زواج القاصرات في لبنان: بين حكم الطوائف وعجز الدولة

13 ديسمبر 2017

تحقيق: سجى مرتضى

رصيف٢٢– أقصى ما تحلم به مريم (14 عاما) اليوم، أن لا تجبر على العودة إلى منزل زوجها مرّة أخرى بعد أن عنّفت وانتهكت طفولتها. “ما بدي عيش معه، بدي اتعلم وعيش مع أهلي”، ليس حلما طفوليا كعمرها، بل قدرا أجبرت على مواجهته كغيرها من فتيات لبنانيات تزوّجن قبل سن الـ18 عاماً.

أما فاطمة التي دخلت عامها الثامن عشر، فتمكنت من الانفصال عن زوجها بعد خمس سنوات من التعرض للعنف والمعاناة، فقدت خلالها جنينها لأن جسمها الطفولي لم يصمد أمام أثقال الولادة وآلامها.


بينما قرّرت سلمى شقّ طريقها بمفردها مع طفليها علّها تنجح في تعويضهما عن الطفولة التي حرمت منها حين سيقت إلى منزل الزوجية في سن الثالثة عشر.

فتيات لبنانيات دفعن دفعاً إلى مرحلة الأمومة قبل الأوان. هنّ ضحايا مجتمع يتغنّى على السطح بمزايا الإنفتاح، التحرر وحقوق المرأة، لكنّه يقبع تحت سطوة طوائف تهيمن على قوانين الأحوال الشخصية، ومجلس نيابي يعجز عن حماية الفتاة من العنف والإغتصاب، بدون إذن شرعيّ وديني.

مريم، فاطمة وسلمى لسن مجرد أرقام ضمن إحصاءات صمّاء تصدرها جمعيات لبنانية ومنظمات دولية عن زواج القاصرات في لبنان. بل هنّ حالات متحركة تلخّص معاناة 21.2% من اللبنانيات اللواتي ساقهن محيطهن الاجتماعي والديني للاقتران تحت سن الثامنة عشر. فبحسب رصد منظمة اليونيسف، 4.1% من بين اللبنانيات اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين 15 و19 متزوّجات اليوم، و6% من بين اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين 20 و24 متزوّجات قبل الـ 18.

طوائف محتكرة

“زواج القاصرات في لبنان” عنوان يختزل معاناة فتيات في دول كثيرة حول العالم على مذبح الأعراف والتقاليد، المسنودة بتأويلات دينية. تفاقم هذه الظاهرة ليس غريبًا في بلد تنتشر فيها 18 طائفة، يتعدى نفوذها قوانين الأحوال الشخصية، لتتحكم كذلك بمجلس النواب وأعضائه الـ128 وبمخرجاتهم التشريعية.

تمارس الطوائف تزويج الصغيرات وفق معتقداتها الدينية بعيداً عن أيّ معطيات أخرى. يعتبر عضو المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي بحسون، أنّه “خير للفتاة أن تتزوج قبل أن تحيض، أي أن ترى الدم، فتراه عند شخص واحد وهو زوجها، أيّ الوحيد الذي يتطلع على سرها”، مستنداً بذلك إلى حديث للإمام جعفر الصادق.

وحددت كل طائفة وفق قوانينها الشرعية سنّاً أدنى للزواج يهبط عند بعضها إلى تسع سنوات. وفي الوقت الذي تجاهد فيه جمعيات لبنانية على محاربة هذه الظاهرة، تشجع الطائفتين السنية والشيعية على زواج القاصرات، وترفض أن تسحب منها أحقية التحكم بقوانين الأحوال الشخصية، عكس الطوائف المسيحية التي تدعو إلى منعه، على الرغم من أنّ قوانينها قد تسمح للمطران بإعطاء إذن للفتاة بالزواج تحت سنّ الـ18.

وتناهض الطوائف أيّ جهد للجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية لسنّ قانون موحد يمنع زواج القاصرات ويحدد السنّ الأدنى للزواج بثمانية عشر عاماً.   وتشدد على أن حالات العنف التي تتعرض لها القاصرات ليست إلا حالات استثنائية لا تشمل الجميع. فبحسب الشيخ محمد عساف، رئيس المحكمة الشرعية السنيّة العليا، فإن العنف يكون “حسب الرجل، الذي يكون معقداً، وأن تكون الفتاة صغيرة ليس شرطاً لكي تعنّف”.


أمّا الشيخ بحسون، فيوافق عساف الرأي، مع تشديده على أنّ “هذه الحالات نادرة قياساً بالعائلات الإسلامية، ولا يجب تحميل التشريع المسؤولية، بل الإعلام الغربي الموجه ضد الإسلام”.


مشاريع قوانين متعارضة

“الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية” قدّمت عام 2014 مشروع قانون يستهدف “تنظيم التزويج المبكر” في لبنان، من خلال النائب غسان مخيبر (عن كتلة الإصلاح والتغيير). لم يتضمن ذلك المشروع حظراً شاملاً، وإنما اشترط موافقة قاضي الأحداث قبل تزويج قاصرات وليس فقط وليّ أمرهن.

على أن جمعيات موازية رفضت المشروع، باعتباره تشريع مبطن يسمح بتزويج القاصرات. أمّا المشروع الثاني فأعده “التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني” عام 2017، وقدّمه إلى مجلس النواب، النائب إيلي كيروز، عن كتلة “القوات اللبنانية”. ويحدّد المشروع السن الأدنى للزواج بـ18 عاماً على الأراضي اللبنانية كافة دون أيّ استثناء، مع تشديد العقوبات على المخالفين. وهو القانون الأفضل والأمثل، وفق رأيهم لحماية القاصرات.


اليوم، تتأرجح الجمعيات بين تأييد أحد القانونين أو المطالبة بسحب الأول. ومع اختلافها على أيّ قانون هو أصلح للتطبيق، يؤكد النائب إيلي كيروز أنّ قانونه “وخلافاً للمادتين 101 و102 من النظام الداخلي لمجلس النواب، لم يتمّ إحالته إلى أيّ لجنة مختصة كما يجب أن يحصل”، أمّا مخيبر فيشدد على أنّ النواب “يفضلون” قانونه على قانون تحديد سن الزواج.


طوائف تعرقل وتجترح حلولها الخاصة

يضيء هذا التحقيق على استمرار رفض المرجعيات الدينية الأساسية لتشريع أي قانون يحدّد سن الزواج. وتتحكم هذه المرجعيات بأعضاء في المجلس النيابي، الذي تشكّل كتله النيابية الـ15 في ظلال الطوائف.


رفض أربع نواب من حزب الله والجماعة الإسلامية الحديث معنا والتعليق على الموضوع، وأعطوا الطوائف أحقية الحديث باسمهم متناسين أدوارهم كمشرّعين. الأمر الذي تؤكده المحامية عتيبة مرعبي، مشيرةً إلى أنّ “القانون ستواجهه تحديات كبيرة، ولا نتوقع إقراره بين ليلة وضحاها، خاصةً أنّ السلطات الدينية تعتبر أنّ قوانين الأحوال الشخصية حكر عليها، ولا يجوز للنواب الممثلين للشعب التدخل بها”.

تختلف الطوائف على أمور كثيرة، ولكنها تتفق في موضوع رفضها لقانون يحدد سناً للزاوج بـ18 عاماً.


يتساءل الشيخ بحسون: “أين العدل في هذا؟ أيّ قانون عادل؟”، ويضيف: “هذا الظلم بعينه، وأنا أستبعد أن يكون هناك أناس عقلاء يشرعون مثل هذا القانون، نحن الشيعة الإمامية لسنا مع تحديد سن الزواج أبداً، لما فيه من سلب لحريات البشر وللشريعة المحمدية السمحاء، من هم هؤلاء حتى يحددوا إرادات الناس؟”. ولا يختلف رأي الطائفة السنيّة كثيراً مع تركيز رئيس المحكمة السنيّة على مخاوف الطائفة من تزايد الزواج العرفي، يقول: “تشريع قانون مماثل هو تعدي على مصالح المحاكم الشرعية، ونحن نرفضه، إذا أرادوا أن يتكاثر الزواج العرفي فهذا أمر يعود لهم، لكن نحن نريد أن نحافظ على المجتمع لا أن نفككه”.


من جانبها تشجع الطوائف المسيحية على تشريع قانون تحديد سنّ الزواج، لأنّه كما يؤكد لنا النائب البطريركي العام، المطران حنّا علوان. يقول: “القانون ضمانة أكبر لصحة العائلة، نوابنا مثقفين ويجب أن لا يتساهلوا بأمر مماثل، وأولادهم قد يكونوا معرضين لمخاطر التزويج المبكر، ولا يجب أن يرضوا لغيرهم ما لا يرضوه لأنفسهم”.

ما يصعّب المسألة أيضاً، هو أنّ المادة 9 من الدستور اللبناني تحمي الطوائف من أيّ تعد على قوانين الأحوال الشخصية، ما يعني أنّ المجلس – وبحماية دستورية- عاجز عن سنّ مشروع قانون تحديد السن الأدنى للزواج (2017) الذي لا يزال -بحسب النواب المؤيدين- في درج رئيس المجلس نبيه بري، بانتظار تحويله إلى اللجان والهيئة العامة للبرلمان لمناقشته.

الحاجة لاستراتيجية لحماية القاصرات

“التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني”، وجمعيتا “أبعاد” و”كفى”، تعملان بالتعاون مع “المجلس الأعلى للطفولة” التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، على الحد من انتشار ظاهرة زواج الصغيرات، عبر التوعية وتقديم الحماية والدعم النفسي، بالإضافة إلى المشورة القضائية. لكن هذه الهيئات تشكو من ضعف التنسيق البيني وغياب الإحصاءات الدقيقة لكل المناطق اللبنانية. وهذا ما وجدناه لدى اتصالنا بمركز الإحصاء المركزي، الذي أكد عدم حيازته أيّ أرقام تحدّد نسب زواج القاصرات. أرقام اليونيسف، ودراستين أعدتهما جامعة القديس يوسف والتجمع النسائي، هم البيانات المختصرة الوحيدة المتوافرة اليوم عن زواج القاصرات في لبنان. وفي غياب الأرقام الرسمية، واقتصار الدراسات على عينات محدودة، كيف يمكن للجمعيات تشخيص الأزمة بدقة، أو حتى التدخل على الأرض بشكل سليم للحد من زواج القاصرات أو حتى المعرضّات للزواج تحت سن الـ18؟.


ضعف التنسيق بين الجمعيات المعنية يشتّت الجهد. وشكّلت جمعيات معنية بحقوق الطفل والمرأة مؤخراً، تحالفاً وطنياً بهدف تكثيف التدخلات المدنية ضمن مخطط واحد يرمي إلى حماية الأطفال من التزويج المبكر. وهو ذات الهدف الذي تحمله وزارة الشؤون الإجتماعية على عاتقها، كما أكدت لنا الأمين العام للمجلس الأعلى للطفولة ريتا كرم، بما في ذلك “وضع استراتيجية وطنية بالتعاون مع منظمة اليونيسف”. وبانتظار اكتمال التمويل والكادر البشري الذي سيوكل بالمهمة، لا توجد بعد أيّ مؤشرات واضحة بقرب بناء هذه الاستراتيجية.

أحلام مستحقة

يبقى الهدف الأساسي تحديد السن الأدنى للزواج بـ 18 عاماً. ليس فقط حمايةً للفتيات القاصرات اللواتي تتعرضن للعنف والإغتصاب الزوجي وتُسلبن حقهن في اختيار الشريك المناسب بعد بلوغ سن الأهلية القانونية؛ ذات السنّ الذي يسمح لهنّ به بالقيادة والانتخاب والبيع والشراء ورفع دعوى قضائية.


والمفارقة أنّه في الوقت الذي تشرع فيه الدولة اللبنانية زواج القاصرات، تلتزم أيضاً بإتفاقيتان تمنعانه، وهما اتفاقية حقوق الطفل، التي وقّعت عليها عام 1990، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، التي وقعت عليها في عام 1997.

وثق التحقيق صعوبة سنّ قانون في لبنان يحمي الفتيات من كابوس الزواج دون سن الثامنة عشرة. قانون مستحق يتماشى مع الاتفاقيات الدولية في بلد ينتظر فيه المشرّع إذناً من المرجعيات الدينية للخوض في مشروع يضع حداً لزواج القاصرات.

حلم مريم بعدم الرجوع لبيت الزوجية رغماً عنها، واصرار سلمى على المضيّ قدماً في حياتها، تنطبق مع سعي فاطمة لتجاوز ما حصل لها من استعباد لطفولتها.

تروي الأخيرة بألم فصولاً من تجربتها: “لم أشعر بالأمومة، حرمت من كل شيء، أريد أن أكمل حياتي، أدرس وأتعلّم، وما يهمني الآن أنني لم أعد أرغب بالزواج أبداً”. وعلى الرغم من يقينها بصعوبة ما تستجديه، إلا أنها تواصل الحديث: “أطلب من الدولة اللبنانية تحريم زواج الفتيات قبل سن 18”.


ولا يفقد الأمل في إحراز تقدم في هذا الملف بعد عقود من المراوحة، خاصة بعد سنّ مجلس النواب قانون حماية المرأة من العنف الأسريّ، وإلغاءه مؤخراً المادة (522) من قانون العقوبات التي تسقط العقوبة عن المغتصب إذا اقترن بضحيته.

تم إنجاز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)- www.arij.net وبإشراف الزميل محمد الكوماني


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *