لم يكن محمد عماد، الذي قضى في السجن اليوناني 335 يوماً بتهمة تهريب
البشر، كغيره من مهاجرين مصريين كُثر قرروا سلوك طريق الوصول إلى
أوروبا عبر قوارب الهجرة غير الشرعية؛ لأنه قد تخرج في كلية الحقوق
جامعة طنطا، كما ينحدر من أسرة متوسطة تسكن المدينة نفسها. لكنّه مع
ذلك، قرر كما يقول لنا: "ألا يُجرّب حظه في مصر" بعد تخرجه الجامعي،
وخطّط للسفر إلى أوروبا عبر التهريب.
في فترة احتجازه في السجن اليوناني، ذهبنا إلى منزله في مدينة طنطا،
وتحدثنا مع والدته غادة يوسف التي قالت إنه بعد حصوله على ليسانس
الحقوق، كان يُطلعها على صور زملائه قائلاً : "دي يا ماما صور زمايلي
وهم راكبين مراكب من ليبيا لأوروبا، ودي صورهم بعد ما وصلوا إيطاليا،
أنا هسافر بالطريقة نفسها (...) مفيش خطورة، يعني ممكن أموت؟! ما أنا
هنا في مصر لو ما حققتش أحلامي هاموت؛ فسيبيني أخوض المغامرة". تقول
غادة إن ابنها محمد عماد كان قد سلك في البداية الطريق الشرعي، بمحاولة
الحصول على منحة دراسية من المركز الثقافي الإيطالي بالقاهرة، لكنه
أخفق في ذلك.
على النقيض، كان أحمد عادل قد "جرّب حظه" سنوات عديدة في مصر، فعمل في
عدة مهن، كان آخرها عامل بناء باليومية في محافظة الشرقية، وهو متزوج
ويعول ثلاثة أطفال بجانب والديه. ورغم التدهور المستمر لوضعه
الاقتصادي، لم يُفكر في السفر إلا بعد وفاة رضيعه، بسبب عدم تمكنه من
توفير حَضانة لرعايته بعد الولادة، إثر تعرضه لأزمة في الجهاز التنفسي.
يعيش أحمد مع أسرته (سبعة أفراد)، في منزل مكون من غرفتين بقرية حوض
الندى بمحافظة الشرقية (77 كيلومتراً من القاهرة). تقول زوجته هدى إنها
رفضت سفر زوجها بشكل قاطع، لكنّه قال لها: "بنتنا بتكبر ومش هقدر على
مصاريف دراستها، وأنا عاوز أعلم أولادي كويس، ويكفي إن ابننا مات بين
أيدينا واحنا مش قادرين نوفر له فلوس الحَضانة".
الرابط بين محمد عماد وأحمد عادل أنهما خرجا على مركب يونيو الغارق، ثم
حُبسا في زنزانة واحدة بالسجن اليوناني وبتهمة واحدة، وكانا ضحية
سماسرة الهجرة غير الشرعية التي تنشط في مصر، من أجل تهريب الشباب
والقُصر إلى أوروبا، ومنحهم تذكرة بلا عودة عبر الزج بهم في مراكب صيد
متهالكة.
خرج محمد عماد من القاهرة بشكل شرعي إلى ليبيا، في 19 نيسان/أبريل
2023، عبر مكتب سفريات بمنطقة الجيزة بالقاهرة. دفع عماد ما يقرب من
200 ألف جنيه، وفقاً لما حصلنا عليه من صور لبعض التحويلات المالية من
أسرة عماد إلى سماسرة التهريب. فاتورة سفر عماد كانت أعلى من غيره،
لذلك مُنح ميزة إضافية بانتظار إبحار المركب في منزل تابع لسمسار تهريب
يُدعى "أ.س"، في شارع فلسطين بطبرق الليبية.
في المقابل، خرج أحمد عادل من محافظة الشرقية إلى مدينة السلوم
الحدودية مع ليبيا، ليدخل إلى طبرق بشكل غير شرعي. لم يدفع عادل أيّ
أموال إلا بعد وصوله ليبيا، وكان بصحبة صديقيه حسام وعبد الله. في 28
أيار/مايو 2023، استقبلهما مهربان من بدو مطروح، لاصطحابهم مع آخرين
عبر الدروب الصحراوية الحدودية إلى داخل ليبيا، وتمّ وضعهم في مزرعة
زيتون تابعة للمهرب في طبرق، لحين تجهيز المركب. بعد وصول أحمد عادل،
دفعت الأسرة إلى مندوب تابع للمهرب في محافظة الشرقية 140 ألف جنيه.
يقول لنا وائل سند، صهر أحمد عادل وصديقه: "كانت خطة مُحكمة من
المهربين، لأنهم سفروهم مجاناً من مصر، ثم حجزوهم في مخزن غير آدمي في
ليبيا، وبعدها قالوا لهم إما الدفع أو الموت". وثّقت أسرة أحمد عادل
وقائع ما جرى مع المهربين عبر مراسلات على تطبيق واتس آب.
في السياق نفسه، تكشف تحقيقات أجرتها النيابة العامة المصرية، ما بين 4
تموز/يوليو حتى 16 تشرين الأول/أكتوبر 2023 حول المركب نفسه، والتي
تمكنا من الحصول على نسخة منها، أن شبكة التهريب التي قامت بالتنسيق
لشحن "مركب يونيو الغارق" براغبي الهجرة إلى أوروبا، استخدمت في الأساس
تطبيق "فودافون كاش" لإجراء التحويلات المالية بينها وبين المهاجرين من
جانب، وبين شبكة التهريب في ليبيا من جانب آخر.