محطات الكهرباء.. مصائد موت في غياب الأمن الصناعي

28 ديسمبر 2014

 – قتلى ومصابون وخسائر بالملايين.. والتحقيقات تسير بسرعة السلحفاة

– أوامر الشغل تصدر دون اعتماد من مسؤولي الأمن الصناعي 

– موظف بالأمن الصناعي: ضغط العمل لا يتيح لنا التأكد من سلامة الإجراءات بعد مقتل 2 واصابة 4 في حادث الكريمات.. المحطة تصدر أوامر شغل غير معتمدة مسؤول بدرجة مدير: الحادث “عادي”.. “وايه يعني اتنين ماتوا في حادثة” 

الوطن – تتشوق تلميذة الابتدائي إسراء وأخوها الأصغر شاكر لتلقف قبلته الصباحية المعتادة. قبل خروجهما للمدرسة يسبقهما الأب متوجها إلى عمله في محطة الكهرباء بعد أن يطبع على جبين كل منهما قبلة بطعم ندى الصباح. يظل مذاقها العذب في فمه إلى أن يعود من عمله المحفوف بالمخاطر بسبب التساهل في تطبيق لوائح الأمن الصناعي في هذه المنشآت. ويبقى إحساس الحنان الأبوي يسري في كيان الطفلين حتى يلتقيا بالأب مجددا في المساء.وفي يوم طال بهما الانتظار .. وتوالت صباحات ومساءات باردة دون حنان الأب وقبلاته. عرفا أنه في المستشفى بعد إصابة عمل. كان ضمن فريق كلف بتوصيل كابل كهربي لميكروفونات النداء العالي في محطة كهرباء الكريمات. عملية روتينية قام بها الأب راجي محمد مرارا مع زملائه منذ التحق بالعمل في المحطة قبل 16 عاما.في أثناء عملية التوصيل سقط الكابل ليخترق حاجز محول كهربي على مقربة ويحدث تماسا كهربائيا تسبب في انفجار مروع واندلاع حريق. وبعد عشرة أيام في المستشفى طلب راجي رؤية طفليه.. تراقص قلبا إسراء وشاكر فرحا وبداأ يسترجعان مذاق قبلة الأب وهما يندفعان إلى غرفته بالمستشفى. هنا، جالت عيونهما في الغرفة وهما يقفان جامدين متسائلين أمام الشخص الراقد على الفراش وقد غابت ملامحه تحت طبقات دهان من المراهم.

وقف الطفلان وفي عيونهما صدمة وأسئلة كثيرة. رنا الأب إليهما بنظرة طويلة.. وأخيرة.. صعدت روحه إلى بارئها في سبتمبر/ ايلول 2012 .

هذه المأساة ليست الأولى وربما لن تكون الأخيرة نتيجة الإهمال والتساهل في تطبيق إجراءات الأمن الصناعي التي تحولت إلى مجرد إجراءات تجميلية في محطات كهرباء  باتت كأنها “مصائد موت”، ووسط شبكات وتوصيلات وأجهزة تحمل خطرا محدقا بالعاملين في الشركة القابضة لكهرباء مصر، والذين يصل عددهم إلى 70 ألف موظف.

والمفاجأة التي تكشفها “الوطن” في هذا التحقيق الاستقصائي أن التقصير في تطبيق إجراءات الأمن الصناعي في تلك المحطات تحول إلى ما يشبه وضعا ممنهجا لا يحفز إدارات المتابعة والمراقبة والأجهزة الحكومية المسؤولة عن التأكد من اتباع تلك الإجراءات وتوافر الأجهزة الوقائية.

محمد أبو شنب المسؤول عن العمال في محطة الكريمات التابعة لشركة الوجه القبلي لإنتاج الكهرباء يستذكر مأساة 29  آب/أغسطس  2012، قائلا: “لو كان الأمن الصناعي موجودا كان شال بلوة”. وأظهر تقرير النيابة والمستشفى أن الحروق الناتجة عن الحادث أودت بحياة المهندس محمد الهواري وراجي محمد (فني شبكات المعلومات). كما أصيب أربعة عمال فيما بلغت الخسائر المادية نحو 200 الف جنيه (حوالي 28100 دولار)، حسب تقديرات مسؤولين بالشركة.

 تشترط أنظمة العمل حصول أوامر الشغل التي تحدد المهمة والإجراءات الواجب مراعاتها في التنفيذ على اعتماد من الأمن الصناعي، وسط المخاطر في محطات الكهرباء. لكن اتضح أن أمر الشغل في حادث الكريمات الذي حصلت “الوطن” على صورة منه كان خاليا من توقيع مسؤولي الأمن الصناعي في المحطة.

وكان مديرو عموم التشغيل بمحطات التوليد التابعة للشركة قرروا يوم الأحد 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2008 أنه لتنفيذ مهام الصيانة يجب إصدار أمر شغل يتضمن (اسم الوحدة- اسم المعدة- رقم المعدة-خطوات العزل للوحدة موضع العمل) بمعرفة مهندس الصيانة واعتماده من مدير عام الصيانة. ويتولى مهندس الصيانة بعدئذ إجراءات استخراج أمر الشغل ومراجعة إجراءات العزل وتأمين المعدات مع مهندس الوردية ومهندس الأمن الصناعي مع إبداء أي ملاحظات عليه إذا وجدت وإضافتها.

وتم الاتفاق في الاجتماع على أنه لا يمكن البدء في أي أعمال في المحطة دون استيفاء توقيعات أمر الشغل لحماية العاملين على المعدات داخل المحطات. لكن “الوطن” حصلت على نسخة من أمر الشغل رقم 4133 الخاص بحادث الكريمات وتبين أنه لم يستوف التعليمات التي اتفق عليها في اجتماع مديري التشغيل في 2008، إذ لم يوقع مدير عام الصيانة المختص (هاني محمد علي) على أمر الشغل الذي لم يتضمن أيضا توقيع مسؤول الأمن الصناعي. كما لم تحدد أي بنود للعزل والمواد التي من المفترض أن يستخدمها العاملون. وكشفته “الوطن”، أن أوامر شغل تلت الحادثة، بأكثر من شهر لم تتضمن كذلك توقيع مسؤول الأمن الصناعي على تصريح الشغل، ولم تحدد أي بنود للعزل فيما يكشف استمرار مسلسل الإهمال.

مسؤول كبير في السلامة المهنية بالشركة القابضة يقول إن لائحة الجزاءات تعاقب على عدم توقيع أمر الشغل بخصم يتراوح بين ثلاثة وعشرة أيام. لكن “الوطن” اكتشفت أن المهندس هاني محمد علي -الذي لم يوقع على أمر شغل الحادثة في خانة مدير عام الصيانة المختص- رقي ليصبح مديراً عاماً للصيانة، بقطاع نظم المعلومات، الذي وقع فيه الحادث. وتم تجديد عقده في تموز/يوليو  2014 رغم أنه حين كان مديراً لإدارة الحاسب الآلي بقطاع النظم عام 2010  تعرض لثلاثة جزاءات أخرى.

أما فتحي محمد عبد الهادي، رئيس قطاع النظم والاتصالات، وصاحب فكرة توصيل الكابلات هوائياً، التي أفضت لوفاة اثنين وإصابة أربعة فأسند إليه منصب رئيس قطاع محطة الوليدية في أسيوط التي تنتج 600 ميجا وات. وتمت ترقيته حديثاً، ليصبح نائباً لرئيس شركة الوجه القبلي لإنتاج الكهرباء، التي تتبعها محطة الكريمات.

“إيه يعني اثنين ماتوا”؟

وحين توجه معد التحقيق للقاء المهندس هاني في مقر محطة الكريمات استقبله بجفاء ورفض إجراء أي حديث معه أو مع أي من العمال الذين اصيبوا في الحادث. ووصف الحادثة بأنها “عادية”، وتساءل مستنكرا “ايه يعني اتنين ماتوا”؟ واعتبر العلاقة بين المصابين والشركة مثل علاقة الابن والأب ولا يجوز لصحفي التدخل فيها.

ويرى العامل أن الأمن الصناعي دائماً ما يتم إلصاق كل الحوادث به، رغم أن “التهاون يأتي من رؤساء القطاعات ورؤساء مجالس الإدارة، إذ لا يلتفتون إلى أوامر الشغل، ويتغاضون عن مراجعتها بشكل مستمر حتى تسير الأعمال بشكل أسرع”. ويرى المصدر أنهم “لو اهتموا بالأمن الصناعي، حيترفدوا، عشان الشغل حيتأخر، ودا القيادة مش حاباه”، فيما يؤشر الى تزايد التساهل في تطبيق اجراءات السلامة في ظل الضغوط على قطاع الكهرباء مع تكرار فترات انقطاع التيار الكهربي في انحاء البلاد.

ويشير إلى أن الملابس الوقائية من المخاطر لا تتوافر للعديد من المهندسين والفنيين الموجودين بمواقع العمل، بما يتعارض مع لوائح السلامة المهنية في قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 .

يقول مسؤول كبير عن السلامة والصحة المهنية في شركة كهرباء الوجه القبلي التي تتبعها محطة الكريمات إن تجهيزات الوقاية قامت بدورها في حادث الكريمات وفصلت المحول تلقائيا وإلا كان الوضع تفاقم. مشكلة هذا المحول أنه من الطرازات القديمة ذات المجال المفتوح، حسبما يشرح المسؤول. ويضيف قائلا: “ولحين ربنا ما يسهل والبلد حالها يتعدل نغير مثل هذا المحول” بآخر معزول بالغاز الخامل سادس فلوريد الكبريت الذي يمنع تعرض المحولات للانفجارات المتكررة.

ويرى المسؤول الذي طلب عدم كشف هويته أن للتكنولوجيا المتقدمة أضرارها ولها ثمن يدفعه الناس.. فالمحطات التي تزيد قدرتها عن 220 ميجاوات يجب أن يكون تبريد المحولات فيها عن طريق غاز الهيدروجين الذي يتميز بقدرته العالية على التبريد. ولتجنب تسرب غاز الهيدروجين من مساراته يقوم الأمن الصناعي بعمل ما يسمى بـ”دائرة عزل الزيت” التي توفر ضغطا أعلى من ضغط الهيدروجين وبالتالي تبقيه في مساراته المحددة. لكن حين يحدث تسريب في دائرة العزل أو انسداد في مواسيرها أو غير ذلك من الأخطاء يتحرر الهيدروجين من مساراته ويتفاعل مع مركبات الهواء الجوي مما يؤدي لحدوث انفجار وحرائق هائلة مثلما حدث في محطة التبين يوم 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2012. وأشار المسؤول إلى أن هذه التقنية غير مستخدمة ألغيت في عقود انشاء محطات كهرباء جديدة في مصر مثل محطتي العين السخنة وجنوب حلوان.

ويقول مسؤول السلامة والصحة المهنية إنه “لا يمكن إنكار وجود قصور من جانب العنصر البشري بخاصة في مجال السلامة والصحة المهنية”. ويرى أيضا “أن إمكانيات الحماية المهنية التي تشرف على الأمن الصناعي ضعيفة للغاية في حين أن اجراءات الأمن الصناعي مكلفة والشركات بحكم أنها تريد المكسب توفر من ميزانية السلامة وهذا بالطبع خطأ كبير”.

ويقول إنه “لا بد أن تكون إدارة الأمن الصناعي مستعدة بخطط للطواريء تشمل تشغيل أجهزة الإطفاء التلقائي بالإضافة إلى خطط للوقاية العادية تتعلق بضمان استعداد المنشأة بصورة عامة من خلال نشر أجهزة الإنذار المبكر على صهاريج الوقود والتأكد من صلاحيتها وأيضا الاستعداد الكامل بأجهزة الإطفاء اليدوية لمكافحة الحرائق في بدايتها مع المتابعة والمرور المستمر للتأكد من عدم وجود أي مواد تساعد في اشتعال الحرائق والتخلص من المخلفات القابلة للاشتعال مثل الصناديق الخشبية التي تتخلف عن عمليات الصيانة أو تركيب المعدات”.

ورأى معد التحقيق بعينه عمالا في المحطات لا يهتمون بارتداء الخوذات الواقية أثناء عملهم على المعدات كما أن بعضهم يدخل إلى مناطق محظورة دون متابعة من مسؤولي الأمن الصناعي.

واكتفى رئيس الشركة القابضة لكهرباء مصر المهندس جابر دسوقي مصطفى، والتي تضم 16 شركة منها 6 شركات توليد وشركة نقل و9 شركات توزيع، بالرد حول عدم توقيع أمر الشغل الصادر في حادث الكريمات والمهمات التي أعقبته بالقول: “إن التحقيقات ما تزال جارية ولن يكون هناك أي تهاون”. وبينما يؤكد أن “أمر الشغل لا بد أن يستوفي جميع التوقيعات حتى يبدأ العمل”، لا يستبعد مصطفى وجود “استسهال” من قبل عاملين حين تكون أوامر الشغل كثيرة. ويؤكد أن التحقيقات تجري على أعلى مستوى وستكون هناك عقوبات رادعة وحساب للمسؤولين مهما بلغت درجاتهم.

وسعى معد التحقيق لمعرفة نتائج التحقيقات في الحادث لكن المهندس مصطفى لم يرد على اتصالات متكررة طلبا للتعليق في هذا الشأن رغم أن معد التحقيق بعث له عدة رسائل على هاتفه المحمول منذ يوم 20 أغسطس آب الماضي.

ويؤكد مسؤول في السلامة المهنية بالشركة أن العقوبات التي وقعت بعد التحقيق تراوحت بين جزاءات بخصم يوم او ثلاثة أيام بتهمة عدم اتباع اجراءات الأمن الصناعي. ولم يكن المهندس هاني رئيس القطاع ضمن المعاقبين. وأشار المسؤول إلى أن الإجراءات المقصودة تتمثل في عدم ارتداء العاملين الملابس الواقية من الكهرباء أو الحريق.

وفيما يتعلق بحادث محطة التبين القريبة من حلوان في اكتوبر تشرين الأول 2012 الذي يقدر خسائره بحوالي نصف مليار جنيه (حوالي 71 ألف دولار)، يقول المهندس مصطفى إن ما حدث في التبين “غير مسبوق على المستوى الفني” وعلى مدى 30 عاما من وجوده في الشركة. ويضيف أنه حدثت تداعيات غير متوقعة بداية من الحريق إلى كسر الريشة الخاصة بالتوربينة وصعوبة السيطرة على الأمر.

لأجل هذا يدرس استشاريون والشركة المصنعة والفنيون ذوو الخبرة في الوزارة أسباب ذلك الحادث، بحسب مصطفى، الذي ينفي “أن يكون الأمن الصناعي أظهر تقصيرا في تعامله مع الحادث”، معتبرا أن “جهود السيطرة على الحريق تمت طبقا للمواصفات العالمية”.

 ويجادل مصطفى بأن حريق محطة كهرباء طلخا بمحافظة الدقهلية في اكتوبر تشرين الأول 2012 نجم بالأساس عن خطأ بشري، حين فتح أحد العاملين فلتر زيت لتغييره بشكل مغلوط. وردا على ذلك، تم نقل رئيس القطاع ومدير عام الأجهزة المسؤول عن الحادث كما نقل العامل الذي غير فلتر الزيت. ويشير مصطفى إلى أنه يجري اتخاذ اجراءات تصحيحية أخرى في محطة كهرباء طلخا وسائر المحطات التي وقعت فيها حوادث.

 ويؤكد أن 25 % من العاملين بالوزارة يحصلون على دورات إجبارية سنويا في السلامة والصحة المهنية.ويصل إجمالي عدد العاملين بالشركة القابضة لكهرباء مصر، لنحو 70 ألف موظف، بما فيهم الإداريون.

وأيا كانت العقوبات التي تصدر فيما وقع من حوادث تبقى الأولوية لمراعاة إجراءات الوقاية كي لا تضيع أرواح أخرى ويوقف الهدر.. ولا يفتقد أطفال مثل شاكر وإسراء لمسات الأبوة الحانية.

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكةأريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائيـة عربية) 


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *