حرائق متجددة.. محطات عشوائية لتعبئة الغاز تحصد أرواح اليمنيين

2 أغسطس 2017

تحقيق: محمد الناصر

صنعاء (العربي الجديد)- بين حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وشبهات فساد تقتل من لم يقتلهم القصف أو الجوع أو وباء الكوليرا، تزداد معاناة اليمنيين يوما بعد يوم جراء الحرائق الناتجة عن محطات الغاز المخالفة لمصالح متنفذين. فلا مغيث لهم، إن استغاثوا، ولا حياة لمن تنادي.ربما لم يخطر في بال عبد الرحمن خالد المطري، 22 عاما، أن حريقًا سيلتهم جسده النحيل، جراء اشتعال محطة تعبئة الغاز التي يعمل بها في حي مسيك في أمانة العاصمة صنعاء في يناير من العام الحالي.

يتحدث مهدي المطري، عم عبدالرحمن، بحسرة عن الحادثة وأسبابها: “الحريق نتج عن تشغيل مولد الكهرباء أثناء تسرب الغاز، ما أدى إلى حدوث حريق داخل المحطة”. ويضيف: “عدم الخبرة وانعدام وسائل الأمن والسلامة كانا سببين لعدم إخماد الحريق في بدايته”.

وتتكرر هذه الحوادث بالصورة نفسها، في تلك المحطات المتخصصة في تعبئة الغاز المنزلي وغاز السيارات. يحدث ذلك بالمخالفة لقوانين الصحة والسلامة وسط ضعف رقابة وإهمال من قبل أجهزة الدولة، ممثلة بشركة الغاز وأمانة العاصمة وأجهزتها الأمنية، إذ وثق هذا التحقيق عشرة حوادث مشابهة خلال العامين الماضيين، من بينها حادثة احتراق منزل من ثلاثة طوابق في حي شيراتون في أمانة العاصمة في آذار/ مارس الماضي.

أنقذ الجيران سكان المنزل المكون من ١٤ فردا بأعجوبة وبحسب عبدالله الحداء أن البناء كان ملتصقا بمحطة تعبئة غاز مخالفة، مستخدمين أساليب بدائية مثل إطفاء الحريق بالمياه من خزانات الشرب، أو باستخدام التراب.

وفي حارة الصياح في أمانة العاصمة صنعاء، احترق منزل حمود سنهوب في فبراير الماضي والمكون من أربعة طوابق بالكامل بسبب التصاقه بمحطة تعبئة غاز مخالفة. يقول سنهوب إن مالك المحطة كان يستخدم ناقلة مياه لنقل الغاز السائل لتعبئة خزانات المحطة التي تقوم بتعبئة اسطوانات الغاز المنزلي وكذلك السيارات التي تعمل بالغاز. ويضيف: “انتشار هذه المحطات يتسبب في كوارث كبيرة، ونطالب الجهات المختصة بإزالتها تماما”.

أرقام مخيفة

ويكشف إحصاء أجرته الشركة اليمنية للغاز عن وجود 647 محطة تعبئة للغاز غير مرخصة، في مديريات أمانة العاصمة الاثني عشر والتي يعيش فيها 3 ملايين نسمة. ويقول المهندس عبد الرب آغا، عضو اللجنة التي أجرت الحصر أن:”العدد في ازدياد في ظل العشوائية الموجودة، وغياب أية آلية للرقابة، أو أدوات تساعد السلطات على الحد من انتشار تلك المحطات”.

في أمانة صنعاء وحدها قفز عدد تلك المحطات من 43 محطة عام 2015، إلى 600 محطة عام 2016، بحسب وثائق رسمية صادرة عن الشركة اليمنية للغاز.

وتكشف الوثائق أن مديرية السبعين تحتل المرتبة الأولى في عدد المحطات بنحو 145 محطة. وتؤدي نسبة الربح الكبيرة التي يجنيها أصحاب المحطات إلى زيادة انتشارها، إذ يشترون 20 لترا من الغاز الذي يعبىء في اسطوانات الغاز المنزلية بـ 1250 ريالا، ويبيعونها بـ 4300 ريال بحسب الشركة.

أحياء مهددة

تستعين محطات تعبئة الغاز بمولدات كهرباء لتواصل عملها بسبب انقطاع الكهرباء منذ بداية الحرب، الأمر الذي يزيد من احتمالات نشوب حرائق.

وتضاعفت حالات الحروق بسبب حوادث محطات الغاز، وفقا للدكتور صالح الحيضاني، مدير مركز الحروق والتجميل بمستشفى الجمهوري بصنعاء، وهو المركز الحكومي الوحيد للحروق في صنعاء.

يقول الحيضاني: “حالات حروق الغاز تمثل 70% من إجمالي حالات الحروق التي يستقبلها المركز”. ويصف الحيضاني بأن هذه المحطات عبارة عن “قنابل موقوتة”، تنتج عن حوادثها ما يوصف علميا بأنه “حروق كاملة”.

وثق معد التحقيق شكاوى لمواطنين، وهو ما أكده المهندس عبدالرب آغا المهندس، مهندس في الإدارة الفنية بشركة الغاز: “نتلقى شكاوى بشكل شبه يومي من إنشاء محطات تعبئة الغاز بجوار منازل أو محلات تجارية”. ويتم احالة تلك الشكاوى لأمانة العاصمة التي ألقت باللوم على الجهات الأمنية.

من جهته يعزو العقيد الركن عبدالكريم محمد البخيتي مدير عام الدفاع المدني بأمانة العاصمة ضعف دوره في الحد من إنتشار تلك المحطات إلى “عدم توافر الإمكانيات بسبب الحرب”.

ذهب علي صالح ثابت (42 عاما)، لتقديم شكوى من إنشاء محطة تعبئة غاز مخالفة، ويقول: “نعلم أن شكوانا لن يتم البت فيها، لكننا نحاول إيقاف الضرر. كيف يعقل إنشاء محطة غاز بجوار مركز لبيع الأخشاب، وبجوار مدرسة للأطفال؟ نخاف من حدوث كارثة على حارة السلام بأكملها في حال نشوب حريق في المحطة”.

وأجرى معد التحقيق معاينة شملت 180 محطة تعبئة غاز مخالفة، اختيرت عشوائيا في شيراتون، الصافية، باب اليمن، شارع تعز، شميلة، مسيك، مذبح، الستين، الجامعة والحصبة. وأظهرت المعاينة أن 98% من تلك المحطات لا توجد فيها طفاية حريق، وأن 100% من المحطات لا يرتدي العاملون فيها الملابس المخصصة للعاملين كالخوذة والقفازات ونوعية الملابس الواقية للجسم المصنوعة من الاسبستوس.

وفقا للعقيد البخيتي فإنه منذ 2014: “أصبحنا لا ندخل أي حي إلا نجد فيه محطة أو محطتين للغاز. وتتمثل خطورتها في كون أغلبيتها جزءًا من بيوت سكنية وبعضها للأسف ملتصق بجدران مدارس”.

ويؤكد البخيتي على تزايد الحرائق في هذه المحطات، ما أدى إلى سقوط ضحايا وحدوث خسائر مادية، ويقول: “معظم تلك الحرائق كانت تحدث في أنابيب التوصيلات الخاصة بالمحطات، ولو وصلت الحرائق لخزانات الغاز فيمكن أن يختفي حي بأكمله لا سمح الله”.

مخالفة علنية

يحدد القرار الجمهوري رقم (80) لسنة 1993 مسؤولية الشركة اليمنية للغاز في منح التراخيص لانشاء محطات تعبئة الغاز. ويضع أنظمة الأمن الصناعي والسلامة المهنية والنظم الخاصة بحماية البيئة وتنفيذ برامج التفتيش الميداني لمنشآت الغاز للتأكد من تطبيق تلك الأنظمة.

واطلع معد التحقيق على إجراءات حددتها الشركة لمنح تراخيص إنشاء محطات تعبئة الغاز. تتلقى الشركة طلب الترخيص، وترسل فريقا فنيا وتجاريا لمعاينة موقع الإنشاء، وترفع تقريرًا بقبول أو رفض الموقع، ثم تكلف فريقا فنيا وتجاريا آخر للتأكد من اكتمال أعمال التركيبات في المحطة ويقيمها فنيًا. ويرفع الفريق تقريرا ثالثا يغطي كل المتطلبات الفنية ويؤكد على توافر أدوات الأمن الصناعي والسلامة المهنية. ولكن هذه الإجراءات تبقى حبرا على ورق بحسب الشركة.

ما رصده معد التحقيق يؤكده مدير إدارة التفتيش الفني بالشركة اليمنية للغاز المهندس الشريف عبود: “لم نمنح تراخيص لأي محطة منذ ٢٠١٤، وانتشارها مخالف للقوانين، كونها لا تخضع للمواصفات والمقاييس الفنية التي تحددها الشركة”.

ويقول: “يمنع منعا باتا إنشاء أي محطة في أي منطقة مأهولة بالسكان، بينما الآن نجد الكثير منها وسط الأحياء السكنية وهذه كارثة”. ويبدو أن كل جهة حكومية تلقي بكرة اللهب في مرمى الجهة الأخرى. إذ يجيب المهندس الشريف عبود على سؤال حول سبب عدم قيام الشركة بإزالة تلك المخالفات، بقوله: “نحن نرفع تلك المخالفات أولا بأول إلى أمانة العاصمة وهي الجهة المسئولة عن إزالة تلك المخالفات بموجب اتفاقنا معها”. لكن الأمانة تلقي بالمسؤلية على الدفاع المدني، والدفاع المدني يشكو من نقص الإمكانيات بسبب الحرب، وهكذا تدور الدائرة.

أزمات متلاحقة

وتشهد صنعاء أزمات متلاحقة في المشتقات النفطية، ما أدى إلى حدوث ارتفاع كبير في أسعارها، وظهور العديد من رجال الأعمال المنتفعين في هذا المجال.

يقول المهندس عبدالسلام الجرادي مدير عام الأشغال في أمانة العاصمة صنعاء: “حاولنا جاهدين متابعة الأمر مع شركة الغاز لكن الموضوع للأسف يفوق قدرتنا، لأن الجانب الأمني التنفيذي غير متوافر بالشكل المطلوب. لدينا مخالفات ولو وجهنا بإزالتها لا نجد أي دعم أمني لتنفيذ الإزالة”.

ويضيف: “هناك قضايا في النيابة بخصوص تلك المحطات، لكن النيابة تردها بحجة أننا، كمكتب أشغال، لسنا جهة اختصاص، وأن جهة الاختصاص هي شركة الغاز”.

ولا تقوم النيابة بتسجيل القضايا بل تعيدها إلى شركة الغاز والتي تحولها إلى أمانة العاصمة.

ويؤكد الجرادي أن أمانة العاصمة أرسلت كتابا إلى وزارة الداخلية أخلت فيه مسؤوليتها. ويقول: “شركة الغاز لم تستطع إدارة الأزمات المتلاحقة. ونحن في أمانة العاصمة نسعى بكل ما نستطيع لتوفير الغاز، كون المتضرر الأول والأخير هو المواطن”.

ويعترف الجرادي بعجز الأمانة عن الحد من انتشار هذه المحطات: “نحن كقيادة للأمانة في هذه المرحلة لا نستطيع منع انتشارها ولا توجد لدينا بدائل في ظل وضع البلد. وإن عملنا على منعها فنحن نفاقم الوضع على المواطن ونرفع من سعر الغاز. خطورة المحطات أصبحت تفوق قدرة أمانة العاصمة على إيقاف انتشارها”.

أرباح خيالية

تشهد أسعار الغاز ارتفاعا مستمرا في الفترة الأخيرة. وارتفع سعر الأسطوانة سعة 20 لترا من 1200 ريال (4.8 دولارا) إلى 4300 ريال (17.2 دولارا)، خلال العامين الماضيين.

وتبلغ تكاليف إنشاء هذه المحطات المخالفة نحو 10 ملايين ريال يمني (40 ألف دولار)، حسب مسؤول في وزارة النفط اليمنية.

وقال المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه بسبب اعتبارات النزاع المسلح في اليمن، واحتمالات خطورة ذلك عليه: “هناك شخصيات نافذة سعت لتقليص صلاحيات شركة الغاز، وسعت لانتشار تلك المحطات بهذا الشكل العشوائي.هناك شخصيات تملك حوالي 150 محطة”. وأضاف: “هؤلاء يعرقلون إزالة المحطات، لأنهم يجنون منها أرباحا هائلة”.

ما السبب؟ يجيب البخيتي: “هناك قوى تدعم وجود مثل هذه المحطات لاستفادتها الكبيرة منها. لكننا في الدفاع المدني نحرص على عدم منح أي موافقة لأن هناك مخاطر كبيرة لهذه المحطات”. ويضيف: “يوجد مستفيدون كبار، لا تهمهم سوى مصلحتهم، ويسعون لتحقيق مكاسب شخصية، وهؤلاء يعرقلون خطط قيادة الأمانة والداخلية لإزالة ولو بعض المحطات التي تشكل خطورة كبيرة على السكان”.

أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية “أريج” وبإشراف الزميل محمد الكوماني.


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *