إنهم يقتلون الأشجار

1 نوفمبر 2018

غابات إدلب الخضراء.. ضحية أخرى للحرب في سوريا

العربي الجديد- فصل أحمد الفارس (37 عاما) من وظيفته في معمل الزجاج في حلب عام 2014 بعدما تغيب عن الدوام ليتجنب سوقه إلى خدمة الاحتياط ضمن قوات الرئيس بشار الأسد. لم يكن يريد أن يشارك في الحرب التي تحرق البلاد منذ اندلاع الأزمة الأهلية في 2011. لكن خلال العامين الماضيين لم يجد الفارس مصدرا لكسب رزق أسرته التي تضم أربعة أطفال سوى العمل في التحطيب بعدما أكلت سنوات الحرب مدخراته. شارك ضمن آلاف العمال في العمل لحساب تجار يقطعون أشجار الأحراج على جانبي طريق حلب-اللاذقية الممتد 125 كيلومترا.

تجنب الفارس، الذي يعيش في مخيم الحرية قرب قرية حمامات الشيخ عيسى في منطقة جسر الشغور التي توجد بها أكبر محمية للغابات الطبيعية في إدلب، حربا تحرق البلاد ليجد نفسه ضمن “جيش” من العمال يكسب قوته من تدمير الغابات الخضراء بعدما ضاقت أمامهم سبل كسب العيش في ظل الأوضاع في سوريا. وتقول حكومة المعارضة إن 70 في المئة من أشجار الأحراج في إدلب، المعروفة بالمحافظة الخضراء، أحرقت أو قطعت منذ اندلاع الحرب السورية في ظل ضعف الرقابة والمحاسبة من الفصائل العسكرية المسيطرة على المنطقة.

يقدر خبراء أن ما تمت خسارته من الأشجار خلال السنوات السبع الماضية يحتاج تعويضه إلى مئات السنين، وأن حجم الخسائر يتجاوز مليار دولار.

يلقي الفارس نظرة على أطفاله النائمين قبل أن ينسل من بيته في الصباح الباكر لينضم إلى رفاقه عمال المياومة في رحلة بسيارة تقلهم إلى مكان التحطيب على بعد 20 كيلومترا من مخيمه. تمر عينه على مساحات الخضرة المتآكلة على جانبي الطريق حيث كان المشهد قبل سنوات قطعة من الجنة. تحجب كثافة الأشجار والخضرة لون التربة، ويتخذ الناس من المكان رئة يتنفسون فيها الهواء النقي بعيدا عن سموم المدن وأدخنتها.

وقال سبعة من العمال تحدث إليهم معد التحقيق إنهم يعملون تحت سمع وبصر الفصائل المسلحة في المنطقة “نمر عبر حواجزهم ويسمحون لنا بالمتابعة”.

وقال الفارس الذي نزح من حلب عام 2016 إن معظم رفاقه من أبناء المخيمات والشباب العاطل عن العمل، ويتقاضى الواحد منهم 2500 ليرة سورية في اليوم الواحد (حوالي خمسة دولارات).

وأضاف أن التجار يعملون في قطع الأشجار بالتنسيق مع الفصائل العسكرية سواء من خلال معارف أو بحكم القرب من مناطق السكن. وأحيانا يرتب مسؤول من الفصائل مع التجار مقابل نسبة من الأرباح.

يقطع العمال الأشجار من قواعدها باستخدام مناشير تعمل بالمازوت. وبعدها تقطع الأشجار إلى قطع كبيرة. يقول حمزة المصطفى أحد العمال إنهم يتولون بعد ذلك تحميل قطع الأشجار على شاحنات كبيرة تنقلها إلى أسواق الأخشاب، وأكبرها في قرية عرب سعيد غربي إدلب، حيث تباع لتجار أو لأصحاب ورش تقطيع الأخشاب.

يقول الفارس إن سعر طن الأخشاب في السوق يتراوح بين 75 ألفا و100 ألف ليرة في حين كان حوالي ستة آلاف ليرة قبل اندلاع الأزمة السورية.

الخسائر 70%

تقول وزارة الزراعة في الحكومة السورية إن الأشجار الحراجية في إدلب كانت تغطي أكثر من 80 ألف هكتار، وفقاً للمهندس محمد نور طكو معاون مدير الزراعة في تصريحات لجريدة الثورة الرسمية (هايبرلينك). لكن حكومة الإنقاذ المعارضة تقدر المساحة بحوالي 45 ألف هكتار، تضم ما يعادل 18 مليون و500 ألف شجرة، واعتبر وزير الزراعة السابق في حكومة الإنقاذ فايز الخليف أن تقديرات حكومة دمشق تعود للثمانينيات. وتقول حكومة المعارضة إن 70 بالمئة من تلك الأشجار، حسب تقديراتها قُطعت أو أُحرقت منذ بدء الأحداث في سوريا.

وفي عام 2011، كانت محافظة إدلب تضم 70 موقعاً حراجياً، بحسب حكومة المعارضة، منها 20 ألف هكتار من الغابات الطبيعية هي التي لحق بها أكبر الضرر، و25 ألفاً من الغابات الصناعية التي تبعد عن مواقع المواجهات. وتضم الغابات ما يزيد عن 100 نوع من الأشجار والشجيرات الحراجية، وفيها أكثر من 50 صنفاً من الحيوانات والطيور البرية. ومن بين المواقع الحراجية 20  موقعاً طبيعياً هي الأكثر كثافة، وتقع في منطقة جسر الشغور حيث توجد أكبر محمية طبيعية من الغابات في إدلب. وتمتد هذه المواقع على جانبي نهر العاصي، الذي يدخل المحافظة من قرية القرقور قادماً من حماة (جنوب شرق)، ويغادرها من قرية التلول (شمال غرب) إلى الأراضي التركية.

تشكل الغابات 13% من مساحة إدلب، التي تلقب بالمحافظة الخضراء، وعلى مستوى البلاد تختص المحافظة بحوالي 18% من مساحة الغابات في سوريا لتحتل المركز الثاني بعد محافظة اللاذقية التي تختص بنسبة 30%، أي أنّ المحافظتين بهما ما يقارب نصف مساحة الغابات في سوريا.

خلال عام 2011 الذي اندلعت فيه الأزمة السورية احترق 626 هكتاراً من الغابات في المنطقة المحيطة بجسر الشغور، بحسب سجل دائرة الحراج في إدلب. وارتفع الرقم في ثلاث سنوات أي عام 2014 إلى 9500 هكتار من أصل 13400 هكتار هي مساحة الغابات في جسر الشغور، أي أن حوالي 75 في المئة من مساحة أكبر محمية طبيعية للغابات في إدلب احترقت.

يعزو فراس اليوسف المهندس الزراعي في دائرة حراج إدلب، وسكان في المنطقة، أسباب الحرائق إلى القصف المكثف من قبل القوات الحكومة السورية لمنع فصائل المعارضة من الاحتماء بتلك الأحراج.  

وقال حسام ظليطو مدير مكتب الدفاع المدني في جسر الشغور إن معظم الحرائق كانت بفعل القذائف والصواريخ التي أطلقتها القوات الحكومية على المناطق الخارجة عن سيطرتها. ومنذ تأسيس الدفاع المدني في 2013، وثّق حتى أغسطس/آب الماضي 640 حريقاً في منطقة جسر الشغور التي خرجت عن سيطرة النظام السوري في 2012.

وأشار اليوسف إلى أنّ أكثر الغابات المتضررة هي غابات الحمامة والشيخ سنديان والحسينية وعين جرون، وهي غابات طبيعية غربي نهر العاصي، ومن أبرز أشجارها الزرود، والسنديان، والتين البري، والزيتون البري، والزعرور، والميس، والاسترك، والسماق، والغار، والصنوبر البروتي والثمري، والسرو، والبطم.

وتتميز منطقة جسر الشغور بكثرة غابات الصنوبر البروتي، وهي أشجار قادرة على النمو في بيئات مختلفة بما فيها البيئة الصحراوية وتلعب دورا فاعلا في حماية التربة من الانجراف أثناء هطول الأمطار الغزيرة شتاء.

ثروة منهوبة

يقول المهندس فراس اليوسف من دائرة الحراج إن أعمال الحرق والقطع طالت غابات بأكملها وتسببت في تدمير ما لا يقل عن 35 ألف هكتار من أصل 45 ألف هكتار في ادلب.

تقدر دائرة الحراج متوسط عدد الأشجار في الهكتار الواحد بحوالي 500 شجرة تزن كل منها نحو 400 كيلوجرام. وبحساب متوسط سعر طن الأخشاب عند 150 دولارا يتجاوز حجم الخسائر من غابات إدلب مليار دولار منذ اندلاع الأزمة السورية.

ويقول اليوسف إن تعويض ما خسرته غابات إدلب في سبع سنوات يحتاج إلى مئات السنين. وأضاف أن الأشجار التي قطعت أو أحرقت منها أشجار طبيعية يبلغ عمرها نحو 250 سنة في حين يصل عمر الأشجار الصناعية إلى 30 عاما.

ويحذر وزير الزراعة السابق في حكومة الإنقاذ د. فايز الخليف من أن تدمير الغابات يمكن أن يفاقم مشكلة الاحتباس الحراري خاصة في ظل انتشار حراقات النفط البدائية في مناطق المعارضة السورية.

غابات إدلب ليست الوحيدة التي تتعرض للقطع فهناك أربعة مواقع حراجية غربي مدينة حلب، هي كفر كرمين وكفر حلب، والكسيبية وجبل سمعان، فيها 1850 هكتاراً معظمها من أشجار الصنوبر الحلبي، تعرضت أيضاً للقطع بنسبة 70 %، بحسب المهندس المسؤول في قسم الحراج في حلب إبراهيم حميدي.

غياب سلطة القانون

وفي القانون السوري رقم 6 لعام 2018 تنص المادتان 31 و32 على أنه:
أ- يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة كل من تسبب بنشوب حريق في الحراج أو الأراضي الحراجية أو المحميات الحراجية أو مناطق الوقاية نتيجة إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة النافذة.
ب- تشدد العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤقتة إذا نجم عن التسبب بنشوب حريق إصابة إنسان بعاهة دائمة.
ج- تشدد العقوبة إلى الأشغال الشاقة مدة لا تقل عن سبع سنوات إذا نجم عن التسبب بنشوب حريق وفاة إنسان.
المادة 32:
أ- يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبالغرامة من 500 ألف إلى مليون ليرة سورية كل من أقدم دون ترخيص مسبق على قلع أو قطع أو إتلاف أو تشويه الأشجار والشجيرات في حراج الدولة أو الإتيان بأي عمل يؤدي إلى إتلافها.
لكن تبقى هذه التشريعات غير قابلة للتطبيق في المناطق الخارجة عن سيطرة القوات الحكومية.

ويقول العامل أحمد الفارس إنه لم يلتق بأحد من الشرطة الحرة التي تعمل في مناطق المعارضة خلال فترة عمله في التحطيب منذ أوائل 2016.والشرطة الحرة لها 32 مخفرا توجد في مدينة معرة النعمان جنوب إدلب والقرى والبلدات المحيطة بها وحارم وسلقين قرب الحدود التركية وعدة بلدات غربي حلب.
ويقول الرائد حسين الحسيان من الشرطة الحرة في إدلب إن معظم الأحراش تقع خارج مناطق انتشار الشرطة. وأضاف أن الشرطة نفذت 204 ضبوطا لعمليات حرق أو قطع أشجار في مناطق عملها في عام 2017.

تعميم من مركز الشرطة الحرة في كفر حلب بريف حلب الغربي، يقضي بمنع قطع الأشجار وينذر بسجن المخالف 15 يوما مع التشدي في حالة تكرار المخالفة.

وزارة الزراعة في حكومة الإنقاذ يقتصر دورها في مواجهة التحطيب الجائر على نشرات توعية، تبرز أهمية الشجرة ومكانتها في الإسلام، للتأثير على الناس في خطب الجمعة والدروس في المساجد. وألقت الوزارة الكرة في ملعب الفصائل العسكرية وقالت في رد على معد التحقيق إنه يجب على الفصائل حماية المواقع الحراجية في مناطق سيطرتها. ودعت إلى إنشاء مخافر حراجية وتسيير دوريات لتأمينها.

منشور توعية من وزارة الزراعة في حكومة المعارضة

المتحدث باسم هيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) وهي أبرز فصائل المعارضة في المنطقة عماد مجاهد نفى أي دور أو تواطؤ من جانب الهيئة في قطع أشجار الغابات. وهو ما نفته أيضا حركة نور الدين زنكي في حين رفض الحزب التركستاني الإسلامي الرد على طلب التعليق.

ومن جانبه قال فؤاد سيد عيسى عضو مجلس إدارة منظمة بنفسج للإغاثة والتنمية العاملة في إدلب إن المنظمة، ومقرها تركيا، قامت بالعديد من حملات التشجير لمحاولة تعويض جزء بسيط من “الكارثة” في إدلب نتيجة الاحتطاب من الأشجار. وأضاف أن منظمة بنفسج غرست أكثر من 50 ألف شتلة في مشروعها الأول في بداية 2016 في مناطق إدلب وأريحا وجسر الشغور ومعرة النعمان وما حولها ثم أتبعته بمجموعة من الحملات المتتالية للتشجير خلال العامين التاليين بجهود متطوعيها وبالتعاون مع العديد من المجالس المحلية والفاعليات المدنية فيها.

لكنه أشار إلى أن ما تمت خسارته يحتاج إلى منظمات دولية ومبالغ كبيرة وسنوات عديدة من أجل إعادة جزء منه.

في هذه الأجواء يدق الشتاء الأبواب ويشتد الطلب على الحطب في الأسواق. ويقول أبو سعيد الذي يطل منزله على الطريق الدولي بين جسر الشغور وإدلب “عشرات الشاحنات تمر يوميا محملة بالأشجار المحتطبة”.

الفارس يتابع حركة الشاحنات التي تصب إيراداتها في جيوب تجار يدبرون أمورهم مع أصحاب النفوذ. وقت الغداء يجلس مع رفاقه على جذوع أشجار قطعوها. يتقاسمون أرغفة مدهونة بدبس البندورة أو الزعتر، وفي الحلق غصة من المشاركة في تدمير مساحات خضراء كانت يوما ما رئة نقية لأسرته وعشيرته.

أنجز هذه التحقيق بدعم من “شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية” (أريج) وبإشراف الزميل عماد عمر.


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *