الاحتكام للأعراف العشائرية يشكل منظومة موازية للقضاء النظامي

14 يناير 2013

عمان- صحيفة الغد- خمسة عشر عاما مرّت على مقتل والده عقب خلاف بسيط مع أحد رجال القرية لم تنسه هاجس الأخذ بالثأر. في أول فرصة حقّق غايته وسط تهليل أمه وتبريكها. 

تلك الجريمة انتهت في جلسة تحكيم عشائري إلى “صلحة” في نهاية العام 1999 بين عشيرتي الجاني والمجني عليه تضمنت “ديّة” مقدارها 50 ألف دينار. نتائج “المقايضة” لم ترض أرملة القتيل، فخبأت المبلغ لديها حتى يشتد عود ابنها ليأخذ بالثأر. وحين كبر سدّد رصاصته صوب الجاني فأرداه ثم ألقى بالدية فوق جثته. 

أما (م.ع) الشاب في عقده الثالث، فأجبر على ترك قريته في محافظة مأدبا جنوب عمان منذ العام 2005 برفقة ما يزيد على 400 من أقاربه بين رجال، نساء وأطفال، تاركين خلفهم منازلهم، أراضيهم وأعمالهم ضمن ما يعرف عشائريا بـ”الجلوة”. هذا النزوح القسري جاء بعد أن قتل ابن عمّه شابا من عشيرة أخرى في القرية ذاتها. 
يقول (م.ع): “كنت على وشك الزواج بعد إتمام بناء عش الزوجية وتأثيثه. لكنني استفقت بعد حادثة القتل تلك لأجد نفسي وأسرتي، المؤلفة من ثمانية أفراد خارج بيوتنا”. وانتقلت العائلة إلى شقّة صغيرة في إحدى ضواحي العاصمة، استهلكت أجرتها نصف مجموع دخلي الشاب ووالده بعد أن كانوا يعيشون في منزل من أربعة طوابق في قريتهم.
هاتان الحالتان تختزلان قصصا عن الآثار المترتبة على الأعراف العشائرية التي تشكّل مسارا موازيا في غالبية الأحيان للقضاء النظامي.

توصل كاتب هذا التحقيق إلى أن التسويات العشائرية ترفع معدلات جرائم القتل، بسبب عدم رضا أحد طرفي معادلة المصالحة أو استغلال الجاني للأحكام المخفّفة الناجمة عن صكوك الصلح العشائرية، فيكرّر اعتداءاته بعد الإفراج عنه. وفي غياب نسب وإحصاءات لدى الشرطة أو سجلات المحاكم، جمع الكاتب تقديرات من 15 “قاضيا عشائريا” في مناطق مختلفة من البلاد. يقدّر هؤلاء أن “40 % من القضايا التي يبتّ بها عشائريا تنتهي بالثأر نتيجة عدم رضا أهالي المجني عليهم عما يخلص إليه هذا النوع من القضاء من أحكام يعدّونها تخفيفا على الجاني”. يعرض هذا التحقيق أيضا كيف بات هذا النمط من الأعراف مصدرا لجني المال بالنسبة لكثير من المحكمين العشائريين، فيما يحرص مسؤولون على

عدم إلغائه لكي لا تتضرر مراكزهم في مجتمع يعتمد نفوذ الفرد فيه بشكل كبير على الثقل العشائري.

غالبية “القضاة” الذين تواصل معهم الكاتب رفضوا الإفصاح عن هويتهم للقارئ. ستة منهم يقيمون في محافظات الجنوب، أربعة في الشمال والخمسة الآخرون في وسط المملكة. معظم هؤلاء “القضاة” يعتقدون بكمالهم الأخلاقي وتنزه أحكامهم عن الزلل، نتيجة “خبرتهم المتراكمة في الأعراف والعادات العشائرية في فض الخصومات”.  
غالبية من تمت مقابلتهم من شيوخ عشائر يتبنون ذات المنطق. فهم يرون أعرافهم أصلح من القضاء المدني، ويعدونه “رادعا أكبر من أي حكم آخر” وخصوصا في جرائم القتل.
يؤكد الشيخ ( ج.د) من محافظة الكرك الذي ورث حرفته “أبا عن جد” أن “أجهزة الأمن غير قادرة على ضبط العشائر عند وقوع جريمة ما، كما يفعل العرف العشائري؛ فبمجرد تدخل الشيوخ تنتهي أي مشكلة على الفور”. 

أما  الشيخ (م.ي) – وهو محام مدني إلى جانب عمله في إصلاح ذات البين- فيخالف وجهة النظر تلك، بالقول: “إن كثيرا من المحكمين ووجهاء عشيرة المجني عليه يجبرون في أحيان كثيرة على التنازل عن حقهم الشخصي وتخفيض العقوبة على القاتل”. وهو ما اعتبره “تشجيعا على ارتكاب المزيد من الجرائم”. 
يضرب هذا الشيخ مثالا بدفع ذوي الجاني “الدية” لأهل المجني عليه. فهذا المبلغ يتم جمعه عادة – بحسب الشيخ- من أبناء عشيرة الجاني كاملة بعد الاتفاق فيما بين أفرادها على ذلك، على أن يجمع كامل المبلغ من الأفراد المرتبطين بالجاني حتى الجد الخامس في شجرة العائلة. ويرى أن تلك الآلية تسهل ارتكاب الجرائم نظرا لبساطة العقاب من جهة وسهولة جمع “الدية” من جهة أخرى.

خلال إجراء هذا التحقيق أقر نحو 10 شيوخ و”محكمين” عشائريين من مناطق مختلفة في المملكة أن أربعا من كل عشر قضايا يبت فيها عشائريا تنتهي بالثأر من قبل أهل المجني عليه لاعتقادهم أن الأحكام لم تنصفهم، أو أن “الصلحة” تمت بناء على منافع بين القضاة أنفسهم. وتتفاوت هذه النسبة بين منطقة وأخرى بناء على حجم تأثير الشيوخ هناك على أبناء العشائر، حسبما استنتج كاتب التحقيق من حواراته مع قضاة عشائريين. 

الناطق الإعلامي في مديرية الأمن العام المقدم محمد الخطيب يكتفي بالتأكيد على قدرة الأمن على ضبط اي خلافات في أي منطقة  تقع فيها جريمة قتل. لكنه يقر باللجوء في معظم الأحيان لشيوخ تلك المنطقة “لتجنب أي حالة عنف تحصل بعد الجريمة وخصوصا في أيامها الأولى”. 
رئيس محكمة الجنايات الكبرى الدكتور نايف السمارات قال إن المحكمة تعاني حاليا من ازدياد في عدد قضايا جرائم القتل بشكل لم تعهده في السابق، وإن الوارد منها للمحكمة وصل في بعض الأشهر إلى 24 جريمة وبمعدل 12 قضية في الشهر كحد أدنى. أي بمتوسط جريمة قتل كل يومين.

قوانين لا تجد طريقها للتطبيق 

ألغي العمل بالتحكيم العشائري بقرارات ملكية أكثر من مرة. ففي العام  1976 صادق الملك الراحل حسين بن طلال على قانون “إلغاء القوانين والمحاكم العشائرية” رقم (34) وجعل جميع أطياف المجتمع الأردني خاضعين للقضاء المدني. باستثناء: قضايا الدم (القتل)، هتك العرض وتقطيع الوجه.

رغم ذلك يبقي القصر على منصب “مستشار الملك لشؤون العشائر” وهذا ما يبرره الشيخ عادل الرفايعة؛ أحد وجهاء محافظة معان بالقول: “إن وجود هذا المنصب ينبع من الحاجة لإدامة التواصل بين الملك والعشائر، لمتابعة قضاياهم ومشكلاتهم في مناطقهم ليس إلا، ولا علاقة للأمر بالتقاضي العشائري”.

مستشارية العشائر من جانبها أجابت في بريد إلكتروني عن تساؤلات الكاتب حول طبيعة دورها الحالي بالقول: “تعد مستشارية العشائر رابطا مهما وهمزة وصل بين مختلف شرائح المجتمع الأردني، وغالبيتهم من العشائر من جهة والديوان الملكي الهاشمي ومؤسسات الدولة الأخرى من جهة أخرى”. ولها “أدوار أخرى ترتبط بالخدمات التعليمية والصحية المقدمة لأبناء العشائر في المناطق النائية، كما أنها وبالتنسيق مع وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية تقوم باحتواء الخلافات الكبيرة بين العشائر والتي قد تؤدي إلى اختلالات كبيرة بالأمن، وذلك من خلال التنسيق مع شيوخ ووجهاء العشائر وأصحاب الرأي انسجاما مع العادات والتقاليد السائدة بين هذه العشائر لحل هذه المشاكل وانعكاسها على الأمن الاجتماعي”. وتؤكد المستشارية أن ذلك “لا يتعارض مع تطبيق سيادة القانون من خلال القضاء”، لافتة إلى أن صكوك الصلح العشائرية في جميع القضايا “لا تعتمد لدى المحاكم النظامية بإنهاء القضية إلا عند حضور صاحب العلاقة شخصيا والتنازل أمام القضاء”. هذا الدور، تضيف المستشارية، “لا يؤثر على سير العدالة والقضاء بل هو رديف للأجهزة الإدارية والحكام الإداريين لحل مشاكل الناس واحتوائها ولا يسعى إلى تحصيل أحكام تخفف على الجاني، بل المستهدف هم الأسر المتأثرة في هذه القضية. وهذه الحلول حسب مفهوم المجتمع العشائري الذي يصر على تطبيق هذه العادات والتقاليد”.

معظم من التقاهم كاتب التحقيق من محكمين عشائريين يرفضون الامتثال لقرارات إلغاء العرف العشائري في فض المنازعات لقناعتهم بأنه “جزء من إرث الآباء والأجداد الذي لا يمكن تصور التخلي عنه”. 

يقول الشيخ (م.ع) من محافظة الكرك: “لا أحد يستطيع إلغاء هذا العرف العشائري الذي ورثناه عن الآباء، فهو المنظم الأصلح لتعاملات العشائر فيما بينها”. ويذكّر (م.ع) بأن العشائر الأردنية “أساس الدولة الذي لا يمكن المساس به أو بأعرافه”. لكن المفارقة، أن جميع من التقاهم كاتب التحقيق من “القضاة” العشائريين الذين ورثوا المهنة “أبا عن جد”، ويحمل عدد منهم شهادات جامعية عليا، يعتقدون أن مهنتهم تلك “أصبحت تضم في صفوفها عددا كبيرا من الدخلاء الساعين خلف جني المال نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة؛ إذ يصل المبلغ الذي يتقاضاه بعض هؤلاء إلى نحو 1500 دينار عن كل قضية يشترك فيها”. أما القضاة الأصليون فلا يتلقون أجرا عن جهدهم. 

التحكيم العشائري

رغم إلغاء هذا النوع من التحكيم أكثر من مرة في المملكتين الثالثة والرابعة، فإن عدم الاستجابة كان السمة الأبرز للتعاطي معها ليس فقط من قبل العشائر وشيوخها  بل وأيضا من قبل عدد من المسؤولين.   

النائب السابق علي الضلاعين يرى أن مسؤولين كبارا في الدولة يعتمدون على “القضاء” العشائري، مدللا على ذلك “اشتراك وزراء ونواب وأعيان في العطوات العشائرية حتى وهم على رأس عملهم”.

يعلق النائب السابق على هذه الظاهرة بالقول: “من غير المقبول إبقاء مثل هذه الأعراف القديمة تحكم المجتمع الأردني الساعي لإرساء قواعد الدولة المدنية”، معتبرا مشاركة بعض النواب والوزراء بالتحكيم العشائري “عاملا مساعدا على ازدياد الجريمة وانتشارها في تلك المجتمعات”.  

ومن بين 10 نواب ووزراء سابقين وحاليين التقاهم كاتب التحقيق، أكد سبعة منهم  وجود مسؤولين في الدولة يشاركون عشائرهم في جلسات التحكيم العشائري ويستفيدون من مناصبهم السياسية لمحاولة إقناع أهل المجني عليه بالتنازل عن حقهم الشخصي والتقليل من مبلغ “الدية” .

النائب السابق الدكتور محمد القضاة يقول إن مشاركته في القضايا العشائرية تأتي “لتخفيض المبلغ المطلوب من قبل أهل المجني عليه لأنهم في كثير من الأحيان يطلبون مبالغ كبيرة جدا من أهل الجاني”.

أما النائب محمود الخرابشة، أحد النواب الذين يشاركون عادة في جلسات التحكيم العشائري رغم كونه محاميا مدنيا ورئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب السابق-  فيبرر مشاركته بجلسات هذا النوع من التقاضي “بمحاولة العمل على إصلاح ذات البين”، نافيا أن يكون للتحكيم العشائري أي دور في ازدياد معدلات الجريمة.
يرى النائب الخرابشة أن القضاء المدني غير قادرعلى حل العديد من المشكلات العشائرية، معتبرا أن الأعراف العشائرية المتبعة للفصل بين الخصوم دائما ما تعطي “حلولا أفضل وأسرع من القضاء المدني”.  

من جانبه يؤكد المحامي المدني محمود قوقزة أن “المحاكم المدنية ما تزال تأخذ بعين الاعتبار الصلحة العشائرية عند الحكم على الجناة؛ فالقاضي المدني يصدر الحكم على القاتل بالإشارة الى نتيجة تلك الصلحة التي تتم بين أهل الجاني والمجني عليه. وبناء عليها قد يخفف الحكم عن القاتل الى ما دون نصف المدة (أي من 7 الى 12 عاما)، بينما يحكم على الجاني في مثل تلك الجرائم التي لا يتدخل فيها القضاء العشائري بالسجن 25 عاما”. 

ويرى قوقزة أن “من شأن تطبيق قرارات إلغاء القضاء العشائري المحافظة على هيبة السلطة القضائية، مؤكدا قناعته بأن القضاء المدني هو “الضمانة الوحيدة لحياة مدنية خالية بقدر كبير من الجريمة يتمتع فيها أبناء المجتمع بالمساواة أمام القانون، اعتمادا على الدلائل والبراهين وبعيدا عن الأحكام التي تعجز في كثير من الأحيان عن إنصاف الأطراف المتنازعة”. 

بالنسبة لـ”م،ع” لا يبدو أن هناك ضوءا في نهاية النفق المظلم الذي دخله وعائلته نتيجة جريمة قتل لم يرتكبها أي منهم، تسببت بتغيير مسار حياتهم كليا بإجبارهم على “الجلوة” من أماكن سكناهم بين أقاربهم ومصالحهم وانتقالهم للعيش في عمان مع كل ما رتبه هذا الانتقال على كاهلهم من نفقات إضافية للسكن، التنقل والعمل. يتمنى هذا الثلاثيني أن تحدث معجزة ما تعيد قطار حياتهم إلى سكته وتضع حدا لحالة التشتت التي باتوا يعيشونها نتيجة عرف عشائري يرونه غير منصف.


 أعد هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) وبإشراف الزميل سعد حتر

 


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *