الماء والهواء والتربة والأحياء الحيوانية والنباتية وبدون أن تتسبب في إزعاج بالضجيج أو الروائح وبدون الاضرار بالمشاهد الطبيعية والعمرانية.

استدامة معاناة أهالي منطقة العطار

كثيرون هم من تحدثوا لمعدة التحقيق عن ألوان المعاناة المتراكمة على مرأى ومسمع الجميع، ومحمد على الطرابلسي، وغيره كثيرون ممن تضرروا جراء النفايات على اختلاف أصنافها وبطرق مختلفة، فألفة (سيدة في العقد الثالث من العمر، متزوجة وأم لطفلين)، التي تقطن على بعد أمتار من مصب النفايات ببرج شاكير، لم تنقطع عن السعال خلال حوار أجرته معها معدة التحقيق.

يهتز صدرها مراراً وتكرارا، لتلتقط أنفاساً متقطعة، بسبب مرض الربو الذي أدركت خلال شهر ماي المنقضي، أنها مصابة به جراء استنشاق الهواء الملوث بجزيئات تتسبب في عديد الأمراض التنفسية والحساسية، في محيط المصب.

تتوجس ألفة من مستقبل غير واضح لها ولأبناء المنطقة جراء التلوث في جميع المجالات ورحلة معاناة مع الأمراض المزمنة قائلة ” قد أجريت مؤخراً تحاليل واكتشفت أني مصابة بالربو، إنها بداية مأساة مع الأمراض المزمنة التي تتطلب علاجاً مستمراً ونفقات إضافية قد لا أقدر عليها”.

ويؤكد البروفسور المختص في علوم السموميات وطب الشغل بمستشفى الرابطة، عبد المجيد بن جمعة، أن التعرض المستمر للروائح التي تفرزها أطنان من النفايات المتعددة المصادر (منزلية، استشفائية، صناعية وغيرها …)، يتسبب في أمراض تنفسية متعددة تبدأ بحالات السعال المستمر والتهابات القصبات الهوائية المتكررة، لتصبح معاناة مستمرة من أمراض الحساسية في الصدر والتهاب الملتحمة وأيضا الالتهابات الجلدية كالأكزيما وغيرها.

ويضيف أن الروائح والغبار الذي يحملها الهواء تحتوي غازات سامة، منها سلفيد الهيدروجين (هاش دو سH2S) الذي يسبب استنشاقه مشكلات صحية منها التهاب القصبات الهوائية والالتهابات الجلدية.

تقر وكالة التصرف في النفايات الوضعية بهاته البيئية المتردية ضمن دليل أفضل الممارسات للتصرف في نفايات الأنشطة الصحية لسنة 2015، حيث تؤكد أن مشكل النفايات الاستشفائية، يطرح بحدة لعدة أسباب أهمها تزايد الكميات المنتجة من هذه الفضلات جراء تطور النشاط الصحي ارتفاع عدد المؤسسات والهياكل الاستشفائية سواء العمومية أو الخاصة بالإضافة إلى تطور وتنوع استخدام الآلات ذات الاستعمال الواحد.

كما عزت الوكالة ذلك إلى قلة وعي مهنيي الصحة والمحيط بحجم المخاطر الصحية والبيئية والنفسية التي قد تتسبب فيها هذه النفايات بالاضافة إلى الجهل بالأطر القانونية المنظمة لهذا القطاع وسوء تطبيقها وعدم احترامها على مدى مسار التصرف في النفايات وخاصة الجهل بمسؤولية المنتج الملوث.

كما أشارت الوكالة في ذات الوثيقة إلى أنتأزم مشكل النفايات الاستشفائية في تونس يعود أيضا إلى نقص التجهيزات والمعدات والمواد الاستهلاكية الضرورية للتصرف الأمثل في هذا الصنف من النفايات ومشاكل التزود ونفاذ المخزون المتكرر منها بالإضافة إلى عدم الإلمام باجراءات التصرف في النفايات الاستشفائية ومنها   الفرز الأولي وضعف جهود التوعية والتكوين في هذا المجال.

الوضع البيئي في برج شاكير يهدد بالكارثة

الوضع البيئي في منطقة العطار وضواحيها أمسى، ينذر بكارثة بيئية تهدد صحة المواطن، كما أديم الأرض والهواء، وفق الجمعية البيئية ” اس او اس بيئة ” التي قامت بتحليل نوعية الهواء في نقاط قريبة من مصب برج شاكير، (تم رفع العينات في 3 مارس 2016 ونتيجة التحليل في 15 مارس 2016) لدى مخبر مختص.

وأفاد بنتائجه رئيس جمعية ” أس أو أس بيئة” مرشد قربوج، معدة التحقيق، بنتائج التحليل الذي كشف أن نسبة سلفيد الهدروجين تتراوح بين 750 ملليمول / في المتر المكعب إلى 2000 ملليمول في المتر المكعب، وذلك حسب موقع نقطة الاختبار، وهذه النسبة تعتبر مرتفعة جداً مقارنة بالمعايير الدولية والوطنية المحددة بـ 200 ميللمول / في المتر المكعب. 

وسلفيد الهدروجين، هو غاز عديم اللون، ذو رائحة نافذة كريهة، يدخل في صناعة أدوية ويستخدم في التحاليل الكيميائية. وينتج سلفيد الهدروجين عن عملية تحلل الكتلة الحيوية في الجثث والقمامة بسبب تخمرها وفسادها.

ويتسبب التعرض لنسب عالية من هذا الغاز في الإصابة بالسعال، وضيق التنفس، والدوار، والصداع، والتهاب ملتحمة العين، وفق مقالات علمية نشرها الموقع الالكتروني “آفاق علمية وتربوية”  “http://al3loom.com/?p=4941” HYPERLINK

والموقع الالكتروني “عالم النفط والغاز “ https://sites.google.com/site/sypeteng/research HYPERLINK

وقد رصدت معدة التحقيق مختلف هذه الأعراض خلال لقائها العشرات من المتساكنين   بحي العطار المحاذي لمصب برج شاكير، حيث كان معظمهم يشتكي السعال المستمر، وأوجاع في الرأس، وطفح جلدي..

أحواض مياه الرشح ” اللكسيفيا” غير مطابقة لمعايير الحفاظ على البيئة

 تدهور الوضع البيئي في برج شاكير تعمق بسبب تعطل عمل محطة معالجة اللكسيفيا (مياه الرشح) التي تسلمها المستغل الجديد “ايكوتي”معطبة. واللكسيفيا هي عصارة النفايات وتمثل مصدراً خطيراً للتلوث.

وأبرز مرشد قربوج رئيس جمعية “أس أو أس بيئة” خلال ندوة صحفية انتظمت يوم 15 ماي 2016 للتنبيه إلى المخاطر البيئية في منطقة العطار، أن الوضع البيئي متدهور في المنطقة خاصة أن تسرب مادة الليكسيفيا غير المعالجة، من شأنه أن يفتك بالتربة ويتسبب في عقمها، بالإضافة إلى تلوث الطبقة المائية وانتشار الغبار المتطاير عند سكب الفضلات والمشحون بالميكروبات والجراثيم والغازات السامة المتسربة من عملية حرق النفايات في الهواء.

وتفيد تحاليل ” آس أو آس بيئة ” التي أنجزتها خلال شهري فيفري ومارس 2016، على عينة من المياه والتربة والهواء من منطقة العطار المحاذية للمصب، لدى المركز المتوسطي للتحاليل البيئية والصناعية /مختص/، أن التلوث في هذه المنطقة تجاوز كل المعايير. فقد أثبتت تحاليل المياه المخصصة للاستعمال البشري بالمناطق المحاذية للمصب ارتفاع نسب النيترات والفلوريد وارتفاع نسبة الكلوريد والصوديوم في المياه إلى حدود ثلاثة أضعاف المعايير المعتمدة، حيث بلغت نسبة تركز الصوديوم في بعض الحالات إلى 772 مغ في اللتر (كما توضحه الجداول المرفقة للتحقيق) بما يغير مذاق المياه ويجعله غير صالح للشرب / المعدل المسموح به 200 مليمتر في اللتر/.

ورغم حاجة جسم الإنسان إلى كمية محددة من الصوديوم، إلا أن المعدلات المسجلة في هذه التحاليل، فاقت المعدل المسموح به في المياه، بما يؤدي إلى تزايد نسبة الاصابة بارتفاع ضغط الدم. وتعد هذه النسب مرتفعة وغير منصوح به لمرضى ضغط الدم والقلب والكلى.

ووصف جلال النفطي مدير عام مساعد شركة ايكوتي أن “مصب برج شاكير بأنه كارثة”، موضحاً قوله: “عند تولينا استغلال مصب برج شاكير سنة 2014 كانت هناك العديد من أحواض تجميع النفايات دون أدنى حماية وهي تحتوي على مواد خطيرة”، مضيفاً أن “محطة معالجة اللكسيفيا، ذات طاقة 400 متر مكعب في اليوم كانت معطبة منذ استعلامها إلى حد كتابة هذه الاسطر.

ولاحظ أن” ايكوتي “المستغلة للمصب طلبت عديد المرات من الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات اصلاح المحطة، لكن الوكالة كانت في كل مرة تماطل، معللة ذلك بالإجراءات الإدارية المعقدة حسب تقديرها” موضحاً أن التعامل مع النفايات داخل المصب يتم حالياً من خلال “وضع النفايات داخل أحواض كبيرة، تفيض منها مياه اللكسيفيا، حتى قبل امتلائها بالنفايات، بالإضافة إلى وجود تسربات لهذه المادة تنذر بكارثة”.

وكالة التصرف في النفايات تتعلل بالإجراءات الادارية

معدة التحقيق توجهت إلى منسقة مشروع أحكام التصرف في نفايات الأنشطة الصحية، عفاف سيالة، لاستفسار عن أسباب تواصل تعطل محطة معالجة مياه اللكسيفيا، فأكدت أن ملف اصلاح المحطة يتم العمل عليه حالياً وأن معالجة هذه المادة تتم حسب طريقة “أوسموس انفرس” أو “الترشيح العكسي “وهي طريقة عالمية متقدمة تسمح بالمعالجة الكلية للمياه.

أما عبد المجيد حمودة، المدير العام للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، أكد أن الوكالة تسعى للمحافظة على مصب النفايات برج شاكير الذي يستوعب أطناناً من النفايات لأربع ولايات مؤكداً أن أشغال صيانة محطة معالجة اللكسيفيا، ستنطلق، قريباً، حتى يتم تلافي عدة إشكاليات متعهداً بأن تكون جاهزة مع نهاية السنة على أقصى تقدير.

وأكد أنه تم وضع استراتيجية وطنية للنهوض بالطرق المثلى للتصرف في نفايات الأنشطة الصحية، تندرج في إطار خطة عمل وطنية لوضع اتفاقية استكهولم حول الملوثات العضوية الثابتة حيز التنفيذ، يتم العمل في نطاقها على إزالة انبعاث الملوثات العضوية الثابتة بالبلاد التونسية قصد القضاء على تأثيراتها السلبية على صحة البشرية والبيئة.

كما أشار إلى العمل على إحداث مشروع للأقطاب البيئية سيشرع في انجازه في غضون السنوات القليلة القادمة.

وتعلق في تونس آمالاً كبيرة على قرار إحداث سلك للشرطة البيئية عله يخفف من تدهور الوضع البيئي الراهن ومن وطأة معاناة محمد على الطرابلسي وأهالي برج شاكير عامة ومن خلالهم أهالي المناطق الواقعة في محيط مصبات النفايات، من أجل ضمان الحقوق الدستورية في الصحة وبيئة سليمة.

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) وبإشراف الزميلين مارك هنتر وبهيجة بلمبروك


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *