ARIJ Logo

تَلقيحٌ على بياض

سماسرة يصدرون شهادات لقاح صورية

محمد الصاوي

أُنجزَ هذا التحقيق بدعمٍ من أريج

خياران كلاهما مرّ، أجبرا رانيا عصام* على الاختيار بينهما. فطبيعة عملها كمعلمة في إحدى المدارس الخاصة، حتّمت عليها تلقّي لقاح مضاد لفيروس كورونا، لتتمكن من ممارسة عملها، وهو ما اعتبرته تهديداً لحلمها وفرصتها في أن تصبح أماً.

وبموجب القرار الوزاري الذي بدأ تطبيقه منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، لا يُسمح بدخول أيّ موظف حكومي لم يتلقَّ لقاحاً مضاداً لفيروس كورونا إلى مقرّ عمله. تزامن هذا مع تحذير من وزارة التربية والتعليم باتخاذ الإجراءات القانونية ضدّ أيّ معلّم يعمل في مدرسة حكومية أو خاصة، لم يأخذ اللقاح.

وبالتزامن مع صدور القرار وبداية تطبيقه، ثار جدل حول تطعيم السيدات اللاتي يخططن للحمل، مثل رانيا، والحوامل والمرضعات، خاصّة أنّ بعض الدول، مثل الإمارات، أعفت الحوامل من تلقّي اللقاح في المراحل الأولى لوفوده.

وهو ما تسبب في عزوف رانيا عصام وزوجها عن أخذ لقاح كورونا، خشية حدوث أيّ أضرار صحية أو مضاعفات قد تؤثر على الحمل الذي يخططان له.

ولم يكلّفها قرار الامتناع عن تلقّي اللقاح فقدان عملها، فمقابل 600 جنيه فقط (40 دولاراً أمريكياً وفق سعر الصرف وقتها)، حصلت رانيا على شهادة تفيد بتلقيها اللقاح، ومارست عملها من دون عائق.

يكشف التحقيق عن لجوء رانيا و10 حالات أخرى، إلى سماسرة، لإصدار شهادات تلقيح صورية من الوحدات الصحية بمقابل مادي، تحايلاً على قرارات إلزامية اللقاح داخلياً وخارجياً.

telephone

وكلفت لقاحات كورونا خزينة الدولة حتى كانون الأول/ ديسمبر 2021 نحو 513 مليون دولار، لتحصين 52 مليون مواطن من الوباء.

طفرة في أعداد الحاصلين على اللقاح

في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أصدر مجلس الوزراء المصري، قراراً بمنع أيّ موظف حكومي من ممارسة عمله، ما لم يكن قد حصل على اللقاح المضادّ لفيروس كورونا المستجد، كما اشترط القرار تقديم المواطنين ما يفيد بتلقّيهم اللقاح للسماح لهم بدخول المنشآت الحكومية.

قبل هذا القرار، دار الكثير من الجدل حول مدى أمان وفاعلية اللقاح، خاصة أنّ بعض الأطباء امتنعوا عن تلقيه، ولكن بعد القرار الوزاري أصبح التطعيم إجبارياً.

دفع هذا القرار بأعداد متلقّي جرعتيْ اللقاح من نحو 11 مليوناً في نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر إلى 15 مليوناً في نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، ليصل الرقم الرسمي لمن حصلوا على اللقاح حتى نهاية شهر تشرين الثاني من عام 2022 إلى أكثر من 40 مليون مواطن، ما يشكل نحو 38.5% من إجمالي المواطنين.

سوق الشهادات الوهمية

على الرغم من أنّ كريم شاهر* ليس موظفاً حكومياً، وبالتالي لم تطلب جهة عمله شهادة اللقاح، إلّا أنّ طبيعة عمله تضطره إلى التردد على المصالح الحكومية التي لن يُسمح له بدخولها من دون إشهار كارت "متابعة لقاح كورونا المستجد".

لجأ شاهر إلى أحد السماسرة للحصول على كارت مختوم يفيد بأنّه حاصل على لقاح، ودوّن عليه بياناته، ليدخل بعدها إلى المصالح الحكومية، وكأنه تلقّى اللقاح بالفعل.

رصد ِمُعدُّ التحقيق تداول 4 كروت عليها أختام وإمضاءات رسمية، ولكن من دون بيانات مدوّنة داخلها، أي "على بياض". وترجع بيانات أختام اثنيْن منهما إلى وحدة صحية في محيط قصر العيني، بوسط القاهرة، فيما يعود الآخران إلى وحدة صحية في محيط مدينة نصر (شرقاً).

هذه الكروت التي تُباع مقابل 200 جنيه (13 دولاراً أمريكياً وفق سعر الصرف وقتها)، تتيح لحامليها إمكانية النفاذ إلى المصالح الحكومية داخل مصر.

وهذا هو السبب نفسه الذي جعل مجرّد حمل كارت متابعة لقاح، لا يجدي نفعاً في حالة جمال أيوب*.

العبور إلى المطار

انضم أيوب إلى صفوف العائدين من دول الخليج، إثر تفشي وباء كورونا، وظلّ طوال عاميْن يتحين الفرصة ليعود إلى عمله، ولكنّ آماله اصطدمت بشرط حصوله على اللقاح، ليتاح له السفر مجدداً.

تعقدت الأمور في وجه أيوب، إذ أدرج طبيبه حالته ضمن المصابين بحساسية تمنع من تلقّي اللقاح، وبالتالي فهو مستثنى من الحصول عليه في مصر، إلّا أنّ شكّاً راوده في انطباق هذا الاستثناء على الدولة الأخرى، ما يعني بالتالي فقدانه لفرصته في العودة.

وفرضت كلّ الدول الخليجية والأوروبية على كلّ الوافدين تقديم ما يفيد بتلقيهم جرعتيْن من اللقاح الأمريكي أو البريطاني، قبل السماح لهم بدخول أراضيها، مع إلزامية تقديم شهادة فحص PCR في بعض الدول.

في كانون الأول/ ديسمبر 2021، دفع جمال 500 جنيه (33 دولاراً أمريكياً وفق سعر الصرف وقتها)، إلى أحد العاملين في مراكز تلقّي اللقاح مقابل حصوله على شهادة تؤكد حصوله على لقاح "أسترازينيكا"، ووفقاً لجمال، فقد تم تسجيله بعد مرور 20 يوماً على منظومة التسجيل التابعة لوزارة الصحة، باعتباره حاصلاً على الجرعة الثانية من نفس اللقاح، ليتمكن بعد ذلك من استخراج شهادة الـ QR المعتمدة دولياً، مقابل 200 جنيه (13 دولاراً أمريكياً وفق سعر الصرف وقتها)، وهي القيمة الرسمية المعلنة من قبل وزارة الصحة، ليمرّ بها من المطار من دون أن يشكّ أحد في أنّه لم يتلقَّ اللقاح.

خطوات الحصول على اللقاح

تسجيل طلب على موقع منظومة التسجيل للقاح فيروس كورونا المستجد

line

تلقي رسالة بموعد ومكان تلقّي الجرعة الأولى

line

التوجه للمركز الطبي لتلقّي الجرعة الأولى

line

الحصول على كارت متابعة لقاح فيروس كورونا المستجد

line

إرسال رسالة لمقدّم الطلب بموعد تلقّي الجرعة الثانية

line

التوجه لمركز التطعيم نفسه لتلقّي الجرعة الثانية

line

إصدار شهادة تلقّي اللقاح

blue hospital

عقب صدور قرار رئيس الوزراء بإجبار موظفي الحكومة والمواطنين المترددين على المصالح الحكومية على تلقّي اللقاح المضادّ لفيروس كورونا، ضبطت الجهات الرقابية في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، في محافظة أسيوط، جنوب القاهرة، ممرضة بحوزتها مجموعة من الكروت المختومة والممهورة من دون بيانات مدوّنة عليها.

ووجهت النيابة إليها اتّهامات بالتربّح جراء بيع الكروت للمواطنين، فيما أكّد مدير الوحدة الصحية التي تعمل الممرضة بها تسلّمها هذه الكروت، لأنّها تعمل ضمن اللجان التي تجوب البيوت لتلقيح المواطنين وتسجيلهم.

بعدها توالى سقوط شبكات من الموظفين في مراكز تلقّي اللقاح في عدد من المحافظات، تورطوا في إصدار شهادات تلقيح وهمية للمواطنين، مقابل مبالغ مالية.

أبرز قضايا تزوير شهادات تلقّي لقاح فيروس كورونا


تشرين الأول/ أكتوبر

أحالت مديرية الصحة والسكان بمحافظة الوادي الجديد واقعة ضبط تزوير شهادات تسجيل تلقّي لقاح كورونا للتحقيق، تورط فيها أحد الموظفين بالقطاع الصحي ومواطن.

2021

تشرين الثاني/ نوفمبر

ضبط ممرضة مصرية تبيع شهادات تلقّي لقاح كورونا في أسيوط.

2021

كانون الأول/ ديسمبر

حبس مدرّس بمحافظة كفر الشيخ اعترف بتقليد وتزوير شهادات تلقّي لقاح فيروس كورونا وبيعها للمواطنين.

2021

شباط/ فبراير

ضبط قسم شرطة الخليفة شخصين تخصصا في تزوير شهادات تلقّي لقاح فيروس كورونا.

2022

آذار/ مارس

القبض على تشكيل عصابي بمحافظة البحيرة، يزوّر مستندات رسمية، من ضمنها شهادات تلقيح كورونا.

2022

آب/ أغسطس

تلقّى قسم شرطة عابدين بلاغاً من موظف بوزارة الصحة، أفاد فيه بضبط مندوب شركة، طلب تسجيل 120 شهادة تلقّي لقاح كورونا لموظفي شركته، ولكن بفحص الشهادات تبيّن أنّها مزوّرة.

2022

على الرغم من أنّ بعض هذه الشهادات سليمة شكلاً وليست مزوّرة، فإنّه ينطبق عليها ما ينطبق على تزوير المحررات الرسمية، بحسب المحامي المختص في قضايا التزوير عبد الرازق مصطفى، بل تمتد الجريمة أيضاً لتشمل الطرفيْن، الموظف ومن يعاونه ومستخدم الشهادة الوهمية.

ويرى مصطفى أنّ المادة (116) من قانون العقوبات رقم (58) لسنة 1937 تطبّق على الموظف. وتنصّ على أنّ "كلّ موظف عام كان مسؤولاً عن توزيع سلعة أو عهد إليه بتوزيعها وفقاً لنظام معيّن فأخلّ عمداً بنظام توزيعها يُعاقَب بالحبس، وتكون العقوبة السجن إذا كانت السلعة متعلقة بقوت الشعب أو احتياجاته أو إذا وقعت الجريمة في زمن حرب".

ولا يستثنى حامل الشهادة من العقاب، فيذهب مصطفى إلى أنّ حامل الشهادة وهو يعلم أنّها صدرت بطريقة غير قانونية، يُعاقَب بالسجن المشدد مدة تتراوح ما بين ثلاث وعشر سنوات، لانطباق المادة (214) من القانون عليه.

المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة، الدكتور حسام عبد الغفّار، أكّد في تصريحات إعلامية، منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2021، أنّ الوزارة حوّلت ما ضبطته الأجهزة الرقابية من تزوير شهادات تلقّي لقاح كورونا، إلى النيابة العامة للتحقيق فيها باعتبارها جريمة جنائية.

وعلى الرغم من هذا، استمرّت إعلانات إصدار شهادات تلقيح صورية، على المجموعات المغلقة على فيسبوك. وهو ما دفع مُعدَّ التحقيق، لمصاحبة حالة ترغب في إصدار شهادة لقاح صورية، لمعرفة المزيد عن طريقة عمل سماسرة شهادات اللقاح.

تسجيل في غضون دقائق

تواصلت الحالة مع أحد السماسرة عبر الرقم المنشور في إعلاناته على فيسبوك، مبدية رغبتها في التسجيل على منظومة التسجيل بوزارة الصحة، لإصدار شهادة تتيح لها السفر.

كلُّ ما طلبه المُعلن، صورة جواز السفر، مطمئناً الراغبة في إصدار الشهادة، بأنّ بإمكانها الحصول على الشهادة خلال نصف ساعة فقط من المكالمة، على أن ترسل له 1000 جنيه (52 دولاراً أمريكياً)، بعد إجراء العملية.

بعد مرور نصف ساعة، أرسل السمسار رسالة، بها رقم التسجيل على البوابة التابعة لوزارة الصحة، وصورة من قاعدة البيانات الداخلية لوزارة الصحة تظهر أنّ الاسم مسجّل بالفعل، باعتبار أنّ الحالة قدّمت طلباً للحصول على اللقاح في 23 آب/ أغسطس 2022، وتلقّت لقاح "جونسون آند جونسون"، يوم 4 آب/ أغسطس.

أن يسبق تاريخ تلقّي اللقاح تاريخ تقديم طلب الحصول على اللقاح، هو ما أثار الشكّ ودفع بالحالة للتواصل مع الخط الساخن لوزارة الصحة، الذي أكّد صحّة المعلومات التي أرسلها السمسار.

وبهذا، بالإمكان التوجه إلى أحد المراكز الصحية لإصدار شهادة QR معتمدة، والسفر بها.

ووفق مصدر داخل وزارة الصحة، لم يتعرّض موقع الوزارة المختص بتسجيل المواطنين الراغبين في تلقّي اللقاح المضادّ لفيروس كورونا، لأيّ اختراق منذ إطلاقه، وكلّ البيانات المدوّنة عليه أدخلها موظفو الوزارة.



هذه المعلومة أكدها المتحدث باسم وزارة الصحة الدكتور حسام عبد الغفار قائلاً إنّ "الموقع غير قابل للاختراق".

وعندما طلبنا من عبد الغفار التعليق على ما رصدناه من إصدار السماسرة شهادات صورية للمواطنين بمقابل مادي، وتعاون موظفين في وزارة الصحة مع سماسرة لإصدار شهادات تلقيح، رفض التعليق قائلاً إنّه "ليس لدي أيّ معلومة عن هذا".

الإخلال بالمنظومة الصحية

تصنّف مصر من الدول الآمنة فيما يخصّ اللقاح، إذ تتوفر 95 جرعة لقاح لكلّ 100 مواطن.

واشتركت وزارة الصحة في الدراسات التي اختبرت لقاح "سينوفارم" الصيني على 45 ألف حالة من أربع دول، من ضمنها مصر، لتخلص الدراسة إلى فاعلية اللقاح بنسبة 86%.

بعدها تلقّت مصر أول شحنة لقاحات "سينوفارم" في كانون الأول/ ديسمبر 2020، ولكنّ جدلاً كبيراً تنامى حول العالم بشأن فاعلية اللقاح، ووصلت أصداء هذا الجدل إلى مصر.

من هنا تأتي خطورة التسجيل الوهمي لأفراد غير حاصلين على اللقاح، باعتبارهم حاصلين عليه، فوفق الدكتور أمجد الخولي، استشاري الوبائيات في منظمة الصحة العالمية، فهؤلاء معرّضون أكثر من غيرهم للإصابة بالفيروس وإصابة المخالطين لهم الذين يحسبون أنّهم تلقوا اللقاح، وبالتالي تتضاءل الثقة في اللقاحات.

الأكثر خطورة من هذا، كما يبين الخولي، أنّ التسجيل الوهمي لتلقّي اللقاح، مقابل استمرار تصاعد منحنى الإصابة بكورونا، يعطي مؤشراً مغلوطاً لدى متّخذي القرار بشأن فاعلية اللقاح.

وينعكس هذا على إحصائيات منظمة الصحة العالمية التي تشير إلى أنّ أعداد المصابين بكورونا في الأشهر الثلاثة التي تلت تاريخ إلزامية اللقاح في مصر، بلغت ذروتها، بإجمالي 103 آلاف إصابة ما بين كانون الأول/ ديسمبر وآذار/ مارس 2022، وهو ما يشكل نحو 20% من إجمالي عدد الإصابات في مصر منذ ظهور الفيروس.

يمتد التأثير أيضاً إلى مخصصات الدولة المالية لمواجهة الوباء، فقد اقترضت مصر 2.77 مليار دولار أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2020، من صندوق النقد الدولي، لتستطيع التصدي لفيروس كورونا.

واعتمدت وزارة المالية ثلاثة مليارات جنيه، لشراء اللقاحات منذ طرحها حتى آب/ أغسطس 2021، مع رصد ميزانية مفتوحة للقطاع الصحي بحدٍّ أدنى بلغ 275.6 مليار جنيه في السنة المالية 2022/2021.

وبلغ إجمالي الإنفاق على شراء لقاحات كورونا أكثر من 500 مليون دولار حتى كانون الأول/ ديسمبر الماضي، لتلقيح نحو 52 مليون مواطن.

لذا، فإنّ نصيب الفرد يزيد عن 10 دولارات، تُرصد لتلقّي اللقاح فعلياً وليس وهمياً، إلّا أنّ رانيا وكريم وجمال، وغيرهم، قرروا ألّا يستفيدوا من حصتهم في اللقاحات، لأسباب متنوعة دفعت سماسرة اللقاحات لاستغلال الوضع والعبث بمنظومة تسجيل اللقاحات.

*أسماء مستعارة

syringe