رنا الصباغ: صحافة الاستقصاء تصمد في العالم العربي رغم القمع

2016/11/29
التاريخ : 29/11/2016

الغد -في يوم قائظ من أيام آب (أغسطس) 2004، جلس إعلاميون عرب ودنماركيون حول نافورة رقراقة وسط باحة منزل عتيق في دمشق، وهم يتناولون عصير ليمون طازج لإطفاء عطش الصيف.

لم تخطر ببالهم آنذاك مسارح القتل والاضطرابات التي ستعصف لاحقا بالعالم العربي وتطوّق دوله، بدءا من ربيع العام 2011.

لكنهم كانوا يمتلكون رؤية لإطلاق مشروع إعلامي عابر للحدود، على أمل إحداث تغيير سلمي في المجتمعات العربية الموبوءة بسوء الإدارة، والفساد، والمحسوبية. هكذا ولد برنامج صحافة الاستقصاء بتمويل دنماركي، بهدف تعزيز مبدأ الرقابة والمحاسبة، وإشاعة حرية الرأي، ودعم الإعلام المستقل. كانت تلك محاولة جسورة لري الأرض العطشى للحرية في المنطقة.

بعد استعراض عدد من الأسماء المقترحة للمولود الجديد، استقر رأي المجتمعين على “أريج”؛ وهو اختصار لعنوان مركب بالإنجليزية: “إعلاميون عرب من أجل صحافة استقصائية”. ويعني أيضا “رحيق الورد”.

بعد عام، عقد الروّاد أول اجتماع لمجلس إدارة الشبكة في عمان، واتفقوا على أن تعمل “أريج” -وفق مراحل- على ترويج ثقافة صحافة الاستقصاء الممنهج في غرف الأخبار وكليات الإعلام من خلال برامج مدروسة، لبناء قدرات الإعلاميين والإعلاميات، وشحذ مهاراتهم ورفع كفاءاتهم.

وقررت “أريج” أيضا مساعدة الصحفيين في التركيز على قضايا تهم المجتمع، ووضعت ترسيخ الديمقراطية وسيادة القانون على رأس الأولويات. على أن الشبكة وأعضاءها الأوائل تحركوا بحذر شديد. ففي الدول التي تضع قيودا مشددة على الإعلام، كان النبش والتقصي يقتصران على مواضيع “آمنة”؛ في قطاعات الصحة، والبيئة، والتربية والتعليم، إلى جانب مشاكل المستهلك وقضايا المرأة.

وبفضل التمويل الأولي المقدم من البرلمان الدنماركي، تمكنت شبكة “أريج” من إطلاق برامج تدريب/ تأهيل إعلاميين وإعلاميات، والإشراف عليهم وتمويلهم، ثم مساعدتهم في فحص محتوى التحقيقات قانونيا قبل النشر/ البث، من أجل تلافي المخاطر. ووضعت مؤشرات لقياس الجودة والتميز على امتداد المشروع.

في البدء، تعاقد المجلس مع مديرة تنفيذية لإدارة المشروع في الأردن وسورية ولبنان؛ ثلاث دول متجاورة بمناخات سياسية وإعلامية متفاوتة. ثم تمددت الشبكة إلى دول عربية أخرى، وصولا إلى تسع الآن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وبدا التغيير -الإيجابي- في متناول اليد لفترة ما. فمن مكتبها المكون من غرفة واحدة بعمان، شرعت “أريج” في غرس بذور الاستقصاء عبر دول المنطقة. وبحلول العام 2008، كانت الشبكة قد توسعت لتشمل مصر ثم البحرين فالعراق، ففلسطين، واليمن وتونس.

اليوم، تحتفل “أريج” بإطفاء شمعتها العاشرة، وقد انتشرت أفقيا وعموديا في تسع دول عربية. وتخطط الشبكة لمواصلة التوسع في السنوات المقبلة، والعمل مع صحفيين/ صحفيات مستقلين، وشبكات استقصاء محلية.

لكن سبق لها أن حقّقت إنجازها الجوهري؛ وهو إطلاق صحافة استقصاء ممنهجة في منطقة كانت تخلو من هذا التقليد. ومنذ أن استهلت مهامها مطلع العام 2006، درّبت “أريج” أكثر من 1869 صحافيا/ة، وأساتذة وطلبة كليات إعلام، على تقنيات الاستقصاء الاحترافي. وساعدت على نشر/ بث أكثر من 400 تحقيق استقصائي مؤثر في وسائط إعلام محلية وإقليمية ودولية. العديد من تلك التقارير فتحت الأبواب أمام إصلاحات ملحة، بعضها نفذ على الفور بعد النشر/ البث.

فبالتزامن مع بث تقرير “أريجي”، أمر جلالة الملك عبدالثاني الثاني الحكومة بإجراء تحقيق سريع وحماية حقوق الأطفال ذوي إعاقات حركية ونفسية، بما يتماشى مع المعايير الدولية. وسارع الملك إلى لجم إساءات وقعت على هذه الفئة المستضعفة بأيدي مقدمي خدمات لهم خلف أبواب موصدة.  أما في تونس، فمرّت سنتان قبل أن تبادر الحكومة إلى إغلاق حضانات كانت تحضّر الأطفال المنتسبين إليها لكي يصبحوا جهاديين. ولم تتدخل إلا بعد أن أنجزت إعلامية “أريجية” تحقيقا عالي الخطورة، يتضمن تخفيا واستخدام كاميرا مخفية ملصقة بجسمها.

ولأول مرة، تتشارك سبع جامعات عربية في تدريس مساق طورته “أريج” -من ثلاث ساعات معتمدة في الفصل- لمأسسة صحافة الاستقصاء في كليات الإعلام، على نسق دليل الشبكة الإرشادي: “على درب الحقيقة”. كما تستخدم هذا الدليل 20 جامعة على الأقل لتعريف الطلبة بمنهجية الاستقصاء المتقدمة. وقد أنجز الدليل الإرشادي والمساق الإعلامي حاصد الجوائز مارك لي هنتر، الذي يدرس في جامعة “إنسياد” الفرنسية.

خلال العامين الماضيين، ساعد مكتب “أريج” للأبحاث والبيانات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عشرات الصحفيين العرب والأجانب على كشف حالات غش وفساد في المنطقة وخارجها. ولعب هذا المكتب دورا محوريا في إطار الشبكة الأممية لصحفيي الاستقصاء، في التنقيب في “أوراق بنما”؛ ضمن أضخم تحقيق استقصائي عابر للحدود حتى الآن.

عشرة صحفيين عرب على الأقل نشروا/ بثوا تحقيقات في العمق في الإعلام الأجنبي، غالبيتهم بأسماء مستعارة، كاشفين عن خفايا شبكة من شركات الـ”أوف شور” المسجلة في ملاذات ضريبية آمنة. كما نبشوا الروابط بينها وبين حسابات بنكية مرتبطة بأصحاب نفوذ عرب وشركائهم في عالم الأعمال والتجارة.

أحد الاستقصائيين كشف كيف تمكن الرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤه من التحايل على العقوبات الدولية، من خلال تسجيل شركات في جزر سيشل الآمنة ضريبيا. وأضاء صحفي آخر على ثروات كبار المسؤولين السابقين ورجال الأعمال في اليمن.

تلك كانت سابقة مهمة في التعاون بين إعلاميين عرب وأجانب لتقصي ثروات مستبدين عرب، والكشف عن صفقات مالية سرية تربطهم بعالم المال والأعمال.

وبمساعدة خبراء حاسوب، وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، يعكف مكتب “أريج” للأبحاث والبيانات على بناء قاعدة بيانات عن الشركات المسجلة، والعطاءات الحكومية، وتسجيلات الأراضي (قواشين) في 18 دولة عربية. ونجح أيضا في جمع وحفظ بيانات ذات صلة من مواقع إلكترونية حكومية، قبل أن يمحى بعضها من الشبكة العنكبوتية. وتأمل الشبكة في الكشف قريبا عما يمكن وصفها بقاعدة البيانات الأكثر شمولية وتوفيرا للسجلات الحكومية في العالم العربي.

ويتلقى الباحثون في “أريج” ما معدله 18 طلبا للمساعدة شهريا، بحثا عن معلومات، من صحفيين عرب ودوليين. هذه الإنجازات تشكّل بقع ضوء وسط محيط إعلامي قاتم غير قابل للاختراق، حيث تتهاوى حرية الصحافة باطراد منذ خمس سنوات.

في الأثناء، تتعقد مهمة الاستقصاء يوما بعد يوم، ويصبح وضع أصحاب النفوذ أمام مسؤولياتهم أكثر خطورة. فالرقابة تتعمق، فيما يسجن صحفيون و/ أو يقتلون، ويجهز مقص الرقيب على بقايا الإعلام المستقل.

بعد الصين، باتت مصر تصنف ثانيا على سلم أكثر البلدان سجنا للصحفيين. والتنظيمات المتطرفة تستهدف الصحفيين وتنكل بهم أيضا. ففي العام 2015، اعتقل عناصر من تنظيم “داعش” صحفيا مستقلا من سورية، أثناء انهماكه بالتصوير  داخل إحدى المدارس الواقعة ضمن دائرة نفوذهم. وأخضع التنظيم المصور المرافق للصحفي للاستجواب، ثم جزّ عنقه أمام الكاميرا بعد أسبوع!

وفي ربيع هذا العام، تعرض مصطفى المرصفاوي، وهو صحفي مصري تدعمه “أريج” للطرد من عمله. جاء هذا العقاب بعد أن وثّق الصحفي حالات موت، تعذيب وإساءات يحدثها ضباط بحق أفراد في جهاز الأمن المركزي.

أما محطة “بي. بي. سي” التي بثت تقرير الصحفي المصري، فتعرضت لهجات شرسة شنّها أربعة مقدمي برامج حوارية مقربون من الحكومة. سهام النقد والتجريح لم توفر “أريج” كذلك.

على أن بواعث قلق الصحفيين في هذه المنطقة لا تقتصر على الحكومات. فمن يجازف بحياته وحريته يصطدم عادة بضعف صادم في التأييد الشعبي. وفي كل محطة، يجدون المواطن العربي وقد تخلّى عن الحريات الأساسية وحقوقه الديمقراطية مقابل لا شيء، سوى وعود غامضة بالاستقرار والازدهار السياسي. يشاهد الصحفيون أناسا يخافون من الفوضى أكثر من القمع العربي “الاعتيادي”. يرون مواطنين تقبلوا المحدّدات التي رسمها الاستبداد، وتصالحوا معها. ليس من المستغرب إذن تراجع حرية الإعلام واستقلاله على سلم أولويات المواطنين.

إذن، ما العمل؟ هل يستسلم صحافيو الاستقصاء العرب أمام مجتمع غير مؤازر وينتظرون تغير الأحوال في مقبل الأيام؟ العديد منهم يصرون على أنهم اجتازوا مسافة طويلة بحيث لا يرغبون في العودة. مع ذلك يبقى ثمن الاستمرار على النهج شاقا ومحفوفا بالمخاطر.

وفوق انسداد أفق الحريات، تتفاقم الأوضاع الاقتصادية التي تعقّد حياة الصحفيين. إذ معلوم أن صحافة الاستقصاء لم تكن يوما عملا مربحا، خصوصا عندما تعتمد على دعم الحكومات والهيئات غير الربحية. ونشهد الآن جفافا مطردا في ينابيع التمويل مقابل ارتفاع كلف التقصي وبناء التحقيقات الاحترافية.

فالممولون يواجهون الآن أولويات جديدة، ليس أقلّها استفحال أزمة اللاجئين حول العالم الذي يبحث اليوم عن مأوى وطعام لـ60 مليون لاجئ ونازح يفرّون من مناطق النزاع والانهيارات الاقتصادية، في أضخم موجة من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية. لذلك علينا نحن معشر الصحفيين تعلم كيفية استدامة عملنا بوسائل جديدة.

لنتذكر مع ذلك أن حرية التعبير ونزاهة الإعلام يجب أن لا تكونا إضافات اختيارية في ميزان أي كان. ذلك أنهما مكونان لا يمكن الاستغناء عنهما في المجتمعات الديمقراطية؛ وفوق ذلك حماية لا بد منها في مواجهة الاستبداد وغياب القانون.

كافحنا معا لترسيخ هذه المبادئ في منطقتنا. وسنحارب من أجل استدامتها. ولا ننوي الاستسلام الآن.

بهذه الروحية، يلتئم منتدى “أريج” التاسع للصحفيين الاستقصائيين في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 2016. إذ سيجتمع أكثر من 340 صحفيا، وأستاذ إعلام، وخبراء في الاستقصاء، عرب وأجانب على شاطئ البحر الميت، أخفض بقعة على وجه البسيطة.

ككل عام، يناقش المشاركون -على مدى ثلاثة أيام- واقع الإعلام في العالم العربي، وتعمق الرقابة، وسبل مواجهة التضليل الإعلامي عبر المنطقة. وتحت عنوان “أريج.. عقد من الاستقصاء في العالم العربي؛ نسمع، نرى ونكشف”، يتبادل “الأريجيون” ومؤازروهم المعرفة والخبرات، خصوصا تلك المتعلقة بتشفير بياناتهم وحماية أنفسهم في مناطق النزاع إلى جانب بناء السرد الإبداعي الذي يخطف الأبصار.

ننتظر الكثير من هذا التجمع السنوي. وهم يحتاجون دعمكم ويستحقونه.

 


تليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *