الرق ما يزال حاضراً في اليمن وتقسيم علني: أسياد وعبيد

2 مارس 2017

تحقيق: أحمد الواسعي وأصيل سارية

صنعاء، اليمن، 3 آذار/مارس 2017– بعد ستة وستين عاماً من إقرار العالم اتفاقية مكافحة الرق، وبعد أربعة وأربعين عاماً من اعتمادها في هذه البلاد، لا يزال هناك في اليمن حتى اليوم بالمعنى الحرفي للكلمة: أسيادٌ وعبيد.

هذا ما توصلنا اليه واثبتناه بالدليل، في هذا التحقيق الاستقصائي، والذي استمر العمل عليه نحو ستة أشهر. بين ويلات الحرب اخترقنا خلالها محافظتي حجة والحديدة واللتين تعتبران من أكثر المناطق خطورةً في شمال غرب اليمن، وبينما تستمر المواجهة بين قوات الحوثيين وقوات التحالف، كانت أمامنا مواجهاتٌ أخرى من نوع مختلف.

قضية مدفونة

في العام 2010، أصدرت وزارة حقوق الإنسان اليمنية تقريراً أكدت خلاله رصد أكثر من 50 حالة رق في شمال غرب اليمن، وأعقب هذا التقرير فضيحة مدوية عرفت بقضية (العبد قناف بن الجارية سيارة)، حيث كشف ناشطون قيام رئيس محكمة كعيدنة شمال غرب اليمن  بالتصديق على صك بيع وشراء أحد “العبيد”، ورغم التداول الواسع لهذه المعلومات من قبل وسائل إعلام مختلفة، إلا أن العديد من وسائل الإعلام التابعة لجماعات سياسية وبعض النافذين والقوى السياسية والاجتماعية، والذين من بينهم متضررين من انتشار هذه المعلومات اعتبروا هذه المعلومات إساءة لليمن، وألبسوا القضية عباءة السياسية لتطوى القضية في إدراج النسيان. وهذا ما دفعنا إلى فتح الملف مرة أخرى للوقوف على مدى صحة مزاعم استمرار العبودية واثبات ذلك.

بداية القصة

في الأطراف الشمالية للجمهورية اليمنية وبالقرب من الحدود مع المملكة العربية السعودية، حيث الصحراء اللامتناهية تمتد معانقة الجبال الشاهقة، تختبئ عشرات القصص المنسية والتي تناثرت على رقعتها لأناس تماهوا مع ملامح هذه الصحراء واكتسبوا لونها، حياتهم جافة تماماً كالصحراء التي يعيشون عليها وأعينهم تخفي هما أبديا تكون منذ لحظات ولادتهم.

 كانت البداية من مدينة عبس والتي تقع على بعد 233 كم شمال غرب صنعاء، وأول خيط نحو الهدف محمد كلعوم “50 عاماً” الذي استقبلنا على مشارف المدينة، قادنا إلى منزله المتواضع ودار بيننا حديث عن العبودية في المنطقة.

يقول محمد مشيراً إلى لون بشرته السوداء: “العبودية لا زالت موجودة ومتأصلة نعانيها إحنا، وبالذات من أصحاب البشرة البيضاء سوآءا كانوا زي ما يسموهم عرب أو سادة، وينظرون إلينا بنظرة مقيتة لصاحب البشرة السوداء ويدعوه عبدا، ويضيف محمد بتحدٍ وثقة: بينما احنا أحرار مش عبيد لأحد”.

 يقول محمد الذي يعمل في سلك التعليم منذ سنوات طويلة أنه لم يحصل على حقوقه الوظيفية لأنه سليلُ أسرةٍ مستعبَدة. ويضيف قائلاً: أنا كنت أعمل من 2002 نائب مدير إدارة التربية، وتوفي المدير السابق عبد الرب صائل، وكان من بعض الشخصيات داخل المديرية أن رفضوا هذا التعيين طبعاً شخصيتي أنا مش مناسبة لهم كوني عبد كما يقولون.

محمد ليس استثناءً. ثمةَ كثيرون في هذه المنطقة. للتأكد من هذا، تحركنا برفقة محمد في اتجاه مديرية أسلم إحدى مديريات محافظة حجة والتي تبعد عن العاصمة صنعاء 140 كم شمالاً، و كان علينا أن نعمل بهدوء في طريق الانتقال من خيطٍ إلى آخر باعتبار أن هذه المنطقة قريباً من منطقة العمليات العسكرية على الحدود اليمنية السعودية، في إحدى وديان مديرية أسلم التقينا بخالد الذي ينتمي هو الآخر بما يسمى  طبقة “العبيد” سألناه عن حقيقة وجود هذه الطبقة في منطقته، فأجاب أنها ماتزال موجودة، وأضاف قائلاً: هناك أشخاص في المنطقة يقال لهم هؤلاء عبيد بني فلان وعبيد بني فلان، ويؤكد أنه يعرف بعض منهم مضيفاً أنهم يتبعون لبعض المشايخ .

ومع أن خالد هو سليل أسرة مستعبدة، إلا أننا كنا نريد أن نلتقي عبداً مملوكاً، سألنا خالد أين يمكن أن نلتقي بعض منهم فأجاب بقلق: موجودين في منطقة اسمها الثلوث التي تبعد عن قرية خالد حوالي 20 كم وأضاف محذراً: ممكن تحدث مشاكل وأنا بصراحة أخاف أن يحدث لكم شيء.

 للوصل إلى هدفنا اتجهنا إلى وادي مور إحدى مديريات محافظة الحديدة الواقعة غرب اليمن وفي الطريق إلى هذا، كان التمييز واضحاً لكل ذي عينين بحق سلالات ما يطلق عليهم “العبيد” التي تعرفنا على أبرز صورها.

بيوت من طين

يحدثنا خبتي شوعي “36 عاماً ” أحد أبناء ما يسمى طبقة “العبيد” في منطقة وادي مور أنه: “ما زال العبد عبد، ويتعامل كعبد وما زالت التفرقة والعنصرية موجودة.

ويتساءل خبتي بحسرة،

قد ذا حصلت عبد رقيب؟

قد ذا حصلت عبد مدير مديرية؟

قد ذا حصلت عبد طبيب؟

حتى على مستوى الإعلام قد حصلت لي مذيع اسود؟

تُحرَّم على أبناء ما يسمى طبقة “العبيد” هنا أمورٌ كثيرة مقارنةً بأبناء الأسياد. هذا هو العُرف وهذه هي القواعد، حيث يمنع على ما يسمى “العبيد” في بعض مناطق وادي مور من تملك الأراضي كما يمنع عليهم بناء بيوتهم من الحجر. وهو ما اكده لنا خبتي حيث يقول “بيوتنا من الطين لا يحق لنا أن نبني الحجر لأننا ليس لنا أرض نملكها وثانيا البطالة وقل الأعمال، يعني لم توصلنا إلى بناء الحجر، ولا إذا حد بيشتري أرضية من السود يقومون له الطبقة الثانية، ويمنعونه ممنوع يشتري أرض، الله خلقك في عبادة الناس وتحت عبوديتهم وخلقك الله في عزتهم.

ويؤكد خبتي أن الأسياد يسمحون لهم بممارسة بعض الحقوق المرتبطة بالأسياد والمشايخ في تلك المنطقة حيث يقول “إحنا حاصلين على حق واحد يوم الانتخابات روح صوت لفلان وارجع بس ذي الحق اللي حاصلين عليه بأمر من الشيخ أو الوالي، أما ذي الحق أنا أشهد أننا حاصلين عليه أما غيرها من الحقوق انا انفيها جمعة”.

الزواج الممنوع

إلا أن هناك حقوق أكثر بساطة يمنع على أبناء ما يسمى “العبيد” من الحصول عليها وممارستها، فالتفكير فقط بالزواج من أبناء العرب أو السادة جريمة كبرى يرتكبها هؤلاء الناس ضد من يسمون أنفسهم العرب أو السادة، فهناك العديد من أبناء ما يسمى طبقة “العبيد” تم منعهم من الزواج من أبناء السادة بل وتمت محاربتهم.

التقينا بإبراهيم عاشور ” 35 عاماً” والذي أحب فتاة من طبقة العرب وأراد الزواج بها، إلا أنه صُدم برفض المجتمع ومحاربته رغم أن الفتاة أحبته كذلك حيث حدثنا ابراهيم عن محاولاته قائلاً: فحاولت أكثر من مرة وجلست في محاولة أكثر من ثلاث سنوات أدق الباب باب الله أولا ثم عن طريق مشايخ وعقلاء وأمنّا محاكم، ولكنه رفض نهائياً زواجي من هذه البنت كونها من طبقة راقية، وأنا زي ما يقولوا المجتمع من طبقة “العبيد”.

رغم ذلك، لم يفقد ابراهيم الأمل، حيث أخبرنا عن ضغوطات عده تعرض لها في مقدمتها السجن هو وأهله “انسجنت بسبب القضية أكثر من أربعة أشهر، هذه ضغوطات على أني أتركها وأيضا أهلي مروا بتعسفات ومحاربات وضغوطات، ولكن الحمد لله ربنا وفّق والآن، أنجبت منها ولد وبنت”.

عبد مملوك

حوار مع منصور

منصور: جدي كان مع جد الشيخ، وأبويا مع أبوه وأنا معاه

معد التحقيق: وانت معاه؟

منصور: أيوه

معد التحقيق: قالوا لي أنه اختارك انت تكون معاه

منصور: ايوه

معد التحقيق: ما اختارش واحد من اخوتك اختارك انت؟

منصور: وانا رحت معاه وراضي شليتها زي ما وراثة

واصلنا بحثنا الجدي عن عبد مملوك لأحد مشايخ العشائر، فقادنا بحثنا وعبر وسيط محلي إلى الحدود اليمنية السعودية حيث التقينا بـ منصور “اسم مستعار 28 عاماً” وهو عبد مملوك لأحد المشايخ في المنطقة، تم توارثه من الجد الأول وصولاً إليه وحدثنا منصور عن قصة توارثه.

رغم أن منصور أعطانا موافقته للتصوير معه، إلا أنه اختفى فجأة وبدون مقدمات. بحثنا عنه وانتظرناه حتى أخبرنا الوسيط أنه رفض التصوير معنا بعد أن اتصل به الشيخ المالك له من العاصمة صنعاء، يمنعه من التصوير منعاً باتاً وطلب منا الاتصال بالشيخ، وأخذ الموافقة منه قبل التصوير.

اتصلنا بالشيخ لأخذ موافقته لنا بالتصوير مع منصور، فرفض وأخبرنا أنه يمكننا دفع مبلغ من المال (لم يحدد قيمته) لإعتاق منصور ومن ثم التصوير معه متى شئنا.

كانت هذه المكالمة دليل آخر على وجود تجارة الرق والعبودية والتملك في بعض مناطق اليمن، إذ منع ذلك الشيخ منصور من الكلام معنا وكذلك دفع مبلغ من المال لشرائه.

العودة إلى صنعاء والمواجهة 

طريق العودة من مناطق قبلية في اتجاه العاصمة طريق يحمل في طياته آثار ثورة ضاعت أولوياتها. وحتى بعد مرور هذه السنوات كلها، لا يوجد لدى رئاسة الجمهورية من حلٍّ سوى توجيه أصابع الاتهام إلى السلطات المحلية.

حيث التقينا مسؤول لجنة حقوق الإنسان برئاسة الجمهورية شائف جار الله: وواجهناه بما توصلنا إليه في رحلة التحقيق ردّ علينا: هذه إجراءات مخالفة للقانون والدستور ومخالفة للقيم ومواثيق حقوق الإنسان التي أصبحت اليمن طرفاً فيها، ونحن نحمل المسؤولية للسلطة المحلية بمحافظة الحديدة وحجة يقوموا بدورهم الفعال.

ثورة ميتة

في عام 1962 انفجرت في اليمن ثورة كان من بين أهدافها الستة الغاء العبودية وإنهاء التمييز بين طبقات الشعب، حيث أصدر أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية الرئيس عبد الله السلال في ذلك العام، قراراً جمهوريا بإلغاء العبودية وتحرير “العبيد” دون أن ينص هذا القرار على معاقبة الفاعل.

غير أن المادة (248): من قانون الجرائم والعقوبات الصادر عام 1994 تنص على ما يلي: (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على عشر سنوات: اولا: كل من اشترى او باع او أهدي او تصرف باي تصرف كان في انسان. ثانيا: كل من جلب الى البلاد او صدر منها انسانا بقصد التصرف فيه).

الصحفي أحمد عفيف يقول “عند مطلع الجمهورية تم اسقاط العبودية سواء بقرارات جمهورية أو بصكوك عن طريق الاسر الكبيرة التي كانت تحكم اليمن كأسرة حميد الدين أو غيرهم”.

وبعد الثورة بنحو نصف قرن، عام 2010 صادقت محكمة شرعية في محافظة حجة شمال غربي اليمن على حالة رق أعادت القضية إلى الأضواء. بعد اتهامات واتهامات مضادة طُويت الأوراق وعادت القضية مرة أخرى إلى الظلام. 

واعتبرتها الجهات الرسمية قضية تم تسيسها لإثارة الخلافات السياسية في البلد بحسب كلام شائف جار الله ” مسؤول لجنة حقوق الإنسان برئاسة الجمهورية”.

يتابع شائف: “كما أبلغتك هذه الحادثة أخذت بعدا إعلاميا وتسيس الموضوع بشكل أكبر مما هو على أرض الواقع”.

وبالرغم من أن اليمن موقع على اتفاقيات دولية منذ العام 1972، وأيضاً بالرغم من إصدار قرار جمهوري بإلغاء العبودية عام 1962 لم ترى هذه الاتفاقيات أي التزام من قبل اليمن أو تنفيذ للقرار التي أصدرت من قبل رؤساء وحكومات متتابعة، وهو ما أكده لنا يحيى صالح رئيس المنظمة اليمنية لمكافحة التمييز “اليمن موقع على اتفاقية حقوق الانسان، وخاصة في التمييز العنصري وفي الرق في كذا 1972، ووقعت اتفاقية دولية أو صادقت عليها في عام 1972 لكن لا يوجد أي تغيير ما يزال تكريس التمييز والعبودية موجود.

ويؤكد لنا يحيى صالح بأن عمليات البيع والشراء ما تزال موجودة “تقدر تقول إن في عبيد بيع وشراء وفي عبيد بطريقة مغلفة متطورة يعني، الذي هو عبد رسمي ما لا يستطيع أن يخرج وكذا يكون التعامل بين الشيخ أو السيد، وهذا العبد أمام الناس يعتبره أنه شغال عندي فقط بينما الحقيقة هو عبد أيضا”.

 في ختام رحلتنا المليئة بالقصص الضاربة في عمق التاريخ ما يزال أبناء ما يطلق عليهم سلالة “العبيد” أسرى اللحظة التاريخية التي عاشها أباءهم واجدادهم، يأبى المجتمع أن ينسى أنهم كانوا عبيدا ذات يوم، ويجبرهم على دفع ثمن ذلك من كرامتهم وحقوقهم، فالعبودية رحلت كمصطلح لكن أثارها ما زالت قائمة كسياط تضرب ظهور أبناء هذه الطبقة التي يرفض المجتمع أن يسمح لها بمغادرة التاريخ ودائرتهم الضيقة التي عاشوا فيها.

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) www.arij.net


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *