الثورة لم تمر من هنا

7 سبتمبر 2015

حقائق أون لاين

تونس– “كان أخي عبد المنعم الزياني يبيع الملابس 2 فيفري/ شباط 2015 على قارعة شارع اسبانيا بالعاصمة، حين طلب منه عنصرا أمن عشرة دنانير (ستة دولارات) أو مصادرة بضاعته. بعد أن رفض دفع المبلغ لأنّه لا يملكه، انهالا عليه بالضرب في الشارع أمام المارة”، يستذكر بلال قصة أخيه عبد المنعم الذي توفي في أبريل/ نيسان الماضي .

يتذكر بلال ما حصل ذلك اليوم: “أخذا أخي إلى مركز الشرطة “شارل ديغول” بالعاصمة، حيث واصلا ضربه هناك”.

بعد أن علم بلال الزياني بواقعة أخيه، انتقل إلى مركز الأمن، لكنّه تعرض هناك للتهديد بالاعتقال. فما كان منه سوى الجلوس بمقهى “الباكلوريا” قرب مركز الأمن، حيث كان يسمع و الكلام له “صراخ أخي وصوت العصا والضرب بالصعقات الكهربائية”.

بعد الظهر أحيل عبد المنعم إلى مركز الإيقاف بوشوشة، حيث واجه – وفق رواية أخيه لمعدّة التحقيق – مرحلة جديدة من التعذيب؛ الضرب يوميا مدّة ستة أيام.

“ثم أحيل إلى المحكمة التي أصدرت بحقه بطاقة إيداع بالسجن”، حسبما يروي بلال، الذي كان يزوره أسبوعيا، فيلاحظ آلامه التي حملها معه من مركز الأمن ومنطقة بوشوشة. ورغم مطالبته الدائمة بعرضه على طبيب، فإنّه كان فقط يشتم ويتعرّض للسب ، ليظلّ على تلك الحال في السجن لمدّة شهر و20 يوما. ولم ينقل إلى المستشفى إلاّ بعد أن فقد الوعي بسبب تدهور حالته الصحيّة.

“لم يعلمنا الأطباء بالحالة التي يعاني منها عبد المنعم، مرة يخبروننا أنّه التهاب في الكبد، ثم التهاب في الرئتين، وقصور كلوي. إلى أن توفي في 26 أفريل/ نيسان الفارط. وإلى الآن لم يصدر تقرير الطب الشرعي، رغم مطالبتنا أكثر من مرة من قاضي التحقيق ووكيل الجمهورية لكن دون جدوى”.

ويؤكد بلال أن أخاه “لم يكن يشكو من أي أمراض قبل دخوله إلى السجن، بل كان رياضيا. رحل أخي وجثته مازالت تحمل أثار الظلم الذي لحقه”.

توفي عبد المنعم وفتح تحقيق في الأمر لكن رغم معرفة الشهود بأسماء وهوية الأعوان الذين عذبوه، إلاّ أنّه لم تجر مكافحة في المحكمة كما لم تستمع المحكمة للشهود، لتظل القضية على ما هي عليه مثل عدد كبير من قضايا التعذيب، التي لا تزال لغزا في المحاكم التونسية.

قبل ثلاث سنوات، وتحديدا في 27 أوت / آب 2012، واجه نبيل العرعاري ظلما مع التعذيب. فمنذ وطأت قدماه هو الآخر مركز التوقيف في 27 أوت / آب 2012، استقبلته عصا الجلاّد مرحبة بكلّ أجزاء جسمه. “هوت على جسمي النحيل حتى تخدّرت أطرافي وبالكاد أحرّكها”، حسبما يستذكر العرعاري البالغ من العمر الآن 36 سنة. ويضيف: “كنت أغيب عن الوعي فتوقظني صفعات قوية ورشق مياه باردة على وجهي، إلى أن عُلّقت من يدي بحديد النافذة لمدّة يومين. لم أكن أعرف حينها ما كان يدبّر لي، وبأي ذنب اعتقلت”.

لا شيء تغير

يقول نبيل “لا شيء تغيّر بعد الثورة، كنّا واهمين حين ظننّا أنّ ممارسات التّعذيب والإهانة انتهت بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي وودعناها بلا رجعة. لكن لا الثورة على القمع والاستبداد قضت على ممارسات الماضي ولا تقارير المنظمات الوطنية والدّولية أرهبت جلادي الأمس”، هكذا يصف السّجين السابق نبيل العرعاري تجربته مع التوقيف والسجن بعد ثورة 14 جانفي / كانون الثاني 2011. ويستطرد بأسى: “تعرّضت لأبشع أنواع التعذيب من ضرب وإهانة وشتم”.

أطلق سراح العرعاري بعد ستة أشهر قضّاها في السجن، لعدم “ثبوت الأدلة”. 

(إطار-1) تجربة العرعاري في الاعتقال :  على أنّ تجربة هذا الشاب الموثقة في هذا التحقيق تثبت تواصل التعذيب في مراكز الإيقاف والسجون التونسية بعد الثورة بسبب عدم محاسبة جلادي الأمس، وفق روايات المعذبين وتأكيدات غالبية الحقوقيين، وبالرغم من نفي المسؤولين واقتصار ذلك على حالات استثنائية ، حسب رأيهم ، توصلت معدة التحقيق أيضا إلى أن التعذيب استمر حتى بعد تغليظ عقوبات التعذيب في المجلة الجزائية في خريف 2011، بسبب عدم ترجمتها إلى إجراءات عملية.

  كذلك لم يتغير القائمون على السجون ولم تقع محاسبة كل من ثبت تورطه في قضايا تعذيب سابقة زمن بن علي، الذي اتهم نظامه بتعذيب معارضين سياسيين لاسيما منهم الإسلاميين من حركة النهضة سواء قيادييها أو كل المنتمين للحركة، حيث يبقى الحديث عن ملف السجون خطا أحمر لا يمكن لأحد تجاوزه.

لكن الثورة كسرت حاجز الصمت و”بات كلّ من تعرّض لانتهاك أو مظلمة قادرا على التوجه إلى المنظمات والجمعيات الحقوقية للتبليغ عن كلّ ما واجهه داخل السجون أو مراكز الإيقاف. كما باتوا قادرين على رفع قضايا بالمحاكم وتتبع كل المذنبين”.

هكذا حدّثتنا الحقوقية ورئيسة المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب راضية النصراوي التي تؤكد أنّ “التعذيب لم يتوقف بالمرّة في تونس وتواصل بعد الثورة مع الحكومات المتعاقبة. بل وتواصل بشكل مريع وبطرق وحشية”. وعدّدت صنوفه منها “الدجاجة المصلية واغتصاب الرجال بالعصي والحرق بالسجائر والتعليق، ناهيك عن السب والشتم. انتهاكات خلّفت أضرارا نفسية وجسدية للعديد من الموقوفين والمساجين”.

ووثقت هذه المنظمة بعد الثورة  400 ملف تعذيب و10 حالات موت بين مراكز إيقاف وسجون. وقعت 73 % من حالات التعذيب بعد 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، حصلت 51 % منها داخل مراكز الشرطة و31 % داخل السجون و16 % داخل مراكز الحرس. كما تجري المنظمة احصائيات توثق من خلالها  بين 15 و20 حالة شهريا.

في تونس _ تقول الحقوقية نصراوي _ يقبع نحو 23 مواطن في السجون، نصفهم لم توجة لهم أي تهمة حتى الآن.

قانون العقوبات

في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 أخضعت المجلّة الجزائية للتنقيح (تعديلات) وخصوصا الفصول المتعلقة بعقوبات التعذيب وتوسيع مفهوم التعذيب بحيث يشمل عدّة مجالات أخرى لم تكن موجودة، مع تغليظ العقوبات. (إطار-2)

 

النظام القانوني لجريمة التعذيب قبل الثورة      

 

النظام القانوني لجريمة التعذيب بعد الثورة

الفصل 101 من المجلة الجزائية (اضيف بالقانون عدد 89 لسنة 1999 المؤرخ في 2 اوت 1999):

يعاقب بالسجن مدة ثمانية أعوام الموظف العمومي أو شبهه الذي يخضع شخصا للتعذيب وذلك حال مباشرته لوظيفه أو بمناسبة مباشرته لـه. ويقصد بالتعذيب كل فعل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أو عقليا يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول منه أو من غيره على معلومات أو على اعتراف أو معاقبته على فعل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو غيره أو تخويفه هو أو غيره أو عندما يقع إلحاق الألم أو العذاب الشديد لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيّا كان نوعه.

 

الفصل 101 مكرر جديد (اضيف بالمرسوم عدد 106 لسنة 2011 المؤرخ في 22 أكتوبر 2011):

يقصد بالتعذيب كل فعل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديا كان أو معنويا يلحق عمدا بشخص ما بقصد التحصيل منه أو من غيره على معلومات أو اعتراف بفعل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو غيره.
ويعد تعذيبا تخويف أو إزعاج شخص أو غيره للحصول على ما ذكر.

ويدخل في نطاق التعذيب الألم أو العذاب أو التخويف أو الإرغام الحاصل لأي سبب من الأسباب بدافع التمييز العنصري.
ويعتبر معذبا الموظف العمومي أو شبهه الذي يأمر أو يحرض أو يوافق أو يسكت عن التعذيب أثناء مباشرته لوظيفه أو بمناسبة مباشرته له.

ولا يعتبر تعذيبا الألم الناتج عن عقوبات قانونية أو المترتب عنها أو الملازم لها.

الفصل 101 ثانيا (اضيف بالمرسوم عدد 106 لسنة 2011 المؤرخ في 22 أكتوبر 2011):

يعاقب بالسجن مدة ثمانية أعوام وبخطية قدرها عشرة آلاف دينار الموظف العمومي أو شبهه الذي يرتكب الأفعال المنصوص عليها بالفصل 101 مكرر من هذه المجلة وذلك حال مباشرته لوظيفه أو بمناسبة مباشرته له.
ويرفع العقاب بالسجن إلى اثني عشر عاما وبخطية قدرها عشرون ألف دينار إذا نتج عن التعذيب بتر عضو أو كسر أو تولدت عنه إعاقة دائمة.

ويكون العقاب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية قدرها عشرون ألف دينار إذا سلط التعذيب على طفل.

ويرفع العقاب إلى ستة عشر عاما والخطية إلى خمسة وعشرين ألف دينار إذا تولد عن تعذيب طفل بتر عضو أو كسر أو إعاقة دائمة.

وكل تعذيب نتج عنه موت يستوجب عقابا بالسجن بقية العمر دون أن يمنع ذلك من تطبيق العقوبات الأكثر شدة المقررة للاعتداءات على الأشخاص إن اقتضى الحال ذلك.

الفصل 23 من دستور 26 جانفي 2014:

تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم.

 

لكن رغم تنقيح القانون وتشديد العقوبات إلاّ أنّ ذلك لم يضع حدا للممارسات التي كانت تنتهج في السجون  زمن بن علي. بل استمر التعذيب حسبما تؤكد المحامية والحقوقية راضية النصراوي، التي ترجع ذلك إلى إفلات المذنب من العقاب و”كأن الأعوان (أفراد الأمن) يشعرون بالحماية لأنّهم عندما يمارسون التعذيب لا يعاقبون ولا يحالون على المحاكم”.

أرقام وقضبان
 
تحتل تونس المرتبة الثالثة في إفريقيا بعد المغرب والجزائر، من حيث عدد المساجين بواقع 30 ألف سجين، وفق بيان مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الانسان لسنة 2013. يتوزع النزلاء على 28 سجنا وسبعة مراكز توقيف، كانت مخفية عن الرقابة والإعلام قبل الثورة.
 
رغم اندلاع الثورة على كل مظاهر القمع والاستبداد إلاّ أنّ التعذيب لم ينته حتى تحت حكم من كانوا هم ضحايا تعذيب زمن بن علي. فبعد تولي الترويكا الحكم في انتخابات 2011 ظلّ الحال على ما هو عليه. إذ تؤكد غالبية المنظمات الحقوقية أنّ التعذيب تواصل رغم إسناد حقيبة الداخلية إلى علي العريض؛ القيادي بحركة النهضة ومن أكثر الأشخاص الذين عذّبوا في سجون بن علي قرابة 15 عاما، وحكم بالإعدام سنة 1987.
 تبرير ووعود بملاحقة المذنبين
 في لقاء معه في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2014  يحجم علي العريّض وزير الداخلية (2011-2013) ورئيس حكومة (2013-2014) عن التحدث بالتفصيل حول حالات تعذيب في السجون خلال حكم الترويكا.

تحدث علي العريض عن موضوع كرامة وحقوق الإنسان  مشيرا إلى أنّه “كان من أول المواضيع التي تمّ التأكيد عليها مباشرة بعد الثورة. لأنّ أكبر أداة استعملت في الماضي هي التعذيب والنيل من الكرامة وإهانة الإنسان وتشويهه بالإعلام ومعاقبته بالقضاء والأمن” ، مضيفا أنّ أكبر “الإصلاحات والإجراءات التي أخذت كانت  في هذا المجال. مجال حفظ كرامة الإنسان وحقوقه. واتخذنا عديد الآليات التي تمنع التعذيب وتلاحق كل من يقوم به وتحاكمه. بعد ذلك قمنا بتغييرات كبيرة داخل المؤسسة الأمنية. تغييرات في الأفراد وتغييرات في برامج التكوين والتوجيهات وتغييرات في رسالة رجل الأمن نفسه”.

لكنّه لا ينكر وقوع “تجاوزات”، لافتا إلى أنّ “الدولة والمجتمع المدني بصدد ملاحقتها، وحيث ما وجد تجاوز إلا وظهر أمام الناس ولم يعد متاحا للإنسان أن يمارس شيئا ويبقى سريا، ويجد الحماية كما حصل في السابق”. ويمضي إلى القول: “الآن أيّ تجاوز يحصل هناك منظمات كبيرة تذهب وتطرح وتشكو للقاضي والضحية يشكو للقاضي، ولا يفلت أحد من العقاب ولذلك أحسب أننا انتهينا نهائيا من أيّ سياسة ممنهجة لتعذيب المواطن وانتهاك كرامته، وثانيا نحن نلاحق ونتابع التجاوزات”. ويتحدث عن وجود “قضايا تتعلق بتجاوزات ليست بالضرورة تعذيبا، أخطاء ترتكب ، إلى آخره ، وحكم فيها القضاء. ورجل الأمن هو مواطن كبقية المواطنين ينفذ عليه القضاء”.

في سؤال له عن حجم التجاوزات  صرّح علي العريض قائلا ” ليس لي علم بعدد التجاوزات التي يمكن أن تكون وقعت. أنا اعرف ان هناك تجاوزات وأنا ايضا كنت وزير داخلية وأعرف ماذا يجري وما هي التجاوزات واعرف أيضا ماذا يجري في الدول العريقة في الديمقراطية. أنا لا يقلقني العدد سواء صح أو لم يصح إنّما يمكن أن يقلقني ما الذي حصل في هذه الحالات لأنّ هناك نوعين من التجاوز، هناك التعذيب المادي البدني ،الضرب والقمع وغيره ، وهناك التعذيب والاعتداء المعنوي اللفظي” ،مضيفا أنّه “في مجال صيانة كرامة الانسان في المؤسسة الأمنية لا يمكن اطلاقا المقارنة بين ما كنا عليه قبل الثورة وما صرنا إليه بعد الثورة. لكن الجهد الذي ينبغي أن يستمر هو جهد  التكوين والمتابعة والملاجقة وجهد التأطيرأيضا  لوحداتنا الأمنية حتى نقلل أكثر ما يمكن من أنواع هذه التجاوزات”.

لكن السجين السابق والسياسي يستذكر “القمع والتمييز وشتى ألوان المضايقات والتعذيب والتنكيل (سابقا) في محاولة لكسر الإرادة وتحطيم المعنويات للمساجين، وكذلك لعائلاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وأقاربهم.كانت هناك إرادة سياسية من قبل النظام السابق تتمثل في الإقصاء والتهميش للمعارضين”.

وبعد الثورة “لم نطالب بشكل واضح ورسمي لمحاسبة المتسببين في أنواع من التعذيب والقتل تحت التعذيب والاعتداء. ولكن قررنا في بلدنا ما يسمى بالعدالة الانتقالية، لأننا نريد أن تعرف الحقيقة وتضعها أمام الشعب ونريد أن تعالج أوضاع الذين تضرروا وتعيد لهم الكرامة ونريد أن تحاسب المسؤولين السابقين على ذلك لا حساب انتقام أو ثأر وإنّما حساب يسدّ الطريق أمام أيّ أحد يريد أن يكرّر نفس العملية”.

كما أضاف “كل تجاوز هي تجاوزات كيف نسجلها إما تسجل من خلال رجال الامن انفسهم أو من خلال الجمعيات المدنية وعندنا جمعيات كثيرة او تسجل من خلال الشكاية التي يتقدم بها المتضرر إلى القضاء. فنحن نتابع ونتخذ إجراءات في حدود مشمولات الوزارة. مثلا تتخذ إجراءات ضد أعوان اجراءات تأديبية تنظيمية كأن تنقلهم أو تخرجهم او تبعدهم عن الموقع الذين يتعاملون فيه مباشرة مع المواطن فإذا وجدت شخصا ليس مؤهلا لأن يضبط نفسه ويتحلى بأعلى درجات ضبط النفس عندما يحقق مع إنسان في قضية من القضايا فتبعده من هذا الموقع وهناك قضايا تحال إلى القضاء وهناك مساجين من رجال الأمن بسبب تجاوزات قاموا بها كأي فصيل آخر كأي وظيفة أخرى من يقوم بتجاوزات يمر إلى القضاء”.

وفي يونيو 2013 عبر العريض عن رغبته بتنفيذ ما يسمى مشروع “ضد النسيان” الهادف لتحويل بعض السجون التونسية التي حصلت فيها عمليات التعذيب لمعالم تاريخية.

كما نفي في اغسطس 2012 وجود حالات تعذيب بالسجون التونسية، خلال الجلسة العامة بالمجلس الوطني التأسيسي. ولفت النظر إلى ضرورة التعاون بين مختلف الأطراف لمحاصرة التجاوزات إن وجدت. 

حجج مضادة

رئيسة المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب راضية النصراوي تقدم حججا مضادة. وتقول إن “المنظمة وثّقت حالات وفاة مسترابة داخل السجون على غرار محمد علي بالناجي الذي توفي في سجن صفاقس في 23 مايو/ أيار 2012، والذي أكدت عائلته تعرضه لسوء المعاملة والتعذيب، إضافة إلى قبيل الجبالي المتوفى في سجن المرناقية في 6 مايو/ أيار 2012، والذي أكّد والده  تعرّضه للتعذيب”. وتشير أيضا إلى شبهات تعذيب في وفيات وليد دنقير سنة 2013 ومحمد علي السنوسي وعلي اللواتي سنة 2014.

تأكيد منظمات حقوقية

عدّة منظمات حقوقية منها الرابطة التونسية للدّفاع عن حقوق الإنسان ومنظمة حرّية وإنصاف والمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، تؤكد تواصل الاعتداءات على مساجين سواء في مراكز الإيقاف أو السجون. ووثقت منظمات عشرات الأسماء ممن بلغتهم من عائلاتهم شكاوى، أثبتت تواصل انتهاكات الماضي.

وفي 10 ديسمبر / كانون الأول 2012 وقّعت وزارة العدل مذكرة تفاهم حول زيارة السجون مع ست منظّمات حقوقية وطنية لأوّل مرّة في تاريخ السجون التونسية. وتهدف المذكّرة إلى تنظيم وضبط إجراءات الزيارات التي يمكن لممثّلي المنظمات الحقوقية الوطنية إجراءها للسجون التونسية، لكن بشرط توجيه إعلام مسبق قبل يوم من موعد الزيارة.

لكن غالبية الجمعيات -كمنظمة مناهضة التعذيب والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان- رفضت تلك المذكرة وتطالب بالقيام بزيارات “مفاجئة للسجون حتى يتسنّى لها الإطلاع على الأوضاع الحقيقية بعيدا عن كل الملابسات والتّعتيم”.

لكن في يوليو/ تموز 2015، وقّعت وزارة العدل اتفاقا مع الرابطة التونسية للدفاع عن  حقوق  الإنسان يسمح للرابطة بالقيام بزيارات مباغتة إلى السجون.

السّجين نبيل العرعاري حدّثنا عن إحدى زيارات رئيس الجمهورية منصف المرزوقي للسّجن سنة 2012. تمّت تحضيرات كبيرة مسبقا، وذلك لإخفاء الصّورة الحقيقيّة لما هي عليه السّجون في تونس”. ويستذكر كيف “تمّ إخفاء بعض المساجين، الّذين عرفوا بالتّمرّد والبوح بكلّ ما يدور داخل السّجن، في آخر زنزانة بعيدة عن الأنظار حتّى لا يقابلوا المرزوقي، أو حتّى الجمعيّات الّتي زارت السّجون في الآونة الأخيرة”. كما يلفت إلى “أنّ السّجون التونسية لا يقع تنظيفها أو تغيير المفارش بها، إلاّ خلال زيارة بعض الجمعيّات وذلك لعلم الإدارة بتلك الزّيارات”.

ويحدثنا نبيل العرعاري عن زيارة وزير العدل نور الدين البحيري وهو قيادي بحركة النهضة، إلى سجن المرناقية سنة 2012 وتعرضه “للشتم والضرب من قبل مساجين لا سيما ممن سجنوا معه زمن بن علي وكانوا يتوقعون منه المساعدة على  تحسين أوضاعهم داخل السجن”.

تهجم المساجين على الوزير أدّى إلى عقابهم بالتعليق ليلة كاملة في العراء في ساحة السجن. حادثة يؤكدها أيضا السجين م. ر  وبذات التفاصيل.

الشكاوى التي بلغت عدّة جمعيات شملت كذلك ملفات تعلّقت بملابسات مقتل بعض السجناء والموقوفين، ولم تكشف أسبابها أو مرتكبيها إلى اليوم.

ففي أواخر العام 2014 ثارت ضجة كبيرة حول مقتل ثلاثة شبان بسبب التعذيب؛ وليد دنقير وعلي اللواتي ومحمّد علي السنوسي.

وليد دنقير من منطقة باب جديد بالعاصمة التونسية أوقف في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 بتهمة حيازة المخدرات لكن قصته مع الإيقاف انتهت في يوم واحد، إذ لقي حتفه في السجن بعد أقل من ساعة من إيقافه.

تحدّثنا والدته فوزية أنّها استلمت جثة ابنها وقد عاينت أثار التعذيب على جسده، لا سيما على مستوى الرّأس.

من جهتها تقول الحقوقية راضية النصراوي إنّها عاينت الجثة كذلك ولاحظت أثار التعذيب بادية وواضحة على جسد وليد.

ويؤكد التقرير الذي حصلنا على نسخة منه أنّ الوفاة كانت بسبب جرعة زائدة تناولها الضحية قبل القبض عليه. ذات التقرير الطبي ذكر في البداية أنّ الضحية لم يمت جراء التعذيب لكن ذكر في خاتمة التقرير أنّ الضحية يحمل أثار ضرب على مستوى الرأس.

من جهتها أرسلت راضية النصراوي التقرير إلى ثلاثة أطباء بالخارج مع صور الضحية، وهم دنمركي وفرنسي وسويسري. الطبيب الدنماركي أشار إلى معلومة مهمة وتساءل لماذا لم يقع تحليل الدم بما أنّهم ذكروا أنّه تناول جرعة زائدة من المخدرات؟

 “شاهد من أهله”

عون السجون سابقا منير (اسم مستعار) ويعمل حاليا في إدارة السجون والإصلاح، حدّثنا عن بعض ما يدور في السجون التونسية من تعذيب،   يقول “إنّ الضابط في السجون يعد نفسه رئيس دولة لأنّه لا يحاسب على أيّ فعل يصدر منه مهما كانت وحشيته”.

ويؤكد منير “أن عون السجون يطبق فقط أوامر الضباط لتعذيب أحد المساجين، أو فإنّه سيتعرض للعقوبة إذالم يطبق الأوامر.

“لم يتغير أي شيء بعد الثورة بل تواصل التعذيب في السجون وفي مراكز الإيقاف على حدّ السواء، خاصة التعذيب بالضرب، ومن يرى جثتي وليد دنقير ومحمد علي السنوسي سيدرك ذلك بالتأكيد، وهما توفيا تحت التعذيب”، حسبما يشرح منير الذي فضل عدم الإفصاح عن هويته.

بعد توثيق روايات 12 سجينا تعرضوا للتعذيب بين 2011 و 2013، التقت معدّة التحقيق بالحبيب السبوعي مدير عام إدارة السجون والإصلاح السابق في تلك الفترة. يشرح السبوعي بأنّ “إصلاح المنظومة السجنية لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها. بل إن الأمر يتطلب تضافر عدّة جهود لإصلاح وتحسين واقع السّجون التونسية”.

وينفي السبوعي وقوع حالات تعذيب داخل السجون بعد الثّورة. ويشتكي من “أنّ السجون التونسية تشهد اكتظاظا يصل إلى نسبة 150 %، ما انعكس سلبا على ظروف المساجين وحتى الأعوان”. ولا توجد حالات “عنف شديدة تصل إلى مرتبة التعذيب وإنّما حالات عنف عادية ومعزولة تحصل نتيجة الاحتكاك بين الأعوان والمساجين أو بعض المشادات الكلامية”، حسبما يضيف.

طلبنا مقابلة وزير الداخلية السابق لطفي بن جدو للاستفسار عن التّجاوزات داخل مراكز التوقيف.لكن دون جدوى. كما قدمنا الطلب لخلية (قسم) الإعلام بوزارة الداخلية لكن أيضا دون جدوى. كما قدمت معدّة التحقيق طلبا لمقابلة السيد ناجم الغرسلي وزير الداخلية الحالي أو رئيس لجنة الحقوق والحريات صلب الوزارة لكن لم تتلقى أيّ ردّ.

في المقابل، لم يكن تصريح مدير عام إدارة السجون والإصلاح صابر الخفيفي مخالفا لسابقه، فقد أكد بدوره أنّه “لا يوجد تعذيب في السجون، متسائلا ما الداعي للتعذيب”؟ ويقول: “أنّها مجرّد حالات استثنائية لا تعد سياسة للدولة ولا سياسة وزارة العدل أو إدارة السجون والإصلاح، إنّما هي حالات معزولة وغير ممنهجة”. ويؤكد أن “القانون اليوم يتابع الجميع، بدليل أنّ كل عملية متعلقة بسوء معاملة يحال ملفها إلى النيابة العمومية وقضاة التحقيق يقومون بمتابعة الملف”، لافتا إلى “إدارة السجون والإصلاح أثارت العديد من الحالات”.

وبينما يقر الخفيفي بوجود عدّة إصابات، يعود ليؤكد أن 99 % منها خلال “محاولة سيطرة الأعوان على السجناء، فأحيانا يوجد عنف متبادل بين المساجين يلجأ حينها أعوان السجون إلى استعمال القوة اللازمة للسيطرة على السجين”. ويستشهد بقانون 52 لسنة 2001 الذي “ينص على استعمال القوة اللازمة فتحدث بذلك إصابات للسجين والعون على حدّ السواء”.

ويوضح أن “إصلاح المنظومة السجنية هو مسؤولية السلطات المعنية والمجتمع المدني” مشيرا إلى وجود “تعاون فيما بيننا حول المسألة لإيجاد حلول لكل المشاكل”.

ربمّا أخرجت الثورة الحديث عن السجون التونسية ومراكز الإيقاف من دائرة المحظور، لكن بقي ما يحصل داخل أقبيتها خطّا أحمرا لم تتجاوزه حتّى المنظّمات الحقوقيّة العريقة رغم ما كشفته بعض تقاريرها.

(إطار-1)

عذابات نبيل العرعاري خلف القضبان

معاناة الشاب نبيل العرعاري تواصلت داخل مركز التوقيف بمحافظة سليانة شمال تونس من 27 أغسطس/ آب  إلى 4 سبتمبر/ أيلول 2012، حين ناشد إدارة مركز الحرس لأخذه إلى المستشفى، وتمّ له ذلك. “كانت أذني تنزف وارتفعت درجة حرارتي ولم أعد أستطيع التنفس. وبدأت أشعر بآلام كبيرة في عدة أماكن من جسدي. وفي العاشرة ليلا تم نقلي إلى مستشفى شارل نيكول”، حسبما يستذكر العرعاري بغضب. هناك، عاينت طبيبة “أذني وحرّرت شهادة طبية ذكرت فيها أنّ سبب النزيف هو ثقب طبلة الأذن إثر الضرب بالكف”.

ونقل العرعاري فيما بعد إلى قاضي التحقيق الذي “لاحظ حالتي الصحية، وطلب المحامي الذي عاين في مكتب التحقيق آثار التعذيب على جسدي عرضي على الطب الشرعي. لكن لم أعرض على الطبيب الشرعي إلا بعد مرور شهرين، أي بعد اختفاء آثار التعذيب”.

يتخذ الوجه الأسمر الأربعيني ملامح أكثر قسوة بينما يسرد رحلة العزل والضرب. “نقلت إلى سجن سليانة ورغم تلك الآلام لم أتمكن من العلاج إلى أن تمّ نقلي بعد أيّام إلى سجن المرناقية. ومن هنا انطلقت حكاية جديدة مع المعاناة والتعذيب: عتمة مطبقة، رائحة كريهة، وجدران اسمنت باردة”. ولم يعد يتتبع “الأيام أو ما بقي من الزمن، ملقى على الأرض كجثة لا حراك فيها. ليل دائم في زنازين كتمت أنفاسي”.

رغم عدم قدرته على المشي، كان يسحب العرعاري يوميا للوقوف بين النّزلاء لساعات في انتظار عدّ المساجين الدّوريّة.

فيديو التحقيق:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية).


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *