قطينة.. المنكوبة بالتلوّث بانتظار معجزة تعيدها إلى الحياة

16 أبريل 2007

تحقيق: علي حسّون

خليط من الضجيج والروائح والمفرزات الناتجة عن ثلاثة مصانع أسمدة مع مخلفات الرحبة العسكرية ومصفاة البترول القريبة من هذه القرية الزراعية الوادعة المطلة على بحيرة قطينة حوّلها إلى منطقة منكوبة بيئياً يتعايش سكانها مع أمراض مستعصية بين تحسّس وضيق تنفس وسرطانات وتشوّهات خلقية قلبت حياتهم إلى جحيم مزمن وسط حالة من الإهمال الرسمي والمراقبة غير الفعالة.

في هذه البؤرة البيئية الأصعب في سورية، تختزل معاناة عائلة طلال الطرشة المصائب الصحية التي ضربت سكان قطينة التي تجترّ مأساتها منذ ربع قرن حتى اليوم، بدءاً بالجدة مريم 64 عاماً مروراً بكنتها «ريم» وانتهاء بحفيدتها «لارا» التي لم تكن لتعرف ماذا يعني أن يكون عمر عظامها سنتين ونصف بينما أكملت هذا الشتاء عامها الخامس. كانت فقط تعرض معصميها النحيلين بشدّة بناءً على طلب أمها ذات الأربعين عاماً التي أجرت مؤخراً عملية لاستئصال سرطان ضرب الكولون.

قالت الجدة مريم قبل أن تجهش بالبكاء: «كلنا مرضى. أنا مصابة بتخرّشات في القصبات وبنقص تروية و(كنتي) مصابة بالسرطان وابنتها تعاني هشاشة في عظامها إضافة إلى الغدة، أما ابن ابني الآخر فهو أيضاً يعاني ما يعانيه».

وأضافت في مقابلة مع مجلة الاقتصاد والنقل:»كلنا منكوبون، حياتنا عبارة عن مأساة لا تنتهي، رزق أولادي يذهب بمعظمه على الأدوية، هذا حرام، والله هذا ظلم، لا أحد يبالي بما نحن فيه».

وتابعت:»سيقتلنا هذا التلوث».

قطينة المنكوبة:

قصة عائلة الطرشة تظل الأكثر رواجاً في قطينة التي يسكنها 8000 نسمة ويعتاش أبناؤها من عملهم في الزراعة والوظائف الحكومية، وخاصة معامل الأسمدة.

ففي عام 1981 بدأ أهالي البلدة (12 كيلو متراً عن حمص) يشكون من سحب دائمة ذات روائح كريهة ومزعجة تغطي أجواء بلدتهم، مصدرها معامل الأسمدة المتاخمة للبلدة، يزيدها سوءاً اتجاه الريح الغالب في المنطقة والذي يجعل الأدخنة المنطلقة من عدة مصانع ومنشآت تنتشر باتجاه البلدة. وكثر الحديث عن أعراض وسط تذمر مزمن من «تضيّق النفس والسعال والدُماع والحكة» وغير ذلك من الشكاوى التي لم تجدِ معها أنواع المعالجات المختلفة بحسب الدكتور أمين الصباغ أخصائي أمراض قلبية وصدر وأوعية الذي عاين معظم هذه الحالات باعتباره ابن البلدة والمقيم فيها منذ بدء المشكلة لتاريخه.

يقول د. الصباغ: «بدأنا نلاحظ كأطباء ازدياد بعض الأمراض الخطيرة إلى درجة شديدة أحياناً كالسرطانات والعقم والتشوهات الخلقية، والتي اتفق الجميع على ربطها بالتلوث الناتج عن مجموعة مصادر».

وفي مناقشة هذه النتائج لوحظ بحسب دراسة أعدتها مديرية الصحة في محافظة حمص عام 1981 أن الأعراض ذات العلاقة الوثيقة الصلة بالبيئة وملوثاتها هي سبب ارتفاع نسبة الإصابات بين سكان قطينة والعاملين في الشركة العامة للأسمدة. ولوحظ ارتفاع نسبة السرطانات والعقم في بلدة قطينة بحيث زادت عن بلدة القبو (25 كم غرب حمص) إلى أربعة أضعاف. ومن اللافت للانتباه أن التقرير الصحي لطبيب الشركة يربط العلاقة بين الأمراض المؤذية للجهاز التنفسي والبلعوم، لتعرّض العاملين لمستويات من الملوثات المخرّشة التي تزيد عن الحدّ المسموح به عالمياً (110 ملغ/م3)، وهو ما تؤكده أيضاً نتائج مركز البحوث العلمية بدمشق «ارتفاع تراكيز الغبار في جو الشركة إلى 40 ضعفاً عن الحدّ المسموح به و6 أضعاف في بلدة قطينة حيث يصل داخل سور المعمل إلى 4350 ملغ/ م3، وفي شرق قطينة إلى 650 ملغ /م3».

دراسة مقارنة

هذه الدراسة هي الوحيدة التي تحتوي مقارنة بين قطينة وبلدة أخرى غير معرضة للملوثات. لم تجرِ بعدها أي دراسات أو مسوحات مقارنة يمكن من خلالها قياس مدى تدهور الأوضاع البيئية وبالتالي الصحية خلال الفترات اللاحقة.

يقول مدير صحة حمص د. محمد أبو الخير عن عدم وجود دراسات أخرى جديدة تبيّن واقع قطينة الصحي مقارنة مع بلدات أخرى إن الدراسة موجودة «دراسة يتيمة تجاوز عمرها الـ 20 عاماً!». بينما تردّ مجموعة من الأطباء في قطينة وحمص، السبب إلى إهمال مديرية الصحة وضعف الثقافة الإحصائية لدى القائمين على الأمر.

ويقول الدكتور حسام الطرشة (أخصائي نسائية وتوليد) الذي يعاين معظم الحالات الواردة من قطينة: إننا نفتقر إلى المعلومات الدقيقة التي تعتمد أساليب حديثة في الإحصاء والتقصي.

هذه الدراسة الوحيدة تضمنت مسحاً عن واقع الأمراض البيئية بين عمال الشركة العامة للأسمدة، وتمّ فيها دراسة 536 عائلة في بلدة قطينة حسب الطريقة العشوائية المعتمدة عالمياً من أصل 1075 عائلة ودراسة 400 عائلة في بلدة القبو من أصل 600 و 466 عاملاً في معمل(التروبل فوسفات) من أصل 1096 عاملاً كما في الجدول المرفق (1).

مسح أكثر منهجية

في عام 2004 تم إجراء مسح صحي آخر لبلدة قطينة بتوجيه من مديرية صحة حمص أيضاً ولكن لم يتضمن أي مقارنات مع بلدات أخرى، لكنه كان أكثر منهجية كما يؤكد القائمون عليه واختيرت العينة المدروسة من داخل قطينة (أعمال حرة، معمل السماد، محطة توليد كهرباء قطينة، الرحبة العسكرية) وكذلك من يسكنون في البلدة ويعملون خارجها.

وتم تقسيم البلدة إلى أربعة قطاعات جغرافية شكلت لدراستها أربعة فرق للمسح الصحي وكل فريق يتألف من طبيب وعضو مجلس بلدي مع عنصري تمريض وصحة عامة.

وكانت نتائج المسح (مثيرة للانتباه) على حد تعبير د. أمين الصباغ حيث كانت أكثر الأمراض نسبة هي الأمراض التنفسية ثم العينية يليها القلبية فالأورام (السرطان).

ويقول التقرير الصادر عن نتائج هذا المسح أنه لوحظ أيضاً ارتفاع في نسبة العقم والأمراض العقلية والتشوّهات الخلقية. ويخلص الدكتور سالم حداد المشرف على المسح أن هناك مشكلة صحية فعلية في قطينة تتجلى في ارتفاع المعدل العام للأمراض وهي في تزايد مستمر مقارنة مع الدراسات السابقة مما يشير إلى وجود مشكلة بيئية.

في الواقع تقرّ مديرية صحة حمص بالمشكلة تماما.ً تقول بإحدى الكتب الموجهة إلى وزارة الإدارة المحلية إن هناك زيادة في نسبة انتشار العقم في السنوات الخمس الأخيرة، حيث بلغت 13% مقارنة مع النسبة العالمية (10%)، كما أن هناك زيادة في معدل انتشار السرطانات حيث بلغت نسبة الحدوث في السنوات الخمس الأخيرة 0.2% مقارنة مع 0.036 في محافظة حمص و(0.03-0.04%)، هي النسبة العالمية.

لكن مدير الصحة الدكتور محمد أبو الخير، لا يستطيع كما قال الربط بين الإصابات الورمية والوضع البيئي لأن هناك أسباباً أخرى قد تسبب السرطانات، ويقول: «للإصابة بالسرطان فإن الإنسان يتعرض لعاملين اثنين: أولاً أن يكون هناك استعداد وراثي وهذا هو الأهم فإن كان العامل الوراثي موجوداً فإن الإصابة تصبح أكثر احتمالاً وخاصة في سرطانات الكولون والثدي وبالتالي فإن أي عامل آخر يمكن أن يؤدي إلى السرطان كالسموم والفيروس». ومن هنا يقول أبو الخير: «لا نستطيع الجزم بمسؤولية التلوث في الأمر، معتبراً أن الناس يبالغون عندما يردون كل الأمراض إلى التلوث». وعن رأيه بمدى دقة الدراسات والمسوحات المجراة لتقصي الواقع الصحي في قطينة يقول: منها ما هو دقيق، ومنها مؤشرات غير دقيقة، ويركز على أن السرطان هو أكثرها إشكالية، لأن الإحصاءات تقوم بخلط المصابين قديماً مع المصابين حديثاً وهذا غير صحيح.

في الطرف الآخر يعتقد أهالي وأطباء قطينة أن كل الجهات ذات العلاقة بمشكلتهم تحاول التقليل من خطورة المشكلة، ويصل الأمر كما قال بعضهم، إلى التلاعب بالأرقام الحقيقية لنسب الأمراض وخاصة السرطانات، وذلك لأسباب غير مفهومة سوى العقلية السائدة التي تحاول دائماً تصوير الأمور كأنها على أحسن ما يرام، علماً أن الجهات الرسمية ذات الصلة بالمشكلة متفقة على وجود التلوث، حتى القائمون على المعامل الملوّثة أنفسهم ويتضح ذلك من خلال عشرات الكتب الرسمية والاجتماعات واللجان التي تقر جميعها بوجود مشكلة تلوث بيئي خطير في قطينة.

ففي الدراسة الأخيرة التي أجرتها مديرية صحة حمص بيّنت أن عدد مرضى السرطان في قطينة هو 35 شخصاً بينما يصرّ الأهالي والأطباء (ومنهم من شارك بالمسح) على أن العدد الحقيقي هو بحدود 150 مصاباً!

محافظ حمص محمد إياد غزال يحاول قياس الضرر البيئي اقتصادياً لأنه وبعد كل تلك السنوات الطويلة استسلم الجميع كما قال بأن هذه القضية لا يمكن حلّها، وذلك بسبب أن المؤسسات الاقتصادية الملوِّثة هي مؤسسات عالية الكلفة وبالتالي يتطلب حلّ الموضوع مئات الملايين من الدولارات، كما أن لهذه المؤسسات إنتاجية اقتصادية وليس من السهولة إطلاقاً أن يتخذ قرار بإغلاقها إلا بعد تأمين البديل، والبديل بحاجة إلى اعتمادات ضخمة، ومن هنا أصبحت المعالجة معالجة اقتصادية بالضرورة.

ويضيف: «كان طرح المحافظة الجديد قائماً على إعداد دراسة اقتصادية أولية، هدفها مساعدة صاحب القرار على اتخاذ قراره الاقتصادي وتقديم البدائل له»، لكن المحافظ نفسه قام بالخطوة الأكثر جدية حتى الآن، رفع دعوى ضد إدارة معامل الأسمدة، مطالباً إياهم بدفع التكاليف الصحية الناجمة عن التلوث، وعلى قاعدة «الملوِّث يدفع»، وطالب بمبلغ قدره خمسمئة مليون ليرة سورية (10 ملايين دولار) تدفع لمحافظة حمص للمساهمة في معالجة الآثار الناجمة عن التلوث، وتحسين الواقع الخدمي والتنمية المستدامة في المنطقة. وكلفت المحافظة خبراء ألمان من شركة بلايبيس Play Pace (شركة خاصة بالدراسات البيئة)، بإعداد دراسات تبين كلفة التدهور البيئي الناتج عن الصناعات البتروكيميائية حيث قاموا بزيارة شركة الأسمدة خلال شهر أيار 2005، وأفادوا أن كلفة التدهور البيئي الناتج عن ملوثات الشركة العامة للأسمدة يتراوح بين 4 و5 مليارات ليرة سورية سنوياً. (80 ـ 100 مليون دولار).

الملوِّث.. أكثر من جهة!

تتعدّد مصادر ا لتلوث في قطينة بدءاً بمعامل الأسمدة، (ثلاثة معامل هي معمل سماد الكالنترو ومعمل الأمونيا- يوريا ومعمل السماد الفوسفاتي) مروراً بالرحبة العسكرية (مكان تجميع آليات قيد التعمير) وصولاً إلى معمل توليد الكهرباء الذي أغلق قبل سنوات قليلة ولكن بعد أن فعل فعله بالبيئة المحيطة به لعشرات السنين. يضاف إليها مصفاة حمص غير البعيدة عن المنطقة (الأكبر من نوعها في القطر). وبالنسبة لشركة الأسمدة فقد قدمت مديرية البيئة في حمص تقريراً عن التلوث الناتج عنها، ، ويقسم تقرير المديرية الملوِّثات الناتجة عن هذه المعامل إلى ملوِّثات غازية ومائية وتلوث بالغبار والمركبات الصلبة، والتلوث بالمواد الصلبة.

ويأتي التقرير بعد ذلك إلى الوسائط الكيميائية المستهلكة خلال عملية التصنيع والإنتاج ليؤكد أن جميع الوسائط الكيميائية المستهلكة تجمع في أكوام داخل الشركة باستثناء خامس أوكسيد الفاندينيوم والذي يتم دفنه في المنطقة الصحراوية في مدفن بدائي بحسب تقرير مديرية بيئة حمص الذي يعتبر أن هذه الوسائط الكيميائية المستهلكة تحوي على النيكل والكروم والفاندينيوم وهي معادن ثقيلة وتشكل خطورة على البيئة المحيطة.

دراسـة مـكمّلة

وفي دراسة أخرى قامت بها مديرية الموارد المائية في محافظة حمص بتاريخ 15/12/2005 عن الملوِّثات الناجمة عن معامل الأسمدة وأماكن صرفها، تقول الهيئة: إن نهر العاصي (ينبع من ينابيع اللبوة في هضبة لبنان الشرقية، يرتفع 900 م عن سطح البحر، ويبلغ طوله داخل الأراضي السورية 366 كم) مع بحيرة قطينة، هما المستقبلان الأساسيان لمنصرفات صناعة الأسمدة حيث تتوزّع أماكن الصرف على بحيرة قطينة كنقطة صرف رئيسة معتمدة حالياً على صرف الملوِّثات الحمضية الناتجة عن وحدتي صناعة حمض الكبريت وحمض الفوسفور والسوائل والحمأة الناتجة عن معالجة المياه، ومنصرفات أحواض الفوسفوجيبسون وأحواض التبخير الطبيعية في منطقة الوعر إلى نهر العاصي مباشرة.

وتؤكد الدراسة التي قام بها خبراء الهيئة العامة للموارد المائية إن هذه الملوِّثات تحتوي على شوارد الأمونيا ـ اليوريا ـ الفوسفات والكبريتات والنترات والنتريت ومعادن ثقيلة (كادميوم ـ حديد) ومن خلال نتائج التحليل التي حصلت عليها مجلة الاقتصاد والنقل لغاية هذا التحقيق الاستقصائي (الذي استغرق إعداده ثلاثة أشهر)، تبيّن أن هناك ارتفاعاً في قيمة DO= 107، مما يعني حدوث انفجار طحلبي في مياه بحيرة قطينة، ناتج عن زيادة نسبة المغذيات المتمثلة بارتفاع تركيز الفوسفور والآزوت، أما بالنسبة للمياه الجوفية فقد أجرى فريق هيئة الموارد المائية دراسة للآبار المحيطة بالشركة في بلدة قطينة، شملت 24 بئراً مستخدمة في المنطقة، وأجريت تحاليل على هذه الآبار في الطقس الجاف والرطب، فتبين التأثير الحتمي من انتشار شوارد الكبريتات والفلور والنترات والفوسفات والأمونيا على مواصفات الآبار المدروسة بدرجات متفاوتة، كما تؤكّد الدراسة وصول تأثير بعض هذه الملوِّثات وانتشارها إلى مسافات تصل إلى 2 كليو متر.

من جهة أخرى أجريت من الفريق نفسه اختبارات للعناصر المعدنية الثقيلة والسامة على بعض العينات ولوحظ ارتفاع تركيز كل من معادن الكادميوم والكروم والحديد، وتخلص الدراسة أخيراً إلى وجود منطقة بشكل مستطيل حدودها سور المعمل الجنوبي وأبعادها (300 إلى 600 متر) معتبرةً أن هذه المنطقة شديدة التلوث وهي متاخمة لقطينة، وينصح بعدم استخدام المياه الجوفية فيها، وذلك لمنع التأثير المباشر الناجم عن استخدامات المياه وتثبيت حركة المياه لمنع انتشار الملوثات وضبط تأثيرها.

ربط السبب بالمسبّب

تتفق معظم الدراسات والأبحاث التي أجريت على الهواء والماء والتربة في قطينة على وجود العديد من الغازات والمعادن السامة، التي تزيد عن الحد المسموح به عالمياً بأضعاف أحياناً كما هي الحال بالنسبة للحديد والرصاص والكادميوم والزئبق، وبآلاف الأضعاف أحياناً كما أشار مدير صحة حمص د. محمد أبو الخير لافتاً إلى دراسة أجريت عام 2004 في مخابر هيئة الطاقة الذرية وفي مخابر السموم في وزارة الصحة تؤكد أن نسبة الفلور الموجودة على أشجار ونباتات المنطقة بلغت 3050 ملغ بدلاً من نصف ملغ هي النسبة العالمية، وبلغت هذه النسبة 2.7 ملغ بدل نصف ملغ في المياه.

وعن تأثير الفلور على صحة الإنسان، (وفقاً لدراسة أعدّتها مديرية صحة حمص، وعُرضت على نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري، أثناء اجتماعه مع الجهات ذات العلاقة بموضوع التلوث بتاريخ 26/2/2006)، فإن أكثر التأثيرات السمّية للفلور على الإنسان تظهر على شكل بقع سوداء منقطة في الأسنان وفي أذيات وتشوّهات الهيكل العظمي إضافة إلى العرن (تبدلات مرضية في الأنسجة العظمية)، كما تؤدي التراكيز المرتفعة من الفلور إلى خلل كبير في وظائف الكلى، وتهيّج الجهاز التنفسي، وربما إلى السرطانات باعتبار أن الفلور يؤدي إلى تخريب الجينات الوراثية لدى الإنسان وتشويه في الخلايا.

ولا يقتصر وصول الفلور إلى الإنسان ـ بحسب الدراسة دائماً ـ عن طريق الهواء، بل يمكن أن يصل إلى الإنسان عن طريق غذائه بشقيه النباتي والحيواني، وباعتبار أن الفلور مادة تتراكم في النبات الذي ينمو في تربة ملوثة بالفلور من صناعة الأسمدة الفوسفاتية، وعند الحيوان الذي يعيش على علائق علفية نمت في الأصل في ترب ملوثة بالفلور ومركباته.

أما المعادن الثقيلة فيحدّد الدكتور منير البيطار (اختصاصي المعادن الثقيلة والأستاذ في كلية الهندسة البتروكيميائية بجامعة البعث) أن الزئبق والرصاص والكادميوم والكروم والحديد التي تطرحها معامل الأسمدة هي معادن سامة تعطّل الأنزيمات وتؤدي إلى التسمّم معتبراً أن الكادميوم هو من أكثر العناصر التي تؤدي إلى تفتت العظام ويمكن أن ينتقل أيضاً عن طريق الأسماك إذا كانت تحتوي على نسب من هذه المعادن، كما أن الكادميوم مسرطن قوي عن طريق التنفس، وذلك بحسب الباحثة الألمانية الدكتورة سيلفيا لوفي، التي أجرت بحثاً ممتازاً حول الكادميوم في المواد الغذائية وأثره في الصحة «نشر عام 1990 في مجلة الكيمياء في المخبر والتكنولوجيا).

ويؤكد بيطار أن المعادن الثقيلة تعطّل وظائف الخلية عند الإنسان، لأنها تتوقف عن تبادل الغذاء فيما بينها، فتدخل المعادن الثقيلة من خلال المياه إلى السلسلة الغذائية عند الإنسان والحيوان والنبات. ويشير الدكتور بيطار إلى النسب العالمية المعترف بها من هذه المعادن وذلك وفقاً لمعايير منظمة الصحة العالمية، فالزئبق لا يجب أن تتجاوز قيمته الحدّية في الماء عن 0.001 ملغ في الليتر، والرصاص 0.04 ملغ ليتر. والكروم 0.05 ملغ ليتر، والكادميوم 0.005 ملغ ليتر.

بحيرة قطينة مجمّع التلوث الأكبر

تعتبر بحيرة قطينة في وضعها الحالي واحدة من أكثر بؤر التلوث البيئي في سورية (وفقاً لتصنيفات بيئية غير رسمية فيما يعتبر نهر قويق في حلب ومكبات القمامة في جديدة عرطوز في ريف دمشق بؤرتين لمرض اللشمانيا)

وتؤكد الدراسات التي قامت بفحص مياه البحيرة وأخذ العينات منها، كالدراسة التي قامت بها مديرية البيئة بحمص وهيئة الموارد المائية أنها تحوّلت الى مكبّ تصب فيه المنصرفات الناتجة عن مجمّع الأسمدة والرحبة العسكرية، وسابقاً محطة توليد الكهرباء، كما أنها تتلقى كل الملوثات القادمة عبر نهر العاصي منذ دخوله الحدود السورية (بحسب دراسة للدكتور منير البيطار بعنوان مصادر التلوث المائي في حوض العاصي).

وبالمشاهدة المباشرة والمتكررة للبحيرة خلال اسبوع أمضاه كاتب التقرير هناك لغايات التحقيق أمكن ملاحظة التلوث الحاصل على شواطئها التي تغطيها بقع داكنة ذات روائح كريهة.

وتؤكّد الأبحاث التي أجريت على مياه البحيرة إلى تدفق الحمضية غير المعدّلة في معظم الأوقات، من خلال خط الصبيب الجنوبي (القادم من معامل الأسمدة)، حيث تشير نتائج التحاليل إلى انخفاض واضح في رقم الحموضة (BH)، وارتفاع كبير في شوارد الكبريتات والفوسفات والفلور، كما أن المنصرفات الناتجة عن الرحبة العسكرية تساهم بشكل كبير في تلويث البحيرة، والملوِّثات هنا من أنواع مختلفة (زيوت وأحماض وماءات الصوديوم وكميات من النترون السداسي والزئبق).

وكانت نتيجة هذه الملوّثات واضحة في القضاء على الحياة النباتية والحيواتية في البحيرة، وفي نفوق أعداد كبيرة من الأسماك وعدم صلاحية الباقي منها للاستهلاك البشري، نظراً لإصابتها بانتفاخات وتورّمات سرطانية وفقاً لتقرير قدّمه خبراء أوكرانيون وتم التحفظ عليه وإبقاؤه طي الكتمان بحسب مصادر على دراية بالملف فضّلت عدم ذكر اسمها .

وهو ما يعني أن الأسماك تشكّل لدى تناولها من البشر عاملاً إضافياً للإصابة بالسرطان، علماً أنها كانت حتى وقت قريب مصدراً لرزق العديد من العائلات في قطينة.

من جهة أخرى، تؤكّد كلية الطب البيطري بجامعة البعث حصول التلوث في البحيرة وانعكاسه على نفوق الأسماك فيها، حيث قام الدكتور أحمد السمان (أستاذ أمراض الأسماك بقسم الصحة والطب الوقائي بكلية الطب البيطري)، بأخذ عيّنات من الأسماك النافقة، وتبيّن وجود عناصر ثقيلة في الأجزاء الداخلية لتلك العينات، مما يشير إلى وصول تلك العناصر إلى حد التركيز السمي، وكذلك وجود عناصر ثقيلة أخرى داخل أجسام الأسماك، (دون حد السميّة) ينعكس سلباً على الصحة العامة للمستهلك.

وتؤكّد الدكتورة صوفي بركيل (الرئيس السابق لقسم السموم في كلية الصيدلة جامعة دمشق)، أن الأسماك يمكن أن تكون ناقلاً مهماً للمعادن الثقيلة إلى الإنسان دون أن يظهر عليها أي أعراض. فالأسماك يمكن أن تتحمل الزئبق مثلاً، وتحوّله إلى أشكال أكثر خطورة على صحة الإنسان، معتبرة أن زيادة الزئبق في جسم الإنسان، يؤدي إلى أمراض عصبية وتشوّهات خلقية وربما إلى عمى وصمم وحركات متراقصة أثناء المشي.

وتستمر المعاناة:

سرطانات وتشوهات خلقية وعقم، هي بعض من مجموعة كبيرة من الأمراض التي يعانيها أهالي قطينة، ويعاينها أطباؤها، لدرجة أن العائلة الواحدة وأحياناً الشخص الواحد يعاني من أكثر من مرض.

وتقول نتيجة المسح الصحي (عام 2002) أن كل فرد من أفراد العائلات المدروسة في قطينة، كان لديه شكاية أو مرض معين باعتبار أن متوسط عدد أفراد العائلة هو (بين 5 و6) أفراد ومعدّل عدد الشكايات كان (5.91) في كل عائلة، وتزيد نسبة وشدة الأمراض كما يقول د. نزار إسحق الطرشة (أحد المشاركين في المسح الأخير) في القطاع الأكثر قرباً من معامل الأسمدة، وكذلك ضمن فئة العاملين من قطينة في مصانع الأسمدة (200 من أصل 1096).

من جهته يلفت رئيس بلدة قطينة بسام الطرشة إلى أن الإحصائيات والمسوح الصحية المنفذة حتى الآن في قطينة لا تعبّر تماماً عن حقيقة وحجم المشكلة، ذلك أن أعداداً من أهالي البلدة ما زالوا يفضّلون التكتم عن بعض الأمراض وخاصة ما يتعلق منها بالتشوّهات الخلقية لأسباب اجتماعية.

فمن بين (23) حالة تخلّف عقلي و(19) حالة شلل، و(6) حالات عمى، أحصاها المسح الصحي لعام 2004 كان من العسير جداً مقابلة أيّ منهم أو من ذويهم، في حين كان بالإمكان مقابلة أشخاص يمكن تصنيفهم ضمن هذه الحالات، لكنهم غير مدرجين في الإحصاءات!

يقول وديع عطية (28 عاماً): (أنا متزوج منذ ثلاث سنوات ونصف، حتى الآن لم تتمكن زوجتي من ولادة طفل سليم)، فالجنين الأول لم يكمل شهوره الخمسة في رحم والدته ليتبين خلال الفحص والتصوير أن أمعاءه مشوّهة. في حين لم يكن حظ أخيه الآخر الذي لم يبصر النور أيضاً أفضل حالاً، حيث تبين أن لديه تضخماً في الكلى، الأمر الذي دفع الأطباء المشخّصين للحالتين إلى اقتراح الإجهاض على الوالدين بدلاً من رؤية طفلين معاقين، وذلك بحسب عطية الذي ما زال يأمل كما قال بأن تكون (الثالثة ثابتة) بحيث يتمكن وزوجته من إنجاب طفل سليم بعيداً عن هذا المصير البائس، حاله في ذلك حال كثيرين في قطينة ما زالوا يأملون بحدوث معجزة تعيد الحياة إلى بلدتهم وتنقذهم من المصير نفسه.

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) www.arij.net


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *