مصانع حكومية تلقي مخلفاتها فى النيل وتسمم النهر والأسماك

17 ديسمبر 2009

المصري اليوم- هشام علام ودارين فرغلي

فى تلك الليلة تمنى لو يحدث شىء مختلف ينبهه من الكابوس الرابض على صدره. شيخ المسجد الملاصق لبيته قال إن الله يفرج هم المكروبين فى ليلة القدر. لم يضف جديدا على طقوسه اليومية، فقط أيقظ أبناءه الأربعة واصطحبهم إلى المسجد ليصلوا الفجر ويقضّوا الساعات القليلة المتبقية فى تلاوة القرآن حتى يبزغ النهار. فيستند خمستهم كلٌ على الآخر عبر الطريق القصير المؤدى إلى المركز الطبى، هناك يغسل الأبناء «كُلاهم» فيما ينتظرهم الأب، روتين يتكرر يوميا.

الشعور بالعجز يتعمق لدى هذا المسن، مع تضخم العبء المالى الذى اضطره لبيع نصف منزله، ومشهد أبنائه يتمايلون ألما بعدما أضيفت «هشاشة العظام» إلى روشتة التشخيص كنتيجة لتكرار عمليات «الغسيل» على مدى سنوات.

مرت الساعات ثقيلة. زاد توتره نوبةُ ألم ضارية راحت تطارد ابنه البكرى «على» . وما هى إلا دقائق حتى لفظ الابن أنفاسه بين يديه، فعاد الأب إلى زوجته بثلاثة أبناء وقربان قدمه للسماء، وشهادة وفاة ممهورة بخاتم الدولة مكتوب عليها «سبب الوفاة: فشل كلوى».

حسن أحمد حداد ذو السبعين خريفا، يقف متكئا على عكاز ابنه الأصغر أحمد. يشرد ببصره ناحية شركة «الحوامدية للسكر والصناعات التكاملية». يتابع عمال أحد المصانع الستة المنتشرة هناك، وهم يغسلون أوعية معدنية ضخمة بحامض الكبريتيك، الذى ينساب مع بقايا الصرف الصناعى إلى أنابيب ضخمة تلقى بها فى نهر النيل فى ثلاث بؤر مختلفة. ينتابه هاجس يقترب من اليقين بأن هذه المخلفات التى تلفظها مصانع الشركة- على مدار أكثر من قرن- هى سبب إصابة أبنائه بالفشل الكلوى، مثل المئات من سكان هذه المدينة الكبيرة، الذين يطلقون على الشركة «مصنع السم والعسل».

رئيس الإدارة المركزية لفروع وزارة البيئة على أبوسديرة يؤكد وجود ١٠٢ منشأة صناعية مطلّة على النهر من أسوان إلى البحر المتوسط لمسافة تزيد على الألف ميل، ثلثها مخالف للمواصفات البيئية المصرية.

المسؤول الحكومى رفض التعليق على نوعية المنشآت، ومواقعها وحجم التلوث الذى تحدثه. «إنها معلومات سرية»، يجيب أبو سديرة، منبها إلى أنه سيتعرض للمساءلة حال الإفصاح عن أى منها. إلا أن مصدرا فى الوزارة أسرّ لكاتبى التحقيق بأن شركة الحوامدية ومصنع أسمنت طره التابعين للقطاع العام من بين المنشآت المخالفة، علاوة على كونهما الوحيدين اللذين يصرفان مخلفاتهما بشكل مباشر فى النهر.

وبتحليل عينات من مياه الصرف التى يلقيها مصنع الأسمنت، تبين ارتفاع نسب المواد الكيميائية فيها عن المعدلات المسموح بها وفق قانون البيئة بنسب ضعيفة وبالتالى أصبحت شركة السكر هى الهدف الأساسى.

عائلة حداد تعيش فى منطقة مكتظة تحف بمجرى النيل يقطنها ١٥٠ ألف نسمة. يعمل مستشفى الحوامدية بأقصى طاقته على مدار الساعة لمواجهة تدفق مرضى الكلى من الأحياء المحيطة. معدل الإصابة بهذا المرض فى الحوامدية يشكل خمسة أضعاف مثيله فى مدينة أوسيم المجاورة (٢٢٠ ألف نسمة)، كبرى مدن محافظة ٦ أكتوبر.

ففى الوقت الذى يؤكد فيه مدير مستشفى أوسيم المركزى د. عبدالعزيز جودة أن عدد الحالات التى تستقبلها عيادة الكلى فى مستشفاه لم تتجاوز ١٥ حالة خلال عامين، يؤكد مدير مستشفى الحوامدية العام أنها زادت على ٧٥ حالة خلال الفترة ذاتها. مستشفى الحوامدية يستقبل المرضى حتى بعد منتصف الليل، بدون احتساب الحالات التى تتردد على المركز الطبى التابع لشركة السكر، إذ يرفض المسؤولون فيه تقديم أى معلومات.

يتذكر حسن حداد كيف أطاح المرض بعائلته بعد انتقالها إلى الحوامدية من حى إمبابة قبل ٢٠ عاما. راح المرض يجتاح أبناءه واحدا تلو الآخر «حتى أنه لم يسلم منه»، وهو الذى أمضى ٤٠ عاما فى «ميكانيكا السيارات» بـ«الهيئة العربية للتصنيع» لم يزر خلالها طبيبا. بدأ الشيخ يعانى من ارتفاع نسبة «الباولينا والكرياتينين»، فى دمه وهما مادتان سميتان، مما يجعله قيد أنملة من الإصابة بالفشل الكلوى.

مرارا حاول الأب المصاب- فى نفسه وأولاده- تحليل مياه الشرب ليتأكد من شكوكه، إلا أن جيرانه كانوا ينصحونه بتوفير ماله، بعد أن باع طابقين من منزل- هو كل ما يمتلكه- ليغطى نفقات علاج أولاده، الذين تجاوز أصغرهم العشرين عاما بلا أى أمل فى الزواج أو العمل.

فحين فكّر ابنه أحمد، الذى شارف الثلاثين، فى الزواج قال له والد الفتاة «هو أنا لاقى بنتى فى الشارع عشان ابتليها بواحد زيك». بمرارة يضحك أحمد قابضا دمعة توشك أن تغلبه ويقول: «هو برضه عنده حق.. إذا كنت ما أصلحش للشغل.. هاتجوز ازاى»؟

عصام يبدو أكثر تحملا، فبعد اعتلال صحة والده، دأب على نقل أخوته من المنزل إلى المركز الطبى وإعادتهم على كرسيين متحركين اشتراهما الأب ليعيناه فى مهمته. وبعد أن ينتهى الأبناء الثلاثة «على وأحمد وأسماء» من غسيل كلاهم يعيدهم إلى المنزل، ويذهب عصام وحده ليقوم بعملية الغسيل، والتى ما إن تنتهى حتى تخور قواه، ليتكفل «أولاد الحلال» بإعادته للمنزل.

زيارة واحدة للمركز الطبى الذى يحمل اسم شركة السكر، والمستشفى المركزى، كفيلة بإظهار حجم مأساة سكان المدينة. عيادات الكلى هى الأكثر ازدحاما. طوابير الكشف تبدأ قبل ساعات من بدء العمل الرسمى. الجميع هنا يئن من الألم ذاته. «هاجر» فتاة عشرينية لم تقو على الوقوف، فافترشت الأرض وتلحفت بصحيفة قومية، لتؤكد أن فردين بأسرتها يحملان المرض، الذى تطور مع أحدهما ليتحول من فشل كلوى إلى سرطان كلى، مرجعة السبب إلى مياه الشرب «الملوثة»، بحسب ظنها.

أما «ياسر» ذو السنوات التسع فقد اصفر وجهه من تكرار عملية الغسيل. توسد هذا الطفل حجر أمه وألقى بجسده النحيل فوق مقعد خشبى ملىء بالنتوءات ينتظر الدور، فى حين راحت الأم تتفحص ملامح ملاكها المستسلم بصمت، تزيح خصلات شعره عن جبينه المتعرق، وتقول بلهجة قروية: «ده دور وماشى فى البلد ومش سايب صغير ولا كبير».

وجاءت شهادة مدير المستشفى المركزى الدكتور مصطفى عبدالجواد لترجح كلام السيدتين، فرغم الأسباب المتعددة للإصابة بأمراض الكلى، فإنه لم يستبعد أن تكون مياه الشرب فى «الحوامدية» متهما رئيسياً.

«العجز الجنسى، هشاشة العظام وضعف جهاز المناعة، وبالتالى الإصابة بالفيروسات الكبدية وسرطان الكلى»، كل تلك الأمراض متعلقة بالفشل الكلوى، بحسب مدير المستشفى، لافتا إلى أن غالبيتها استوطنت داخل بيت حسن حداد.

تجلس زوجة حدّاد الستينية فوق سجادة الصلاة. تخفى بين ثنيات إسدالها صورة زفاف وليدها الذى فارقها منذ أسابيع. كانت تتمنى أن ترى حفيدا لها يعزيها فقدان «أول فرحتها». أخواه أيضا صارا عاجزين عن الزواج: «ليس أقسى على أم من أن ترى ابنها عاجزا أمام زوجته»، تروح فى موجة بكاء، ثم تعلن: «ابنى مامتش موتة ربنا، ابنى انقتل، واللى قتله شربة ميه».

فى بيت الشيخ حدّاد صنبور مياه اعتاد أن يغطى فوهته بقطعة شاش مطوية على قطعة قطن طبى، علّها تصطاد الملوثات والشوائب. تتعهد زوجته بتغييرها يوميا، فيما يتحول لونها بعد ٢٤ ساعة إلى الأسود. وعلى الأطراف هالة برونزية، لها ملمس خشن، قال عنها طبيب بالمركز الطبى- رفض الإفصاح عن اسمه- إنها معادن ثقيلة مترسبة. يعمل هذا الطبيب منذ أكثر من خمس سنوات بالمركز الطبى الذى أنشأته شركة السكر.

ورغم ذلك، فإنه يرجح أن يكون انتشار أمراض الكلى فى المدينة ناجما عن وقوع محطة معالجة مياه الشرب فى موقع قريب جدا من مصنع السكر. ويرى بالتالى أن العناصر الكيميائية التى تخلفها مصانع الشركة- والتى لا يستطيع التكهن بها- تصل بتركيز عال إلى «محطة الشرب ولا يمكن تنقيتها»، ذلك أن المحطة تعتمد فى تنقية المياه على الشبّة والكلور، الذى توقف استعماله فى غالبية الدول لأضراره الموثقة علميا- وفق الطبيب ذاته.

على بعد نصف ميل بحرى جنوبى شركة السكر، يضخ أنبوب مطمور تحت اليابسة فى قلب النيل سائلا لونه أحمر قانيَ له رائحة منفرة. يحرس الأنبوب عن بعد خفيران فوق مركب حديدى متعطل تابع للشركة. ما إن أجرى أحدهما مكالمة من جهاز لاسلكى بحوزته، حتى حضر عدد من أفراد الأمن على لانش سريع، وطاردوا كاتبى التحقيق إلى خارج الموقع.

تلجأ الشركة إلى حيلة مختلفة لإخفاء الأنبوب الثانى، إذ تم مد خط الصرف الصناعى عدة أمتار داخل النهر وبعمق مترين تقريبا. لكن تم الاستدلال على موقعه بمعرفة أحد أفراد شرطة المسطحات المائية، فيما يظهر الأنبوب الرئيسى فى مكان بارز، ليبدو المشهد وكأنه المصرف الوحيد.

الدكتور حاتم تليمة أستاذ مساعد الكيمياء بالجامعة الأمريكية أشرف على تحليل العينات من الموقع وأخرى من أماكن بعيدة عن مصب الصرف لمقارنة النتائج.

فى معمل التحاليل الدقيقة بجامعة القاهرة بدا الدكتور محمد عباس كبير أخصائى التحاليل متجهما. لم يصدّق أن العينات التى بين يديه يتم ضخها مباشرة فى النيل، ٢٠ عاماً قضاها فى المضمار لم يصادف «صرفا» بهذا السوء. وفق القانون رقم ٤٨ لسنة ١٩٨٢ الذى يبين حدود الملوثات فى الصرف الصناعى، تصنّف نتائج التحاليل بمثابة كارثة بيئية وصحية، بسبب ارتفاع نسبة الأحماض وأيضا الحديد، الفينول والسيانيد بمعدلات خطيرة. نسبة «الفينول» تزيد على المعدل الذى تسمح به منظمة الصحة العالمية، ووفق قانون البيئة المصرى، بمايزيد على ٢٣ ألف مرة.

هذا ينطبق أيضا على «السيانيد»، المعروف تجاريا بـ«سم الفئران» إذ وصلت نسبته إلى ١ ملليجرام فى اللتر، فى حين يشترط القانون خلو مياه الصرف تماما من هذا العنصر. كما جاءت نتائج المعامل المركزية بوزارة الصحة لتضيف على ذلك ارتفاع نسب الأمونيا والأكسجين الممتص كيميائيا وحيويا، وهو ما يعنى ببساطة- وفق د.عباس- أن هذا الماء «قاتل».

أضرار الصرف الصناعى فى نهر النيل لا تقتصر على مياه الشرب فقط، بل تشمل الأسماك، الوجبة الأساسية على مائدة الشيخ حسن. «ماهو ماينفعش نبقى عايشين على النيل وماناكلش سمك»، يقول رب الأسرة المكلومة. أحد الصيادين صالح منصور راح يؤكد أن شكل الأسماك فى محيط شركة السكر مختلف.

وثمة شكاوى كثيرة وردت من مواطنين بعد تناولها، بعضهم يشكو من الطعم وآخر من آلام فى المعدة، دون التعرف على سبب لذلك. إلا أن كل هذا لم يمنعه من الصيد فى هذه المنطقة. تحليل عينات سمكية من محيط شركة السكر بإشراف د. عمرو عادل الباحث بشعبة الأسماك فى كلية العلوم جامعة القاهرة، أظهر ارتفاعا فى معدلات الحديد والسيانيد والفينول وبعض العناصر الثقيلة فى كبد وخياشيم وجلد الأسماك.

إلا أن تركيز هذه العناصر فى عضلات الأسماك، وهى الجزء المأكول منها، كان خطيرا للغاية، بحسب د. منى سعد زكى رئيس قسم الأحياء المائية بالمركز القومى للبحوث. وتقول د. منى إن «وجود هذه العناصر بهذه النسب يؤدى إلى حدوث أورام سرطانية متقدمة فى الكلى والكبد وإصابة المواطنين بأنيميا حادة وتشوه الأجنة وتخلف عقلى عند الأطفال، وذلك من خلال تناول هذه الأسماك لمدة تتراوح من ثلاث إلى خمس سنوات بشكل منتظم»، وذلك وفق المعايير القياسية لمنظمة الفاو.

فى موازاة ذلك، أظهر تحليل مياه الشرب فى منزل الشيخ حسن حداد الملاصق لمحطة معالجة المياه، ارتفاع الفينول ١٠ مرات عن النسبة التى حددتها وزارة الصحة وفق القرار رقم ٤٥٨ لعام ٢٠٠٧. وبالمثل عنصر النيكل الذى جاءت نسبته ضعف النسبة المحددة مرة ونصفا. مسؤول فى محطة مياه الشرب، رفض الإفصاح عن هويته، أسرّ لكاتبى التحقيق أن المحطة غير مجهزة بمرشحات الفينول والعناصر الثقيلة والزيوت، بل تقتصر أدواتها على الكلور والشبّة.

د. مجدى علام رئيس الاتحاد العربى للبيئة وعضو لجنة الصحة بمجلس الشعب، يدعو رئيس المجلس المحلى فى الحوامدية إلى مقاضاة شركة السكر بالاتكاء على نتائح التحقيق الاستقصائى التى توصلت إليها «المصرى اليوم». ويطالب علام بإلزام الشركة بتركيب وحدة لمعالجة الفينول ودفع تعويضات للمتضررين.

«فارتفاع نسبة الأكسجين الممتص كيمائيا فى ماء النيل هو نتاج مخلفات عضوية لصناعات السكر يفرز باتحاده مع الكلور فى محطات الشرب مواد مسرطنة»، بحسب د. علام مستشهدا بتقرير أصدره البنك الدولى أخيرا يرصد فيه خسائر مصر من جراء أمراض تلوث المياه بثلاثة مليارات ونصف المليار دولار وهو مايعادل ١٩ مليار جنيه مصرى. ووصف ممارسات شركة السكر، التى تأسست عام ١٨٨١، بأنها «إضرار بالأمن قومى»، لافتا إلى أن المسؤول عن إصدار وتجديد تراخيص هذه المنشآت- بعد تحليل عينات الصرف الناجمة عنها بشكل دورى- هو وزارة الصحة.

المادة ٣ من القانون ٤٨ لسنة ١٩٨٢ الخاصة بحماية نهر النيل، تلزم أجهزة وزارة الصحة بإجراء تحاليل دورية لعينات من المخلفات السائلة من المنشآت المسموح لها بالصرف على النهر، لذا فإن الخطوة الأهم الآن تكمن فى الحصول على رد من وزارة الصحة حيال هذه الاتهامات، بخاصة بعد أن علمنا أن لديها دراسة غير منشورة حول أعداد مرضى الفشل الكلوى فى مصر وتوزيعهم الجغرافى.

لكن بعد الحصول على تصريح رسمى من الوزارة لتسهيل المهمة، امتنع د.هشام شيحة، رئيس قطاع الطب العلاجى عن إجراء المقابلة، رافضا التعليق على دور الوزارة وتسليم الدراسة والكشف عن محتواها.

الزيارة الثانية لوزارة البيئة اختلفت هذه المرة. فلم تنف رئيس جهاز شؤون البيئة الدكتورة مواهب عبدالرحمن وجود مخالفات «جسيمة» فى شركة سكر الحوامدية تم تحرير محاضر لها خلال السنوات الأخيرة، آخرها محضر رقم ٥٤٧٩ فى يوليو الماضى، بعد تحليل عينات من المصنع، يتهم إدارة الشركة بالصرف المخالف والتخلص غير الآمن من المخلفات الخطرة على جسم النهر.

فيما بدا الدكتور على أبوسديرة، رئيس الإدارة المركزية للفروع بوزارة البيئة أكثر تعاونا الآن، إذ أطلعنا على نتائج التحاليل التى أجريت فى معامل الوزارة والتى أضافت إلى نتائج تلك التى أجريناها بمركز التحاليل الدقيقة احتواء الصرف الصناعى لشركة السكر على عنصر الكادميوم، وهو ما أثار غموضا وتساؤلات حول مصدره.

يرى أبوسديرة، وهو مهندس كيميائى، أن السيانيد والكادميوم- مادتان شديدتا السمية- لا ينتجان إلا من خلال عمليات الطلاء الكهربى، وهو أمر مستبعد فى شركة للصناعات الغذائية. إلا أن الزيارة الميدانية للشركة أكدت وجود ورشة للطلاء فى مصنع الآلات والمعدات التابع لشركة السكر، وهو ما يفسر وجود هذه المواد السامة بتركيز عال فى مياه الصرف وفى أعضاء الأسماك فى هذه المنطقة من النيل.

حتى تكتمل الصورة كان لابد من عرض وجهة نظر شركة السكر. رئيس مجلس إدارتها المهندس حسن كامل نفى تصريف أى مواد مخالفة فى نهر النيل، مؤكدا أن ما يتم ضخه هو مياه تستخدم فى التبريد. كما أوضح أن وزارة الصحة تجرى تحاليل دورية لتلك المياه ولم تثبت وجود أى مخالفات.

وبمراجعة قانون البيئة المعدل لعام ٢٠٠٩، تبين أن المادة ٨٩ تنص على معاقبة من يقوم بإلقاء صرف مخالف فى مجرى النهر بغرامة لا تزيد على مائتى ألف جنيه أو مايعادل ٣٦ ألف دولار. وفى حال تكرار المخالفة تتحول العقوبة إلى الحبس.

وبسؤال مدير الشركة عن المخالفات التى رصدتها وزارة البيئة، أجاب بأنه لم يتلق أى إخطار قانونى بهذا الشأن. وبمواجهته بنتائج التحاليل، قال إنه لا يعرف من أين تأتى هذه العناصر، لافتا إلى أنه يقضى غالبية وقته فى مقر الشركة بالحوامدية، حيث يشرب من مياه الصنبور هناك. وخلص إلى الاستدراك: «ولكن من محطة الشرب بتاعة الشركة.. إحنا لنا طبعا محطة معالجة خاصة بينا، وأنا استلمت الشركة بيها ولم أنشئها، وبالتالى لم أجرب المياه التى يشربها مواطنو المدينة».

أربعة أشهر استغرقها إتمام هذا التحقيق. لم يتوقف الشيخ حسن خلالها عن السؤال على مستجدات الأمور. نسأله: هل شعرت باليأس؟ فيجيب متحفزا: «لا.. بس نفسى أعرف ذنب ولادى فى رقبة مين». يتمنى لو يتمكن من إجراء زراعة كلية لواحد من أبنائه، وهو يخشى أن يموتوا واحدا تلو الآخر أمام عينيه. يريد واحدا صحيحا يرعى الباقين، فهو لا يملك إلا معاشه، ودعوات أم مكلومة لم تجف دموعها حتى الآن.

– تم إنجاز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية «أريج» www.arij.net وبإشراف الزميل عمرو كحكى


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *