رياض الأطفال القرآنية في تونس: مختبر لتكوين نخبة وهابية

9 أكتوبر 2013

منذ اندلاع الثورة، انتشرت رياض أطفال قرآنية أنشأتها جمعيات دينية، وهي تشتغل في الغالب خارج نطاق القانون. مهمتها: تكوين نخبة وهابية داخل المجتمع التونسي .هذه الروضات تعطي الأطفال تربية دينية مكثفة غير ملائمة لأعمارهم و تعاملهم بصرامة إلى جانب أنها تطبق منهجا تعليميا مستوردا من الخارج لا يتطابق مع الثوابت الدينية التونسية. كل ذلك يتم بعلم الحكومة التي تحاول ان تجد مخرجا قانونيا لهذه الفضاءات كي تواصل نشاطها .

عندما ٌيسأل آدم (4 سنوات) إن كان يرغب بالعودة إلى روضته القرآنية في منطقة منوبة، يهز رأسه بالنفي. وتختفي تعابير البهجة من تقاسيم وجهه. ثم يغرق في الصمت ويغمرالحزن عينيه. عبثا تحاول والدته اقناعه بأن يغني إحدى الأنشودات التي تعلمها هناك، والتي كان كثيرا ما يكررها في المنزل، لكنه يرفض ذلك بشكل قاطع. ومع أن تجربته لم تدم سوى ثلاثة أشهر في ذلك المكان، لكن آدم لا يريد حتى المرور من أمام مبنى روضته السابقة .فما يزال الطفل يعيش على ذكرى المعاملة الصارمةالتي تعرّض لها هناك. وفي حين توجد في تونس 4005 روضة قانونية، لا توجد حاليا أرقام دقيقة عن مدى انتشار ظاهرة رياض الأطفال القرآنية في تونس. إذ سجلت وزارة شؤون المرأة والأسرة وجود 40 روضة منها، في حين صرح عدد من أصحاب هذه الهياكل للصحافة بأن عددها يعد بالمئات * .

إختراق عالم سري

لم يكن من السهل الولوج إلى هذا العالم، بما أن أصحاب الروضات القرآنية يحظرون دخولها على الجميع باستثناء العاملين بها والأطفال. ولاحظنا في رياض الأطفال القرآنية التي تمكنا من زيارتها، أن الدخول محظور حتى على الآباء. إذ انهم حينما يأتون لأخذ صغارهم في نهاية اليوم، كانوا يستلمونهم عند الباب. وبهذه الطريقة يتم الحفاظ على الطبيعة السرية لهذه الفضاءات ولما يحدث فيها. ولهذا كان من الضروري أن ننتحل شخصية مربية رياض أطفال حتى نتمكن من الدخول. ولكن قبل ذلك، كان من الضروري أن نتبع تدريبا خاصا.

خلال بحثنا على شبكة الانترنت عثرنا في موقع اسلامي على إعلان عن تنظيم دورة تدريبية للمربيات في رياض الأطفال ببلدة بنزرت (الشمال التونسي).  تبلغ رسوم التسجيل فيها 30 دينارا تونسيا. صبيحة يوم 18 مارس 2013  ذهبنا إلى مكان تنظيم الدورة وهو عبارة عن روضة أطفال قرآنية تدعى أشبال القرآن تقع في شارع كبير في منطقة شعبية، حيث تعترضك نساء محجبات أو منقبات ورجال ملتحون. دفعنا باب منزل صغير، وبعد بضع درجات في سلم وجدنا أنفسنا في غرفة استقبال يتوسطها مكتب، تقف حوله امرأتان منقبتان. إحداهما هي مديرة الروضة، والثانية هي المدربة. وغير بعيد عنهما، بضعة كراسي جلست عليها المسجلات في التدريب، فتيات في مقتبل العمر (بين 20 و30 سنة) ترتدين النقاب أو اللباس الشرعي، قادمات من المدينة ذاتها أو من المناطق المحيطة بها. بعضهن عازبات، وأخريات متزوجات. بل إن إحداهن  جلبت معها ابنتها البالغة من العمر سنتين وستة أشهر وقد وضعت على رأسها الصغير حجابا. كان يجب علينا نحن ايضا ان نرتدي ثيابا مماثلة حتى لا يتم التفطن لهويتنا .

أعطيت لكل مشاركة في الدورة استمارة لملئها ولم يطلب من أيهن تقديم بطاقة الهوية. وبعد الانتهاء من هذه الإجراءات القليلة، بدأت الحصة الأولى حول خصائص “المربية الداعية” ومهمتها المقدسة في “تعليم جيل رباني”. وكان التدريب مقسما إلى ثلاثة مرّات في الأسبوع بمعدل ست حصص يوميا تستغرق كل منها 5 ساعات . دورة مماثلة كانت تعقد بالتوازي في روضة قرآنية أخرى في منطقة شعبية بمدينة سوسة بإشراف المدربة ذاتها. ولكن هذه المرة كانت مؤهلات المتدربات مختلفة قليلا، لأن معظمهن يزاولن العمل في رياض أطفال قرآنية وقد جئن لصقل مهاراتهن، خصوصا فيما يتعلق ببيداغوجية (آلية) تعليم الأطفال. فالتدريب الذي تلقينه سابقا كان يرتكز أساسا على تعلم التلاوة الصحيحة للقرآن و تجويده، وفقا للطرقالثلاث المعتمدة في العالم الإسلامي: النورانية، منة الرحمن ونور البيان. وهي طرق لتعلم النطق الصحيح للحروف و تجويدها، مع احترام النبرة والطبيعة الصوتية لكل حرف من النص القرآني. وهي تستخدم في الغالب في المملكة العربية السعودية ومصر، مما يدل على النفوذ الوهابي، الذي تعاظم على نحو متزايد في تونس بعد الثورة.

دورات تكوينية (تدريب) ذات صبغة وهابية

للعمل في روضة أطفال قرآنية، يجب عليك معرفة إحدى هذه الطرق الثلاث. وتتراوح فترات التدريب عادة بين خمسة أيام إلى ستة أسابيع. وينصح جدا أن تكون المتدربة قد حفظت مسبقا جزءا مهما من القرآن. كما لا بد لها من إجراء اختبار شفهي وكتابي لقياس تعلم طريقتي منة الرحمن ونور البيان، في حين لا يتطلب تعلم طريقة النورانية ذلك بما أنها أسهلها.

 لم نتمكن من متابعة أي منها لأنها تحتاج لحفظ القرآن عن ظهر قلب، غير أن الفتيات اللاتي قابلنهن خلال الدورة التدريبية “كيف أكون مربية ناجحة”، حدثننا عن هذه الطرق. كما أعلمننا أن مكتب النورانية بالنصر ينظم بصفة دورية، دورات تدريبية من 25 ساعة لمدة خمسة أيام، بسعر لا يتجاوز 65 دينارا تونسيا للفرد الواحد (وينخفض هذا السعر ​​إلى 50 دينارا اذا تعلق الأمر بجمعية دينية ترغب في تنظيم دورة لمربياتها).

وقد زرنا بالفعل هذا المكتب، حيث شرح لنا الشاب الذي يعمل في مكتب الاستقبال أن الشهادة التي تسلم في نهاية التدريب، تأتي مباشرة من المملكة العربية السعودية، وتكون موقعة من قبل مؤسسة “الفرقان”، التي توفر أيضا كل المستلزمات البيداغوجية الأخرى (كتب، وثائق تعليمية…). بعد ذلك، يمكن للحاصلة على الشهادة أن تشرع في ممارسة مهامها في روضة أطفال القرآنية بعد فترة تأهيل لا تزيد عن شهر واحد .

كما أن هذه الدورات، التي يدفع مقابلها ثمن بخس، لا تتطلب مستوى دراسياعاليا. بل يمكن لأي واحدة بغض النظر عن نيلها شهادة بكالوريا (ثانوية عامة) أم لا، أن تتابعها لتصبح بعد بضعة أيام، مربية بروضة أطفال القرآنية. وهذا هو حال شابة نتحفظ على ذكر اسمها، تابعت دورة تدريبية في المركز الإسلامي عبد الله بن مسعود، بين يومي 03 و 14 أيلول/ سبتمبر 2012، في حين لا يتجاوز مستواها التعليمي السنة الأولى ثانوي كما انها رسبت في هذه السنة مرتين (حسب ما يفيد به دفتر أعدادها)، مما استلزم طردها من المعهد. في حين يقتضي القانون، كما يفيد بذلك كراس شروطوزارة المرأة والأسرة، أنه ينبغي أن لا يقل مستوى المنشطة عن السابعة ثانوي.

ولقد سمحت لنا هذه التجربة بدخول العالم السري لرياض الأطفال القرآنية، بحجة التأهيل للعمل .

وجوه دون ملامح

 عندما تشاهد رياض الأطفال القرآنية من الخارج لا تجد ما يميزها عن رياض الأطفال العادية: رسومات بألوان زاهية على الجدران وملصقات اعلانية عن الخدمات التي تقدمها. ولكن عندما تدخل إليها، تحس بالفارق. ففي الروضة التي تابعنا فيها الدورة التدريبية، لاحظنا أن الغرف تحمل أسماء شخصيات إسلامية شهيرة كمصعب ابن عمير، مثلا. وفي إحداها توجد معلقّة كبيرة كتبت عليها أحرف الأبجدية العربية مرفقة بصور ذات دلالات دينية (لحية، كعبة ، حجاب، مصحف للقرآن… ). وعلى الجدران، رسومات تم تحميلها من موقع إسلامي يحمل اسم« AlBetaqa.com »   (حيث توجد المواد البيداغوجية للتربية الإسلامية، لكل الأعمار) وهي توثّق أحاديث نبوية وأدعية. لكن ما يميز هذه الرسومات التي تعطى للأطفال لتلوينها، هي أنها تمثل شخوصا مرسومة بدون أعين أو أنوف أو أفواه. إذ لا يجوز في الفكر الوهابي رسم ملامح الوجه.

قواعد كهذه يمكن ان تكون لها عواقب وخيمة على الطفل، على ما يقول الدكتور معز الشريف، طبيب النفساني متخصص في الأطفال ورئيس جمعية الدفاع عن حقوق الطفل: “أتت إلى عيادتي طفلة صغيرة عمرها ثلاث سنوات أحضرتها أمها لتلقي العلاج. كانت الطفلة تقول أنها لا ترى شيئا. وتبين لي بعد فحصها بأن المربيات في روضة الأطفال القرآنية التي كانت ترتادها،  كن يمنعن الأطفال من رسم الأعين. والنتيجة: أن هذه الصغيرة عجزت عن إدماج العيون في تصورها الشخصي لجسدها”.

تتألف الروضة القرآنية ببنزرت من قاعتين وغرفة استقبال يوجد في آخرها مربع كبير من الورق المقوى، مغلف بقماش أسود. هذا المربع هو نموذج للكعبة يستخدم لتعليم الأطفال مناسك الحج إلى مكة المكرمة وذلك مع اقتراب عيد الأضحى. وعادة ما يطلب من الصغار تقليد حركات الحجاج وتكرار الدعاء الذي يرددونه: “لبيك اللهم لبيك”.

“شيختي، أصبحت أرتدي النقاب

لم يكن الأطفال في الرياض القرآنية التي زرناها يلبسون ثيابا إسلامية محددة، ما عدا بعض الاستثناءات،

كهذه الطفلة الصغيرة ذات الخمس سنوات التي أخبرتنا أن والدتها تجبرهاعلى ارتداء الحجاب منذ بلوغها سن الرابعة.

لا مجال للاختلاط داخل قاعة الدرس فالفتيات تجلسن في جهة والأولاد في الجهة الأخرى. هذه هي القاعدة في رياض الأطفال القرآنية بما ان الفكر الوهابي يحظر ذلك.  القاعدة ذاتها تعتمد حتى عند الذهاب إلى الحمام لغسل الأيدي قبل تناول الطعام، إذ ينتظم الأطفال في صفين مختلفين حسب الجندر .

بالنسبة للمربيات، فإنهن تأتين منقبات كل صباح. ولكن عندما تدخلن رياض الأطفال يجب عليهن الكشف عن الوجه. في إحدى المرات، اقتربت فتاة صغيرة تبلغ من العمر 5 سنوات من مربيتها المنقبة، التي دخلت لتوها من الخارج، قائلة “شيختي، هل تعلمين، أنا أيضا أصبحت أضع النقاب، مثلك، عندما أغادر المنزل مع والدتي”، فما كان من المربية إلا أن ابتسمت لها وقبلتها لتشجيعها على ذلك. في روضة أطفال الجواهر بالنصر(وهي تابعة للمركز الإسلامي عبد الله مسعود) طلبنا من طفلة تبلغ من العمر أربع سنوات أن ترسم لنا صورة لمربيتها، فرسمت امرأة منقبة. ومع ذلك، ترفض المربيات الاعتراف بوجود أي تأثير لطريقة لباسهن على الصغار. بل وتقول إحدى المربيات التي التقيناها في إحدى رياض الأطفال القرآنية التابعة لرابطة نور البيان في تونس: “هذا اللباس لا يزعج الأطفال، وفي نهاية المطاف يعتادون عليه، خصوصا عندما يعلمون أنه واجب في الإسلام”.

تربية دينية مكثفة

يعتبر الدكتور الشريف أن “روضة الأطفال هي امتداد للفضاء الأسري. بل هي بديل عنه. وهو مكان يفترض فيه تمكين الطفل من تنمية طاقاته الحسية والحركية وفهم خارطة جسده”.من جهتها تعد رياض الأطفال القرآنية الأهالي بأن يحصل أطفالهم على تربية دينية متينة، مع الاستفادة من جميع المزايا التي توفرها روضة الأطفال العادية بمعنى وجود إطار يمكن للطفل أن يلعب فيه ويطور قدراته البدنية والعقلية. فدعونا نرى!

يبدأ اليوم في احدى الروضات القرآنية التي زرناها في النصر بتلاوة دعاء الصباح واستحضار آيات القرآن والأحاديث النبوية التي تم تلقينها للأطفال في اليوم السابق. يجلس الصغار على كراسيهم، الفتيات في جانب، والأولاد في الجانب الآخر ويشرعون في قراءة الآيات بشكل فردي أو جماعي. وويل لمن لم يتذكر واجبه! لأن المربية ستستعمل نبرة قاسية معه وتشعره بالذنب. بعد ذلك تعلمهم آيات وأحاديث جديدة وعلى الصغار ترديدها.

تستمر هذه الحصة الأولى من الساعة 8 حتى 9.30صباحا. بعد استراحة من نصف ساعة لتناول الطعام، يعود الأطفال في 10:00 لتعلم نطق آيات القرآن وفقا لطريقة النورانية، لمدة ساعتين حتى الثانية عشرة ظهرا. وتستخدم المربية لوحة كبيرة تضعها على الجدار فيها أحرف وتطلب من الأطفال قراءتها بشكل صحيح، بعدها تخرج أحد الصغار إلى السبورة (اللوح)  ليقوم هو نفسه بدور المعلم. وفي الأخير، يجب على الأطفال قراءة الآية أو الحديث كله .

هنا لا بد من التذكير بأن رياض الأطفال القرآنية تبني شهرتها على أساس أنها تعلم الأطفال القراءة والكتابة باللغة العربية، وكذلك تلاوة القرآن بشكل صحيح. وهو ما نقرأه في هذه الورقة الاعلانية لروضة “أشبال القرآن” ببنزرت (التابعة لجمعية العبادلة الخيرية) والتي تدرّس حسب طريقة منة الرحمن: “تمكين طفل الثلاث سنوات من القراءة في أي موضع من المصحف الشريف بأحكام التجويد بعد ثمانية أشهر”.

إلا أن خبراء الطفولة المبكرة يعتبرون أنه لا يجب تعليم الطفل بين 3 و 5 سنوات القراءة والكتابة لأن هذا هو “دور المدرسة الابتدائية”، كما يؤكد ذلك الدكتور معز الشريف. وتشير سمية حتيرة، مديرة روضة أطفال عادية منذ 23 عاما في قابس أنالبرنامج البيداغوجي المعتمد في الروضات العادية والمصادق عليه من قبل وزارة شؤون المرأة والأسرة يشترط أن يتعلم الطفل الحروف عند بلوغه خمس سنوات، ولكن فقط كأشكال”. وتضيف أنه “في هذه المرحلة، يمتلك الصغير طاقة كبيرة يجب أن يفرغها. لذلك يجب علينا أن نضمن له القدرة على ذلك من خلال أنشطة حسية وحركية تنمي جسمه وعقله فالطفل يحتاج للعب والحركة ما أمكن، لأنه إن لم يفعل ذلك في هذه السن، فلن يستطيع تدارك الأمر في وقت لاحق”.

يجد الطفل نفسه في رياض الأطفال القرآنية، مضطرا لمتابعة التعليم الديني لأربع ساعات يوميا، في حين أن المعدل المطبق في رياض الأطفال العادية هو ساعة واحدة من التعليم الديني (فيها تدريس القرآن الكريم، والأحاديث النبوية والأناشيد الدينية). وخلال كل ذلك الوقت، يجب عليه أن يجلس في وضعية المتعلم، “وهو ما يعد شكلا من أشكال العنف والتعسف عليه” كما  تؤكد سمية حتيرة.

بعض الأطفال، الذين يملون أو يفقدون صبرهم، يحاولون الحركة أو التحدث مع أقرانهم، لكن المربية تكون لهم بالمرصاد فتعاملهم بصرامة وتنزع إلى طرد العنصر المشاغب من القسم.

كنشاط حسي حركييتم تعليم هؤلاء الأطفال (3-5 سنوات) الصلاة. ولكن من المعلوم أنه في الدين الإسلامي لا يتعلم الطفل هذه الفريضة إلا  في سن 7 سنوات، وفق الحديث النبوي: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر”.

 ما يحصل في رياض الأطفال القرآنية هو انه يقع تلقين الصغير البالغ من العمر ثلاث سنوات حركات الصلاة كما لو كانت لعبة. ولكن في سن الرابعة يشرع في آدائها فعليا. ولقد عايننا بانفسنا وجود محراب حقيقي في روضة أطفال قرآنية بالمنزه التاسع في العاصمة و قد اخبرتنا مربية هناك أنه يستخدم للصلاة من قبل الأطفال البالغين من االعمر خمس سنوات.

” نخلة في الجنة

 في الرياض القرآنية يكون التعليم في اتجاه واحد فقط إذ لا يطلب من الصغير أي تفكير أو جهد عقلي.  المربية تقرأ الآية أو الحديث، وتقوم أحيانا بكتابتها على السبورة (اللوح)، وعلى الطفل تكرارها وحفظها عن ظهر قلب. في روضة أشبال القرآن ببنزرت يكافأ الطفل الذي يحفظ بسرعة أو يجيب إجابة صحيحة عن أسئلة المربية ب”نخلة في الجنة” ترسمها له هذه الأخيرة على السبورة.

بصفة عامة كل المفردات المستخدمة في الفصل لها دلالات دينية. فعلى سبيل المثال، لطلب الإذن بالكلام داخل القسم يقول الصغير: “مسلم، مسلم، مسلم!”، إذ انه يعرّف نفسه بهذا الوصف. لاحظنا أيضا في رياض الأطفال التي زرناها أن الصغار مجبرون على تلاوة أدعية (مستوحاة من الأحديث النبوية) لكل فعل يقومون به. على سبيل المثال، لدخول الحمام (“بيت الخلاء” كما يسمونه في الروضات القرآنية)، يجب أن يقول الطفل: “اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث”، وعند الخروج، “غُفْـرانَك”. ولتناول الطعام، ينبغي أن يردد: “بسم الله،  في أوله وآخره”، وعند الانتهاء من الوجبة: “الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيه مِنْ غَيْر حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ”. وقبل الذهاب إلى النوم (في القيلولة) لا بد ان يقول، “باسمك اللهم أموت وأحيا”، وعند الاستيقاظ يقول: “الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور”.

والويل كل الويل لمن ينسى هذه الأدعية، فسيوبخ من قبل المربية. أما إذا أساء طفل ما التصرف، أو اشتكى من أحد رفاقه، فستذكره هذه الأخيرة بالحديث النبوي: “لا يدخل الجنة نمّام”.

بالإضافة إلى الدعاء والحديث، يجب على الأطفال أيضا تعلم الأناشيد ذات الطابع الديني أو الوعظي. وتتميز هذه الأناشيد بأنها دون موسيقى أو إيقاع، لأن كلاهما محظور في الفكر السلفي الوهابي. إذ يسمح فقط بالغناء بالصوت البشري. وتقوم المربيات بتحميل الأناشيد من المواقع الالكترونية المتخصصة. ويحتفي محتوى الأناشيد عموما بفضائل الإسلام ويشجع على نصرته ضد الأعداء، وحتى عن طريق الجهادإذ تقول سهام جبار: “كان ابني يغني دائما أغنية تقول كلماتها: جدي هو صلاح الدين وسأذهب للقتال في فلسطين”، لافتة إلى أنها شعرت بالرعب لسماع طفلها ذي الأربع سنوات يردد هذا النوع من الكلمات، مما جعلها تقرر إخراجه من روضته القرآنية بمنوبة. كما تروج هذه الاناشيد لقيم تقليدية، مثل  أنشودة “أمي ربة بيت”.

يضاف إلى  تدريس هذه المواد، تعليم الأخلاق والعقيدة من خلال قصص مستوحاة من التراث الإسلامي وبخاصة من سيرة النبي محمد (ص) وصحابته. “يجب أن تكون الحكايات التي تروونها (تقصد المربيات) للأطفال مستوحاة من القرآن الكريم ومن قصص الأنبياء وصحابة الرسول”، هكذا كانت تؤكد علينا المدربة خلال الدورة التكوينية.

بعد فترة صباحية مكتظة بالمواد الدينية، تكرّس فترة ما بعد الظهر (من الساعة 14 إلى 16) لتدريس الرياضيات، والإيقاظ العلميواللغات (الفرنسية أو الإنجليزية) والتصوير. حتى في هذه المجالات، يبقى الدين حاضرا. ففي احدى الرياض القرآنية التي زرناها، تطلب المربية من صغيرة تبلغ من العمر 3 سنوات ان تربط بسهم الإجابات الصحيحة في كتاب الإيقاظ العلمي: “بأي يد نأكل؟ فتجيب الفتاة “اليد اليمنى”. وتضيف زميلتها: “وحده الشيطان يأكل بشماله”. وفي تمرين آخر، يطلب من الأطفال تلوين الإجابة الصحيحة على السؤال: “أين يجب على الفتاة أن تضع الحجاب: فوق أو تحت الرأس”؟ بالإضافة  إلى ذلك فإن الصور التي تعطى للأطفال لتلوينها لا ملامح لها. عندما سألنا عن مصدر تلك الكتب، قيل لنا أنها تحمّل من شبكة الإنترنت والمواقع الإسلامية المتخصصة .

حتى تدريس الرياضيات ليس بمنأى عن تدخل الدين. “لتعليم الأطفال الرياضيات، أطلب منهم حساب عدد الآيات في سور القرآن، ثم كتابة كل آية وفقا لعددها في السورة”،  كما تبين إحدى المربيات.

“المربيةالداعية” و “الطفل القائد

في رياض الأطفال القرآنية، هناك حرص كبير على تحميل الطفل المسؤولية وجعله يتصرف مثل البالغين. والهدف من ذلك هو خلق قادة. “إن المربية الجيدة هي من تنجح في تربية أطفال قادة”، كما تشرح لنا المدربة خلال الدورة التكوينية. كما نلاحظ مثلا انه من بين أهداف روضة أشبال القرآن، وفق ما يبينه إعلانها: “تنشئة جيل رباني وتكوين شخصية الطفل المسلم المتميز في كل المجالات و المعتز بدينه”.

من أجل ذلك يطلب من الطفل محاكاة حركات الصلاة خلال الاحتفال بنهاية العام الدراسي، كما يتبين من خلال شريط فيديو لاحتفال نهاية السنة نظمته روضة الأطفال “براعم عبد الله بن مسعود”، موجود في صفحتها على الفيسبوك.(للإطلاع على الصفحة)

. وذات الشيء بالنسبة لخطبة الجمعة، إذ يتم تدريب الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الخمس سنوات على إلقاء الخطبة في إطار التحضير لهذا الإحتفال. ينفذون ذلك على خشبة المسرح أمام آبائهم كما لو كانت مسرحية، فيلعب الطفل دور الإمام في صلاة الجمعة وسط رفاقه، ويلقي الخطبة التي كلفته المربية بحفظها عن ظهر قلب، ويجب عليه أن يقلد الإيماءات والنبرة الجادة لإمام المسجد.

حتى المربيات في رياض الأطفال القرآنية لا يعتبرن أنفسهن مجرد مربيات، بل مكلفات بمهمة مقدسة. في تعريفها  لهذه المهمة تقول المدربة خلال الدورة التكوينية أ: ” المربية الداعية هي شخصية تنظر إلى دورها في التعليم على أنها رسالة تؤدّى، وليس وظيفة. وشخصية تضع نصب عينيها أن هذه المهنة، هي مهنة الأنبياء والرسل وأصحابهم وهم الذين يرفعون عن الناس الجهل فينقلونهم من ظلمات الجهالة إلى نور العلم والإيمان والمعرفة. وهي دالة على الله”.

ولا تقتصر مهمة المربية على الأطفال بل تمتد إلى الأولياء. إذ تشجع الصغار على دعوة آبائهم وأمهاتهم إلى “الطريق القويم”. تقول وسيلة: “كان ولدي البالغ من العمر 5 سنوات يصر علي دائما أن أصلي وأتلو الأدعية ذاتها التي علموها له في روضة الأطفال القرآنية”. كما تنقل لنا مربية في روضة أطفال قرآنية بالقيروان، قصة طفل استطاع إقناع والده بالتوقف عن شرب الخمر والشروع في أداء الصلاة بانتظام .

الأولياء يقعون في الفخ

من الملفت للانتباه ان الأهالي الذين يختارون تسجيل أطفالهم في الرياض القرآنية ليسوا بالضرورة متدينين. بل إن العديد منهم لهم عقلية عصرية. ففي المؤسسات المختلفة التي زرناها، رأينا أولياء يعملون كأطباء وموظفين في شركات، ومحامين وحتى عسكريين .

فلماذا يختارون هذه الرياض؟

تقول سهام جبار (موظفة): “كنت أعتقد، عندما وضعت ابني في روضة أطفال قرآنية، بأن العاملين فيها سيهتمون به بشكل أفضل، لأنهم أشخاص يخافون الله بالإضافة إلى انني كنت سعيدة بأنهم سيدرسونه القرآن”. في ذات السياق تروي مربية في روضة قرآنية في العاصمة أنه “في أحد الأيام مطلع السنة، جاءت امرأة عصرية ترتدي قميصا بدون أكمام لتسجيل ابنها. وعندما سألناها عن سبب اختيارها لروضتنا، أجابت أنها واثقة من أننا سنعامله جيدا، لأنها تؤمن أننا أشخاص أتقياء”.

لقد سئم الأولياء من التجاوزات وسوء المعاملة المسجلة في العديد من رياض الأطفال العادية لذلك اصبحوا يتوجهون نحو الرياض القرآنية.

لاستدراج الأولياء وأغرائهم يخبرهم أصحاب رياض الأطفال القرآنية بأن صغارهم سيحفظون عن ظهر قلب مقاطع كاملة من القرآن ويتلونها بشكل صحيح، بالإضافة إلى العديد من الأحاديث، كما سيحصلون على تربية إسلامية. تتذكر سهام عندما ذهبت لتسجيل ابنها، آدم، في روضة قرآنية بمنوبة، كيف أن أصحابها وعدوها بأن ابنها “سيتعلم اللغة العربية وجزءا كبيرا من القرآن الكريم.  في وقت لاحق عندما يدخل المدرسة الابتدائية، سيواصلون متابعته حتى يتمكن وهو في سن الحادية عشر من حفظ كامل القرآن عن ظهر قلب. وهو، بطبيعة الحال، ما ترغب فيه كل أم”.

من الصعب جدا مقاومة مثل هذا العرض المغري في مجتمع يعاني من أزمة قيم مما دفعه إلى التصويت بأغلبية ساحقة للإسلاميين (41 ٪ في انتخابات 23 أكتوبر 2011)، اعتقادا منه أنهم سيتمكنون من اعادة هذه القيم.

في هذا الصدد تروي حبيبة الميلي، مديرة روضة أطفال عادية في المنستير، أن أحد الآباء “جاء  يوما لسحب ابنه من مؤسستها ثم نقله إلى روضة قرآنية لأنه وجد أننا نضع الموسيقى للأطفال، وهو ما اعتبره نوعا من التمييع لطفله”. من جهتها تشير نبيهة التليلي، رئيسة الغرفة الوطنية لرياض ومحاضن الأطفال التابعة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية إلى أن “التونسيين يختارون رياض الأطفال القرآنية لأنهم متعطشون للدين، خصوصا وأن الرئيس السابق زين العابدين بن علي قد سحق ولعقدين من الزمن، كل ما له علاقة بالدين، بحجة مكافحة الإرهاب”.

ولكن ما لا يقال للأولياء هي العواقب المحتملة لتربية بمثل هذه الصرامة. “ما يتم في هذا النوع من الرياض هو حبس الطفل داخل طريقة وحيدة للتفكير، لينغلق عقله عن العالم، إلى جانب انه يتم تعليمه أن هناك فقط الخير أو الشر ولا شيء بينهما، وإيهامه أن كل ما لا يشبهه، لا قيمة له”، كما يؤكد ذلك الدكتور الشريف .

رسوم أقل

هناك سبب آخر يدفع الأولياء إلى وضع صغارهم في رياض الأطفال القرآنية وهو أسعار التسجيل فيها  التي هي أرخص بكثير مما هو معمول به في الرياض العادية. وذلك لسبب وجيه: فالهدف هو جذب المزيد من الزبائن، خاصة في أوساط الطبقات الدنيا، التي لا تملك الإمكانيات لإرسال أبنائها إلى فضاءات أخرى. وهنا لا بد من التذكير أن نسبة التغطية لهياكل الطفولة المبكرة على مستوى الجمهورية التونسية لا تتجاوز 34 ٪ من الحاجة الفعلية، وفقا للأرقام الصادرة عن وزارة شؤون المرأة والأسرة هذه السنة. من الواضح إذا أن تسجيل الأطفال في هذه الهياكل ليس في متناول الجميع. وبالتالي فإن الرياض القرآنية تستغل هذا الفراغ. وسيلة مثلا تمتعت بتخفيض عندما أتت لتسجيل ابنها في روضة أطفال قرآنية في منوبة مراعاة لحالتها الاجتماعية. أما سهام فتؤكد انها كانت تدفع 75 دينارا شهريا للروضة القرآنية التي كانت تضع فيها صغيرها ولكن عندما نقلته إلى روضة عادية، في عين المنطقة (منوبة)​​، أصبحت تدفع 100 دينار في الشهر. وتنخفض رسوم الاشتراك في الرياض القرآنية في المناطق الداخلية من البلاد الى 20 دينارا فقط شهريا، حسبما رصدت كاتبة التحقيق.

 ما يفسر قدرة رياض الأطفال القرآنية على اقتراح أسعار منخفضة كونها لا تدفع ضرائب أو اشتراكات الضمان الاجتماعي لموظفيها الذين لا يعملون تحت غطاء قانوني، بما ان هذه الرياض ذاتها تنشط خارج إطار القانون. فهي لا تخضع لرقابة تفقدية الشغل ولا لرقابة وزارة المالية. “في حين نتحمل نحن، أصحاب رياض الأطفال القانونية، نفقات التغطية الإجتماعية والضرائب، فإن الرياض القرآنية لا تدفع شيئا رغم أنها تمارس نشاطا ربحيا”، تقول بمرارة رئيسة الغرفة الوطنية لرياض الأطفال نبيهة التليلي، مضيفة أن “القانون التونسي يمنع الجمعيات بشكل عام أن يكون لها نشاط ربحي”. ففي الفصل الرابع من قانون الجمعيات (عدد 88 لسنة 2011) ” يحجر على الجمعية أن تمارس الأعمال التجارية لغرض توزيع الاموال على أعضائها للمنفعة الشخصية أو استغلال الجمعية لغرضالتهرب الضريبي”.

نشاط مخالف للقانون

في الواقع، فإن رياض الأطفال القرآنية التي أنشئت في معظمها من قبل جمعيات دينية بعد الثورة، رفضت ولفترة طويلة الامتثال للقانون والقبول بإشراف وزارة شؤون المرأة والأسرة، من خلال تطبيق كراس الشروط الذي ينظم نشاط رياض الأطفال في تونس.وللتملص من التشريعات ورقابة وزارة شؤون المرأة والأسرة يعمد أصحاب الرياض القرآنية إلى استخدام الحيلة، فيضعون في القانون الأساسي للجمعيات الدينية أنها توفر تعليم القرآن “لكل الأعمار”. لا يوجد في تونس قانون يمنع ذلك. ولذلك فإن نشاطها لم يعد يندرج تحت مظلة وزارة شؤون المرأة، بما أنها تشرف فقط على قطاعالطفولة المبكرة. وعليه، فعندما يأتي المتفقد المعين من قبل الوزارة ليراقب روضة الأطفال القرآنية، يتم ابلاغه بأنه غير مرغوب فيه ويتم طرده. وقد تكررت مثل هذه الحوادث عديد المرات.

لحل هذه المشكلة استعانت الوزارة، في مرحلة أولى، بمندوبي حماية الطفولة لمرافقة المتفقدين. إذ أن هؤلاء المندوبين، الذين تتمثل مهمتهم في حماية الأطفال من جميع الأخطار، يمتلكون الضابطة العدلية للتدخل في حالة الإشعار بوجود تهديد للطفل اينما كان، مما يجعل من المستحيل طردهم. لذلك تمكنوا من الدخول إلى رياض الأطفال القرآنية والاطلاع على ما يحدث فيها، ولكنهم وجدوا أنفسهم أمام مشكلة أخرى. إذ أن المادة 20 من مجلة الطفولة تحدد سبع حالات للتهديد الذي يتعرض له الطفل والتي تستدعي تدخل مندوب حماية الطفولة وهي لا تشمل “غسيل الدماغ”.

يقول أنيس عون الله، مندوب حماية الطفولة بتونس: “كل ما يمكنني القيام به هو إخراج الطفل من الروضة القرآنية، ودعوة الأولياء لوضعه في مؤسسة أخرى. أما فيما يخص مدى احترام هذه الرياض الأطفال لمعايير كراس الشروط، فإن ذلك لا يدخل ضمن صلاحياتي”. كما يقر أنه سبق له التقدم إلى قاضي الطفولة بطلبات لإغلاق  مثل هذه المؤسسات، غير أن القضايا لا تكون لها تبعات وذلك بسبب عدم وجود التهديد، حسبما تحدده مجلة الطفولة.

قصة الطفلة المغتصبة: المنعرج

كانت حادثة اغتصاب طفلة تبلغ من العمر 3 سنوات في شهر مارس الماضي من قبل حارس الروضة الفوضوية التي ترتادها في المرسى، حافزا قويا لكي تتخذ الدولة تدابير جديدة لتنظيم القطاع والتعامل مع رياض الأطفال غير القانونية. وقد أبرزت هذه القضية النقص في تقنين قطاع رياض الأطفال. يجب أن نذكّر أنه توجد في تونس 4005 روضة أطفال قانونية. في حين أن عدد الرياض الفوضوية يعادل 702 روضة، وفقا لآخر احصاء أجرته وزارة شؤون المرأة والأسرة هذا العام. ولكن وفق السيدة نبيهة التليلي، فإن العدد الحقيقي لهذه الرياض يتجاوز ذلك بثلاث مرات. تفشي ظاهرة رياض الأطفال القرآنية زاد في تعقيد الوضع بالنسبة لقطاع يعاني أصلا من قلة التنظيم بسبب كثرة الدخلاء عليه .

لقد عقدت ثلاثة مجالس وزارية حول موضوع الرياض القرآنية والفوضوية: في نوفمبر 2012، مارس 2013 وابريل 2013. وتقرر إصدار منشور يسمح بإغلاق رياض الأطفال غير القانونية بشكل عام. غير أنه  لم ير النور بعد. إلا أن وزارة شؤون المرأة والأسرة شرعت بالفعل في حملة إغلاق لرياض الأطفال الفوضوية منذ أيار/ مايو 2013. وحتى الآن أصدرت قرارات في غلق 170 مؤسسة. أما فيما يتعلق برياض الاطفال القرآنية فقد شملت قرارات الغلق اكثر من 11 فضاء، بسبب مخالفتهم كراس شروط وزارة المرأة.

رابطة نور البيان تصعد من لهجتها

أثارت تلك القرارات غضب اصحاب الرياض القرآنية، وخصوصا الشيخ حمدي الغانمي، رئيس رابطة نور البيان وهي جمعية دينية تشرف على 12 روضة أطفال قرآنية. ففي حين امتثل بعض مسيري رياض الأطفال القرآنية في نهاية المطاف للقانون، لا يريد الغانمي اعتماد كراس شروط وزارة شؤون المرأة والأسرة، لأن ذلك يعني بالضرورة تطبيق المنهج البيداغوجي المصادق عليه من قبل الدولة. في حين يفضل هو نطبيق منهجه المستورد من السعودية.”بأي حق تريد وزارة شؤون المرأة أن تجبرنا على اعتماد برنامجها؟ لا يمكننا أن نقبل بكراس شروطها الذي لا يحمل أي اشارة إلى الإسلام. بأي حق تريد تربية أطفالنا على طريقتها”؟ هتف الغانمي خلال وقفة احتجاجية دعا إليه يوم 20 أيلول/ سبتمبر أمام مقر الحكومة لاستنكار قرار إغلاق رياض قرآنية تابعة لنور البيان. وقد تم حشد أهالي ومربيات للمشاركة في هذه الوقفة وبخاصة الأطفال، الذين كانوا يرتدون ميداعات (السترة المدرسية)، ويحملون لافتات كتبت عليها شعارات مثل: “ارفعوا أيديكم عن أبنائنا، دعونا نربيهم كما نشاء”. “بابا وماما اختاروا لي نور البيان وأنا حبيتها ما تحرمونيش منها”.

ولمزيد من جلب تعاطف المارة واستمالة الرأي العام، عمد منظموا الوقفة الاحتجاجية إلى جلب مكبر صوت وأعطوه للصغار لتلاوة الآيات القرآنية والأدعية التي حفظوها في رياضهم.

ولكن ما لا يصرح به رئيس رابطة نور البيان هو أن نشاط جمعيته يدر عليه ارباحا حقيقية لأن الرياض القرآنية التي تعمل تحت اشرافه أو تلك التي تستعمل اسم رابطته لتشتغل ملزمة بدفع نسبة من مداخيلها للجمعية. وقد تصل هذه النسبة، حسبما اخبرتنا مديرة احدى الروضات القرآنية إلى 60 بالمئة. بل إن رابطة نور البيان قد بدأت فعلا تستثمر في التعليم الابتدائي من خلال انشاء مدرسة خاصة للتعليم الابتدائي  تدعى الملاك الصغير بالمنزه التاسع. افتتح العام الدراسي الأول 2012 وهي تقدم تعليما يغلب عليه الطابع الديني. في الوقت الحاضر تدرس هذه المدرسة السنوات الأولى والثانية في انتظار ان تغطي باقي السنوات.

“كتاتيب خاصة

 يفضل رئيس رابطة نور البيان عوضا عن الامتثال لكراس شروط وزارة المرأة ان يدخل تحت اشراف وزارة الشؤون الدينية باعتبار الرابطة جمعية قرآنية. ويبرر اختياره بوجود منظومة الكتاتيب التي تشرف عليها هذه الوزارة والتي تحتضن الأطفال في مرحلة ما قبل الدراسة. هذه الكتاتيب تم تقنينها من طرف الدولة منذ سنة 2001 وهي تطبق برنامجا بيداغوجيا عصريا يجمع بين تعليم المواد الدينية وتلك التي تطور الطاقات الحسية والحركية للطفل. يوجد حاليا 1300 كتاب في تونس كلها حكومية.

حاولت وزارة الشؤون الدينية  بمبادرة من المرحوم أحمد البرقاوي المسؤول السابق عن الجمعيات فيها الدخول في حوار مع الجمعيات الدينية التي تشرف على رياض قرآنية و قررت البدء في اعداد كراس شروط للكتاتيب الخاصة. “الهدف هو اعطاء الفرصة لرياض الأطفال القرآنية، التي ترفض تطبيق كراس شروط وزارة شؤون المرأة والأسرة لأنها تعتبره بعيدا عن توجهاتها، لكي تختار كراس الشروط الجديد”، كما كان يقول البرقاوي.

لكن هذا المشروع تعطل في الوقت الحالي. في المقابل تدرس وزارة الشؤون الدينية حاليا وتحت الحاح الجمعيات الدينية، فكرة الاشراف على المضمون البيداغوجي للرياض القرآنية بما انها تعتبر نفسها الأقدر على ذلك، تاركة كل ما يخصالإجراءات الإدارية المتعلقة بخلق الروضة، تشغيل المربيات، اختيار المكان… لإشراف وزارة المرأة.

من الواضح إذا ان الحكومة الحالية، ذات التوجه الإسلامي، لا تسعى لحظر رياض الأطفال القرآنية أو الحد من وجودها. بالعكس هي تريد أن تجمعها و تجد لها اطارا قانونيا يسمح لها ان تنشط دون التعرض لها، حتى ولو اضطرت ان تخلق لها نظاما موازيا. يقول علي اللافي المستشار السياسي والإعلامي لوزير الشؤون الدينية إن “الوزارة ترفض إغلاق رياض اطفال اعتمادا على صبغتها الدينية. في ذات الوقت فهي تريد ان تمتثل هذه الفضاءات للقانون”. من جهتها صرحت وزيرة المرأة سهام بادي خلال لقاء صحفي عقدته يوم 27 أيلول/ سبتمبر2013 أنها “لا ترى مانعا من فتح رياض اطفال قرآنية شرط أن تلتزم بتطبيق القانون”.

تسعى الجمعيات الدينية حاليا إلى الاستثمار في التعليم الابتدائي عن طريق تأسيس مدارس ابتدائية خاصة. فبعد رابطة نور البيان، يعتزم المركز الإسلامي عبدالله مسعود  بناء مدرسة ابتدائية أطلق عليها اسم “مدرسة الطفل القائد”.  كما ان ممثلي الطريقة النورانية بتونس ينوون، حسب ما أبلغنا به موظف الاستقبال في مكتبهم بالنصر، إنشاء 13 مدرسة ابتدائية على كامل التراب الوطني.

 هذه الاستراتيجية الغامضة التي تعتمدها الحكومة في التعامل مع الجمعيات القرآنية ستضمن مزيد انتشارها وازدهارها وهو ما سيمكنها من تغيير النموذج المجتمعي التونسي على المدى الطويل.

مؤطر: انتشار الجمعيات الدينية

نمت ظاهرة رياض الأطفال القرآنية، نتيجة لانتشار الجمعيات الدينية، التي أصبح من السهل تأسيسها بموجب المرسوم عدد 88 المؤرخ في 24 سبتمبر 2011. وفق المادة العاشرة منه، فإن تأسيس الجمعيات بات خاضعا لنظام التصريح وليس لنظام الترخيص، كما كان الحال سابقا. كنتيجة لذلك تم خلق  5892 جمعية (مختلفة الاختصاصات) بعد 14 كانون الثاني/ يناير، حسبما تفيد به الأرقام الصادرة عن مكتب الجمعيات بالوزارة الأولى. من ضمنها ما يعادل 1000 جمعية ذات صبغة دينية .

ويعطي القانون التونسي الحق للجمعيات في إنشاء رياض أطفال، ولكن يجب أن تكون تحت اشراف وزارة شؤون المرأة والأسرة. إذ أن فتح أي روضة أطفال، مهما كانت طبيعتها، يخضع لكراس الشروط الذي تضعه الوزارة. وينبغي لباعث المشروع أن يسحب هذا الكراس، ويعمره ثم يقدمه للمصلحة الجهوية للطفولة الموجودة في دائرته. وتتكفل الوزارة بعد ذلك بإرسال متفقد، في غضون أسبوعين من تاريخ الإيداع، للتحقق من الامتثال لمتطلبات كراس الشروط وإعطاء الباعث وصلا ليبدأ نشاطه فعليا.

تدابير وزارة شؤون المرأة والأسرة لتنظيم القطاع

تدرس وزارة شؤون المرأة والأسرة حاليا امكانية اعادة العمل بنظام الترخيص فيما يتعلق بإنشاء رياض الأطفال عوضا عن نظام كراس الشروط الذي تم اقراره في 2003، وذلك بغرض مزيد احكام سيطرتها على القطاع. كما أطلقت برنامجا للرفع من عدد متفقديها من 18 إلى 30، في انتظار تشغيل 30 متفقدا إضافيا في سنة 2014. في الوقت نفسه، من المنتظر أيضا زيادة عدد المرشدين البيداغوجيين من 98 حاليا إلى 300، من أجل تعزيز التأطير بالنسبة للعاملين في قطاع رياض الأطفال.

من جهة أخرى، تم اتخاذ تدابير فيما يتعلق بتأهيل مربيات رياض الأطفال. فقد تم توقيع اتفاقية مع وزارة التشغيل والتكوين المهني لإطلاق برنامج موحد للتدريب لفائدة المربيات، والهدف هو قطع الطريق على بعض الجمعيات الدينية التي كانت قد أنشأت مراكز تكوين خاصة بها. و في هذا الصدد تقول فوزية جابر، المديرة العامة للطفولة بوزارة شؤون المرأة: “لقد وضعنا قائمة من 19 مركزا للتدريب المهني لمربيات رياض الأطفال تكون تحت إشراف وزارة شؤون المرأة والأسرة. وسوف نعتبر أن المربيات اللاتي لم يتخرجن من هذه المراكز، تعملن خارج  اطار القانون”.

أنجز هذا التحقيق بالتعاون مع شبكة اريج للصحافة الاستقصائية تحت اشراف مارك هانتر

* المقال منشور في موقع بناء نيوز يوم 20-4-2013، تحت عنوان: “رابطة نور البيان: المدارس القرآنية مكسب ثوري لا يمكن الإستغناء عنه”


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *