الموت في ثياب الملائكة!!

21 نوفمبر 2017

عشرات اليمنيين يقعون ضحايا مداخلات طبية في عيادات مخالفة

انتشار “دكاكين” حقن وتضميد وسط غياب الرقابة وضعف التنسيق

تحقيق: محمد الحسني

درج– آية الكدم، طفلة في منتصف عامها الثاني، قضت، بعد 20 دقيقة على تلقيها لإبرة خافضة للحرارة في إحدى عيادات الحقن والتضميد، المنتشرة بكثرة في صنعاء عبر دكاكين صغيرة جداً، تفتقر للنظافة والتعقيم. عيادات تمارس مهام أخرى كالرقية الشرعية، بيع الأعشاب، العسل والحجامة.

يقول والدها، محمد الكدم (40 عاماً)، أن آية كانت تعاني من ارتفاع بسيط في الحرارة، دفعه ووالدتها لنقلها في شهر مايو/ أيار 2014 إلى عيادة “الأبرار” في حي السنينة غرب العاصمة. “لدى وصولنا طمّنا مالك العيادة أبوبكر طارش حميد (21 عاماً)، وقال لا تخافا سأضرب لها إبرة عضلية وستكون بخير”، حسبما يستذكر الأب. غير أن حال آية “تغيرت مباشرة، لم نكن لحظتها نلمس أنها ما تزال على قيد الحياة سوى التنفس”.

وعندما استفسر الأب المكلوم عن حال ابنته المتردية، رد مالك العيادة غير المرخصة، “وأنا ما أفعل لكم”؟ يؤكد الكدم أنه نقل ابنته إلى مركز السنينة الطبي، لكنها فارقت الحياة فور إيصالها إليه: “20 دقيقة فقط كانت الفترة الزمنية الفاصلة بين ضرب الإبرة ووفاة آية”.

مالك العيادة أبوبكر طارش الطالب بكلية الآفاق للعلوم الطبية والتقنية التي تمنح مؤهلات مساعدي أطباء، أكد في محاضر التحقيقات أن حرارة الطفلة آية كانت مرتفعة، وأنه حقنها بإبرة “بارستيمول”، وقال إن “الوفاة كانت بعد ثلاث ساعات، وليس 20 دقيقة” حسب إفادة الأب، الذي أتهم طارش “بإخفاء نوعية الإبرة عندما طلبها منه بعد الوفاة، وتقديم عينة لإبرة بارستيمول أثناء التحقيق، وهو ما دفعه لتقديم الشكوى والمطالبة بتشريح الجثة”.

لجأ والد آية إلى القضاء لمعرفة نوع الإبرة التي قتلت ابنته، لجعل الجاني يدفع الثمن _ حسب والد الطفلة _ غير أنه لم ينجح في ذلك منذ أكثر من ثلاثة أعوام، حيث ما تزال القضية تراوح بين النيابة العامة والمجلس الطبي اليمني.  

الدكتور محمد غدر استشاري طب أطفال بمستشفى السبعين (الحكومي) يرجّح “تعرض الطفلة لأحد الأمراض التنفسية أو حساسية الجهاز التنفسي، ما أصابها بصدمة تحسسية أدت إلى وفاتها، عند ضرب إبر البنسلين أو الفولتارين الخاصة بتخفيف الحرارة”. ويشرح: “كان من المفترض على مالك العيادة فحص الحساسية قبل ضرب هذه الأنواع من الأدوية”.

آية واحدة بين عشرات الضحايا قضوا أو تعرضوا لمضاعفات طبية خطيرة، جراء تلقيهم خدمات علاجية مغلوطة، يقدّمها أشخاص لا يحملون شهادات طبية / أو أنهم غير مؤهلين في عيادات للحقن والتضميد، أغلبها غير مرخصة. تتكرر هذه التجاوزات في خرق لقانون المنشآت الصحية وغياب رقابة المجلس الطبي اليمني، المخول بمنح تراخيص مزاولة المهنة لفنيي العيادات، وكذلك مكاتب الصحة في العاصمة، المسؤولة عن منح تراخيص العيادات.

وكشف تتبع معد التحقيق لـ 17 حالة أن 16 منها تعرضت لخطأ طبّي في عيادات غير مرخصة، منها 10 حالات تعرضت لحقن خاطئ، وتوزعت البقية بين صرف أدوية وتجبير كسور وعملية لوزتين وإبرة تجميل، مقابل حالة واحدة في عيادة مرخصة.

وبينما تحمّل مكاتب الصحّة والمجلس الطبي تداعيات الحرب المسؤولية عن فوضى التراخيص وضعف الرقابة، يعود آخر ترخيص عيادات الحقن والتضميد في صنعاء إلى عام 2004، قبل عقد من اندلاع الحرب في اليمن. ويستذكر مسؤولي المجلس الطبي ومكاتب الصحة ان العمل الرقابي قبل الحرب كان يسير بوتيرة عالية حيث كان يتم إغلاق العيادات المخالفة وإحالتها للنيابة والقضاء”، وتشكو مكاتب الصحة من ضعف تعاون الجهات الأمنية بما يحول دون ضبط المخالفين ومساءلتهم.

تفيد سجلات المجلس الطبي بأن عدد فنيي عيادات الحقن والتضميد الذين منحهم المجلس تراخيص لمزاولة العمل منذ يناير 2009 وحتى أغسطس 2017، بلغ 1399 ترخيصاً، موزعة على 22 محافظة يمنية، منها 76 ترخيصاً فقط لأمانة العاصمة ومحافظة صنعاء مجتمعتين. تقتصر مهام هذه العيادات بـ”قياس الضغط، ضرب الإبر، وتضميد الجروح، والإسعافات الأولية للحالات المستعجلة، وإحالتها لأقرب مستشفى”، وفق أمين عام المجلس الطبي اليمني الدكتور عبدالرحمن الحمادي.

مسح ميداني نفّذه معد التحقيق في 12 حياً من أحياء العاصمة، يكشف أن واحدة من كل ستة عيادات هي المرخصة، وأن غالبيتها مجتمعة تفتقر لكفاءات طبية، في مخالفة لقانون المنشآت الصحية. إذ شمل المسح 62 عيادة، منها 11 فقط مرخصة، مقابل 27 عيادة لا تمتلك تراخيص، بينما رفض مالكو 24 عيادة الإفصاح عن وضع منشآتهم القانوني.  

ورصد مسح آخر أجراه معد التحقيق تعرض 100 مراجع لأخطاء طبية في عيادات للحقن والتضميد، خلال ثلاثة أشهر فقط هي (يونيو/ حزيران، يوليو/ تموز وأغسطس/ آب 2017).

وأظهرت الأخطاء الطبية – الموثقة في سجلات المجلس الطبي اليمني، وثلاث مستشفيات حكومية وخاصة- في العاصمة صنعاء أن 56 % من الحالات المسجلة تعرضت لحقن إبر مضّرة، بما فيها “إبر” الطلق التي تعطى للحوامل في حالة تعسر الولادة الطبيعية، وأن 11 % من الحالات تلقى فيها مصابون بالكوليرا أدوية غير مناسبة تزيد حدّة الإصابة، وأن 10 % منها تعرضت لتجبير غير احترافي للكسور، في حين توزعت 23 % من الحالات على التضميد المغلوط، صرف أدوية بطريقة عشوائية وإجراء عمليات صغرى غير مصرح بها.

طبيب الطوارئ بالمستشفى الأهلي الحديث وليد الثجيري يؤكد أن “الأدوية التي تعطى في العيادات لمرضى الكوليرا – مثل نوسبا، زنتاك، بلازيل، ومضادات حيوية – تساعد على منع القيء، ما يؤدي إلى بقاء السموم في الجسم. وبحسب د. الثجيري، يحظر “إعطاء المريض أي أدوية في حال إصابته بالكوليرا، حتى يتم تعويض السوائل المفقودة من الجسم”، لافتا إلى أن “مضاعفات الكوليرا عند تناول هذه الأدوية قد تتسبب بالوفاة أو قصور وظائف الكلى”، بينما يفترض تلقيهم أملاح الإمهاء الفموي الخاصة بـ تعويض الجسم بالسوائل.

الأخطاء الطبية

الأخطاء الطبية المرتكبة في عيادات الحقن والتضميد تسببت في وفيات أو في إصابة مرضى بضعف حركة الأطراف، تسمّم غذائي، ومضاعفات متنوعة وخطيرة، حسب توصيف من تم مقابلتهم.

مهند عبده محمد (14 عاماً) كاد يفقد ذراعه اليسرى في عملية تجبير في عيادة الزريقي الخاصة بالحقن والتضميد بمنطقة مذبح بالعاصمة صنعاء، إذ خضعت يده للتجبير مرتين متتاليتين، عقب حادثة سقوط أدت إلى كسرها في يوليو/ تموز الماضي.

أم مهند زهرة الحرازي (36 عاما) تشرح ما حصل لابنها: “كان ثلاثة أشخاص في العيادة يشدوا يد ابني بقوة لدرجة أنه شارف على الموت.. ما فيش بقلوبهم رحمة”. توقفت قليلا ثم تابعت: “خوفنا من تكاليف المستشفيات دفعنا لأخذه إلى العيادة وهذه هي النتيجة”.

وبابتسامة عفوية تحدث مهند عن شعوره حينها: “كنت أتساءل كيف سألعب بدون يد…”؟ 

معاناة مهند انتهت بعملية جراحية، وضعف في حركة اليد، حسب الطبيب المختص معين العودي استشاري جراحة العظام والمفاصل بمستشفى 48 العسكري، الذي تابع حالة مهند. ويقول الطبيب: “عملية التجبير الخاطئة أدت إلى تورم الذراع وتحولها إلى اللون الأزرق، بسبب قصر تروية الذراع بالدم مما أدى إلى موت أنسجتها، والاقتراب من حالة الغرغرينا، وفقدان القدرة على الحركة الحرة لاحقا”، مالك العيادة علق في اتصال هاتفي مع معد التحقيق عن عدم مسئولية العيادة عن الاثار التي لحقت بعملية التجبير وقال ” انا لا أضمن الحالات “.

إنقاذ متأخر

نوع آخر من الحوادث الطبية حدثنا عنه مفضل عبد الكريم، الذي كاد يفقد زوجته فاطمة أحسن (27 عاما). “حولتها إبرة في إبريل/ نيسان 2017 في عيادة (القاضي)  بمنطقة بني الحارث _ والذي رفض مالكها التعليق حول الحادثة _ إلى زائر مستمر للمستشفيات والمراكز الصحية، بسبب إصابتها [بالعصب الوركي]، ما أدى إلى ضعف في حركة القدم”. 

الطبيب وليد الثجيري يوضح سبب هذا الحادثة بأن: “هناك أدوية تحتاج إلى عمق معين عند إعطائها عن طريق العضل، ويجب تجنب ضربها في الأوردة والشرايين”.

يؤكد الثجيري أن “العشرات من الحالات الوافدة إلى المستشفى الأهلي الحديث نتيجة ضرب الإبر تحتاج إلى عملية فتح وتنظيف، بسبب تكون تجمعات قيحية ناتجة عن رفض الجسم امتصاص الدواء عند وصوله إلى منطقة مغلوطة”. ويؤكد أن “العديد من الحالات تصاب بجرح كلي أو جزئي للعصب الوركي، ما يؤدي إلى انفلات القدم وعدم الإحساس بها، أو ضعف حركتها، مع استمرار الألم لسنوات”.

عبد المؤمن المسوري (42 عاما) أحد الذين تعرضوا لحادثة طبية في عيادة لجأ لها لتضميد قدمه المصابة بـ (مسمار قدم) برز من الجلد. يقول المسوري: “لم تكن الحاجة تزيد عن مجارحته بشكل جيد واستخدام مضادات حيوية. لكن الحالة التي عولجت في عيادة الشفاء بمنطقة شميلة في مايو الماضي تحولت إلى وضع حرج يستوجب القيام بعملية جراحية نتيجة إضافة كمية من الهيدروجين إلى الجرح”. مالك العيادة هو الآخر رفض الإدلاء بأي تعليق حول الحادثة.

هذه المادة لا تستخدم، بحسب الطبيب وليد الثجيري “إلا عند الجروح المتعفنة، وهو ما استوجب إجراء عملية جراحية لقدم عبد المؤمن، وتسببت في صعوبة المشي لاحقا”.

وأكد رئيس الاتحاد العام لنقابات المهن الطبية د. فضل حراب أن دور الاتحاد يقتصر على “منح خريجي المعاهد الصحية والكليات الحاصلين على سنوات خبرة، عضوية الاتحاد وبالتالي حصولهم على ترخيص مزاولة المهنة من المجلس الطبي”.

خالد السياني (28 عاما) استدعى مالكة عيادة (نبض الحياة) بمنطقة سعوان المجاورة لمنزله لتوليد زوجته، وحينها حدثت الكارثة، حسب قوله: “كانت حالة الجنين جيدة وفقا للفحوص السابقة، ولكن الممرضة أعطت (حقنة طلق) لزوجتي قبل أوانها، ما دفع بالطفل نحو الحوض وهو في حال الانقباض”. هذا الانزلاق أدى إلى “اختناقه لاحقا فيما يسمى بانحشار العنق”، وفق تقييم الطبيبة إشراق حميدة استشارى نساء وتوليد وعقم بمستشفى السبعين (حكومي). من جهتها نفت مالكة العيادة أن تكون وفاة الطفل ناتجة عن خطأ في ضرب ابرة الطلق.  

يحدثنا قائد محمد (40 عاما) عن زوجته سيدة الغيل (38 عاما) التي “تحولت إصابتها بحموضة بسيطة في المعدة، وتوتر ناتج عنها، إلى قائمة من الأمراض على رأسها الأمراض النفسية، بعد أن صرفت عيادة في منطقة “نقم” أدوية مضادة للقلق (الزاناكس والاتيفان) بطريقة عشوائية، ودون فحوص. هذه الجرعات تسببت في “زيادة حال القلق والتوتر والإدمان لاحقا”، وفق الطبيب محمد الطشي أخصائي أمراض نفسية وعصبية.     

عيادات خارج القانون

يعترف مالكو عيادات بعدم حيازتهم تراخيص لفتح عياداتهم وتراخيص لمزاولة المهنة. غير أن بعضهم يتعلل بالحرب الجارية في البلاد، والإجراءات المعقدة لاستخراج التراخيص، فيما يبرّر آخرون ذلك بعدم استكمالهم التعليم الجامعي، وصعوبة الحصول على سنوات الخبرة، لأن المستشفيات والمراكز الطبية ترفض قبولهم للعمل قبل الحصول على مؤهل علمي.

وخلال جولتنا الميدانية في عيادات حقن وتضميد شاهدنا طفلاً في الخامسة عشرة من العمر يعمل في عيادة (ب) بالمدينة السكنية بسعوان. كان الفتى يحقن (الإبر) ويقيس الضغط ويضمد الجراح. وعندما سئل عن مؤهلاته، أجاب: “أنا اكتسبت المهنة من والدي، وأخذت دورات خاصة بالإسعافات الأولية”. 

ويبرر بدر البهلولي (27 عاما) مالك عيادة البدر (منطقة سعوان) عدم امتلاكه ترخيص عيادة ومزاولة المهنة بتوقيف مكتب الصحة في العاصمة صنعاء منح التراخيص منذ عام 2004، أي قبل الحرب المشتعلة في اليمن بعشر سنوات على الأقل.  

تحايل على القانون

ويضيف: “أستطيع الحصول على ترخيص للعيادة من محافظة صنعاء (أرياف العاصمة)، ومن ثم أنقله إلى العاصمة. ولكن تكاليف النقل ستكون باهظة، والكثير يلجئون إلى استئجار تراخيص من مكتب الصحة ذاته، بمبالغ لا تتجاوز 6 آلاف ريال شهرياً تعادل نحو (17 دولاراً).

هذه المعلومة يؤكدها مدير إدارة المنشآت الطبية الخاصة بمكتب الصحة بالعاصمة صنعاء عبد الملك المشرقي، إذ يقول إن مكتب الصحة بالعاصمة لم يصدر تراخيص منشآت جديدة منذ العام 2004، التزاماً بقرار رئيس الوزراء في ذلك العام، والذي قضى بمنح التراخيص للمنشآت الصحية في الأرياف والمناطق النائية فقط، لعدم الحاجة لمثل هذه العيادات في العاصمة صنعاء التي تغطيها الخدمات الطبية. 

غير أن فؤاد السراجي مدير مكتب الصحة في مديرية آزال، وجميلة العمري مديرة مكتب الصحة في مديرية الوحدة ينفيان تاجير تراخيص عمل لمالكي العيادات.

 وحول حملات التفتيش لمكتب الصحة، يقول البهلولي: “يوجد إهمال كبير، أنا فاتح من سنة ولم يأت أحد لا رقابة، لا لجان، لا تفتيش”.

 أما (ن . ي) مالك عدد من العيادات (طلب عدم كشف هويته خوفاً من تعرضه لأي ضرر) فيؤكد أنه “عرض عليه الحصول على ترخيص لفتح العيادة من قبل مكتب الصحة في مديرية شعوب، رغم أنه لم يكمل تعليمه الجامعي، ولم يحصل على ترخيص مزاولة المهنة”.

وعن حملات التفتيش وكيف يواجهها، يقول: “أقنعني بعضهم بفكرة دفع المال مقابل الاستمرار، ويعترف أنه دفع 5 آلاف ريال العام الماضي نحو (15 دولاراً)، لمفتش. مؤكداً أنه “لن يلجأ هو أو أحد أفراد عائلته إلى عيادة غير مرخصة أو مؤهلة”.

مالك عيادة (…) في منطقة مذبح (ع . ح) (23 عاما) يعلّل – هو الآخر- سبب فتحه لعيادة بدون ترخيص من أجل “الحصول على الرزق، واكتساب الخبرة في العمل”، رغم معرفته بالمخالفة القانونية واحتمال إغلاق العيادة. ويقول ( ع) : “في الأول والأخير الرشوة تجعلني أستمر”.

مخالفات عديدة ورقابة غائبة

ويشترط  القانون رقم 60 لسنة 1999، بشأن المنشآت الطبية والصحية الخاصة، “حصول من يرغب في تأسيس وإنشاء منشأة طبية خاصة على ترخيص من مكتب الصحة في المحافظة”. كما تشترط اللائحة التنفيذية للقانون “أن يكون العامل في المنشأة الطبية الخاصة ممرضا مؤهلا أو ممرضة مؤهلة، وأن يكون يمني الجنسية حاصلا على ترخيص مزاولة مهنة مع خبرة لا تقل عن سنتين”. فيما تتراوح مدة الدراسة في معهد أو كلية للطب المساعد والتمريض بين 3 سنوات في المعاهد و4 في الكليات وبعدها خبرة سنتين ما يعني أنها تتراوح بين 5 و6 سنوات.

بيد أن الحالات التي رصدها التحقيق كشفت أن هذه العيادات تقوم بمهام المستشفيات، بينما يمارس العاملون فيها مهام الأطباء في مختلف التخصصات الطبية، بدءاً من صرف الدواء مروراً بتوليد الحوامل، تجبير الكسور، وإجراء عمليات بسيطة كإزالة اللوزتين والختان، في ظل غياب مكاتب الصحة والمجلس الطبي.

فوضى لا تكترث للنظام والعقوبات التي يفرضها قانون المنشآت الصحية في مادته الـ 32 ضد المخالفين والتي تصل إلى “الحبس مدة لا تزيد عن سنة أو غرامة مالية لا تزيد عن خمسمائة ألف ريال. وتتضاعف العقوبة في حالة التكرار”.

وتشدّد المادة (34) من القانون 26 لعام 2002 بشأن مزاولة المهن الطبية والصيدلانية على معاقبة “كل من أدعّى أو أعلن أو مارس مهنة الطب (علاجياً أو جراحياً) أو مهنة الصيدلة من غير ذوي المهنة بالحبس لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات أو بغرامة لا تقل عن سبعمائة ألف ريال”.  

سكرتير لجنة التحقيق والرقابة بالمجلس الطبي اليمني محمد الوادعي يقر بأن دورهم “يقتصر على استقبال الشكاوى، بسبب الأحداث في البلاد، ما يمنعنا من النزول في حملات للتفتيش على أداء مزاولي المهن في العيادات”. وضرب مثلا كيف أن اللجنة “قرّرت النزول إلى إحدى العيادات المخالفة، استجابة لشكوى، وعند الاستعداد لتنفيذ القرار قال رئيس اللجنة بالحرف الواحد الأوضاع ما تسمح حاليا بهذه التحركات”، حسبما يضيف.

وأكد الوادعي أن “عملية التوثيق الإلكتروني في المجلس الطبي بدأت العام 2015، ولا يوجد أرقام دقيقة أو معلومات يمكن تحديدها قبل هذا العام”.

عبدالملك المشرقي مدير المنشآت الطبية الخاصة بمكتب الصحة بالعاصمة صنعاء يقول هو الآخر إن الحرب في اليمن تعوق مراقبة المنشآت الطبية المخالفة: “لا نستطيع القيام بأي إجراءات ضد أصحاب العيادات المخالفة، فالبعض منهم في ظل الأوضاع الأمنية الراهنة ربما يقتل للحفاظ على مصدر رزقه”. ويؤكد أن “عدد العيادات المخالفة يزداد يوما بعد يوم، مقابل عجز مكتب الصحة في العاصمة والمديريات عن اتخاذ أي إجراءات قانونية”. 

الدكتورة جميلة العمري مدير مكتب الصحة في مديرية الوحدة ترجع مسؤولية التقصير إلى انعدام التعاون والتنسيق مع الجهات الأمنية. وتقول د. العمري: “يقوم المكتب بإغلاق بعض المنشآت الطبية ومنها العيادات غير المرخصة لكن يتم افتتاحه مجددا خلال أيام”.

شكاوى قليلة وغياب العقاب

ورغم ارتفاع عدد ضحايا الأخطاء الطبية، فإن عدد الشكاوى المقدمة ضد هذه العيادات قليل جداً. فالدكتور وليد الثجيري “يستقبل أسبوعياً في أقسام الطوارئ بمشافي الثورة الحكومي والأهلي الحديث، عشرات الحالات المصابة بأمراض ناتجة عن أخطاء طبية، ارتكبت في هذه العيادات”، بينما يقيد سكرتير لجنة التحقيق بالمجلس الطبي محمد الوادعي، شكوى واحدة ضدها، في كل 500 شكوى مقدمة للجنة حسب سجلات العام 2017.

ووفقا لسجلات اللجنة، تم قيد شكاوى تسع حالات فقط ضد عيادات الحقن منذ العام 2014 وحتى شهر أغسطس 2017، بينها حالتا وفاة وحالة غرغرينا في اليد.

ويعترف الوادعي بأن المجلس الطبي “لم يفصل في أي قضية حتى الآن، لعدم استكمال الإجراءات وصعوبتها، ولجوء البعض إلى الحلول القبلية”، مؤكداً أن “القضية الوحيدة التي ما زالت قيد النظر أمام المجلس هي قضية الطفلة آية”.

 الحالات التي تعرضت لمضاعفات لا تتحمس لرفع شكاوى، قالت أم مهند عبده إن “الأسرة فضلت عدم رفع شكوى قضائية، معتبرة ذلك قضاء وقدر”.

كما يرفض خالد السياني رفع قضية ضد العيادة، ويعد موت الجنين قضاء وقدر. ويتابع: “أريد الابتعاد عن المشاكل”، وهو ذات منطق محمد قائد الذي يقول: “فكرت في تقديم بلاغ، ولكني فضلت  الابتعاد عن المشاكل والمحاكم”.

العديد من الحالات التي قابلهم معد التحقيق أكدوا أن “الإجراءات القانونية معقدة وحبال المحاكم طويلة”، وهو ما يجعلهم يتقبلون تلك الأخطاء باعتبارها قضاء وقدرا، لتكون قضية آية الوحيدة التي وصلت إلى القضاء، ولم يتم الفصل فيها حتى اليوم.

ويؤكد خالد الكدم (37 عاماً) عم آية والذي يتابع قضيتها مع شقيقه أن “الإجراءات القانونية معقدة جداً، وأنه منذ تحريره البلاغ الأول في قسم شرطة السنينة وهو يواجه الصعوبات، وأن القضية لم تجد سبيلاً للحل منذ ثلاثة أعوام”. ويقول: “عندما كنت في قسم الشرطة أطالب بالجاني قال لي مدير القسم إما تذهب أو أحبس أبوك”.

وكان والد آية طالب بنوعية الإبرة التي ضربت لابنته، وقال: “إن مالك العيادة قام بإخفاء نوعية الإبرة، ما دفعني للمطالبة بتشريح الجثة عبر النيابة والمجلس الطبي”، إلا أن إدارة الطب الشرعي والنفسي بمكتب النائب العام اعتذرت في مذكرة رسمية موجهة لنيابة غرب الأمانة، “لعدم توفر الإمكانيات”. وما تزال القضية معلقة بين قرارات وتحقيقات النيابة العامة والمجلس الطبي اليمني، منذ شهر مايو/ آيار 2014 وحتى اليوم وفق عم آية.

تشهد المنظومة الطبية في اليمن فوضى جعلتها تعجز عن القيام بدورها في ضبط العمل ومراقبة الجودة، ما أتاح الفرصة لمالكي عيادات الحقن والتضميد للعبث بأرواح المرضى وعدم الامتثال للأنظمة والقوانين السارية. ويبدو أن هذه المشكلة مرشحة للاستمرار والتفاقم في ظل الانهيار الأمني في اليمن.

أنجز هذا التحقيق بدعم شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)-www.arij.net وبإشراف الزميل خالد الهروجي


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *