روائح الجثث المتعفنة تخترق المنازل في قرى المنيا

9 نوفمبر 2013

لم يكن للقرية جبانة فخصصت لهم الحكومة قبل نحو 100عام مساحة من الأرض لبناء المقابر لهم ولسكان القرى المجاورة مثل دماريس وأبوسويلم وأبوفيليو وكذلك مدينة المنيا التى لا تبعد أكثر من 5 كيلومترات.

وقتها شعر السكان بالراحة لأنهم سيدفنون موتاهم قريبا منهم. ويزيد عدد سكان مدينة المنيا والقرى المجاورة التى تدفن موتاها فى جبانة زاوية سلطان على 400 ألف نسمة.

ثم ظلت المقابر تزداد أعدادها حتى بدأت تلتهم المساكن واحدا بعد الآخر لتتحول المنازل إلى «أحواش» لدفن الموتى.

يصف إسماعيل فيض الله، الموجه بالتربية والتعليم، الوضع شبه اليومى الذى يعيشه سكان زاوية سلطان قائلا «الجنائز الوافدة بجثامين الموتى من مدينة المنيا وبعض القرى التى لا تضم جبانات، لا تنقطع ليلا ونهارا، وأطفالنا ينزعجون من أصوات الصراخ والبكاء والعويل فشبح الموت أصبح يطاردهم فى اليقظة والمنام حتى أصبحوا يعانون صراعا نفسيا ويسألون كثيرا عن الموت».

ويقول الأهالى إن حوالى نصف سكان القرية البالغ عددهم 27 ألف نسمة هجروا منازلهم على الضفة الشرقية وعبر بعضهم إلى الضفة الغربية حيث الأراضى الزراعية؛ ليبنوا عليها مساكنهم بصورة غير قانونية، حيث إن البناء هناك يمثل تعدياً على الأراضى الزراعية. وتظهر إحصاءات الوحدة المحلية أن مساحة الأراضى الزراعية الخصبة الواقعة فى زمام قرية زاوية سلطان على الضفة الغربية تقلصت من 80 فداناً إلى 30 فداناً على أقصى تقدير خلال أقل من 10 سنوات بسبب بناء المنازل عليها. أما المقابر فزاد عددها بمرور السنين حتى وصل عددها إلى نحو 5000 مقبرة مقابل ما لا يزيد على 2600 منزل فى قرية زاوية سلطان تحت سفح الجبل على الضفة الشرقية. يصف المزارع محمود شحاتة، البالغ من العمر 72 سنة، الحال فى بلدته قبل 50 عاما قائلا «كان معظم الأهالى يعيشون على الضفة الشرقية بجوار المقابر، وكان عدد المقابر قليلاً ومساحتها محدودة. ولكن كل عام تزداد المساحة التى يتم بناء القبور عليها.. فبعد أن كان بناء المقابر يتم أسفل سفح الجبل بدأ بعض أهالى القرى المجاورة يشترون مساحات فضاء تجاور المنازل لبناء قبور عليها».

ورغم تذمر الأهالى، فإن المقابر الجديدة تقام «بالتراضى» بين الأهالى. وحتى لو تقدم أحد بشكوى -بلغ عدد الشكاوى خلال العامين الماضيين 26 شكوى فقط- يتم تحرير محضر للإزالة الفورية ولكن الشرطة لا تقوم بواجبها المتمثل فى حماية موظفى الوحدة المحلية عند التنفيذ متذرعة بـ«الدواعى الأمنية». وتساءل معمر يحيى، وهو محام ومن سكان القرية، كيف يتم بناء المساكن على الأرض الزراعية بالمخالفة للقانون قائلا إن المساكن تقام بدون ترخيص ولو أحيلت بعض الحالات إلى القضاء فغالبا ما يحصل صاحب المنزل على حكم بالبراءة وحتى لو صدر حكم بالإزالة لا تستطيع الشرطة تنفيذ الحكم «للدواعى الأمنية» وهى العبارة التى تستخدمها الشرطة للإشارة إلى مخاوف من وقوع اشتباكات مع الأهالى عند الإزالة. ويضيف «يحيى» أن هذه «الدواعى الأمنية» ازدادت بعد ثورة يناير ما شجع على انتشار هذه الممارسات بسبب عدم الردع وأصبحت تمثل ظاهرة اتخذت شكلا جماعيا.

المقابرالتهمت 90٪ من أراضى القرية الزراعية

وأدى التوسع المستمر فى منطقة المقابر، كما يقول ربيع عبدالرحمن حسن، وهو حارس بمنطقة الآثار القبطية والإسلامية القريبة ويقيم بالقرية، إلى انتشار الحيوانات المفترسة والكلاب الضالة وأصبحت مأوى آمناً للصوص والبلطجية فى ظل غياب الوجود الأمنى والحراسة الكافية حيث لا يتوفر سوى حارس واحد لمنطقة الجبانات بأسرها.

وأصبح سكان زاوية سلطان يبحثون عن موطن جديد لهم بعيدا عن الأموات الذين تشغل مقابرهم مساحة 70 فدانا تقريبا حسب تقديرات يحيى المحامى. يقول يحيى «نبحث عن قرية جديدة لنعيش فيها حياة آدمية، فبلدتنا احتلها الأموات».

ورغم ذلك فالقرية تقع على الخريطة السياحية لمصر؛ إذ كانت عاصمة أحد أقاليم مصر القديمة وهى قريبة من عدد من الآثار الفرعونية من بينها بقايا هرم وجبانة قديمة تعود إلى الأسرة الفرعونية السادسة.

ويشكو الأهالى من انبعاث الروائح الكريهة نتيجة تعفن الجثث وتحللها بعد ساعات من دفنها ويؤكدون أن بعض القبور تُغلق بأبواب حديدية تتسرب منها الروائح، وذلك على خلاف المعتاد فى القبور فى مصر حيث يُردم مدخلها بالتراب وقطع الأحجار الضخمة بما يمنع تسرب أى روائح. ونتيجة لعدم إغلاق أبواب المقابر بإحكام تنتشر أيضاً القوارض والحشرات كالذباب والبعوض.

يقول يحيى المحامى: «يتأذى السكان من الروائح الكريهة نتيجة تعفن الجثث».

وتدخل خالد رشاد، الذى يعمل بقالا فى القرية، فى الحديث قائلا «الروائح الكريهة تنتشر مع الريح فتدخل البيوت فيهجرها السكان.. ولم نعد نستطيع النوم ولا الجلوس فى بيوتنا التى تتعرض لغزو الحشرات خاصة فى شهور الصيف وهى تأتى من ناحية المقابر التى لا تغلق بإحكام».

ويوضح الدكتور رضا إبراهيم، وهو مدير وحدة صحية بالمنيا، أن الجثة تبقى فى حالة تحلل لمدة 45 يوما على الأقل، محذرا من انتشار البكتيريا «اللاهوائية» فى مساحة تصل إلى نصف كيلو حول منطقة الدفن. وأضاف «هذه البكتيريا تساعد على تحلل الجثة وهى ضارة جدا بالبشر إذ يمكن أن تتسبب فى الإصابة بأمراض تنفسية خطيرة». 

الوحدة المحلية تكتفى بتحرير محاضر مخالفة بناء المقابر.. والشرطة تتجاهل تنفيذ الإزالة لـ«دواعٍ أمنية»

ويقول جمال حسن محمد، رئيس الوحدة المحلية لقرية نزلة حسين التى تتبعها قرية زاوية سلطان «هناك إجراءات صارمة يتم اتخاذها فى حالة إنشاء مقابر جديدة.. ومنها إصدار قرارات إزالة فورية وتحرير محاضر لدى الشرطة». لكن دور الوحدة المحلية يقتصر فى الواقع على تحرير محضر إثبات حالة بواقعة البناء وإرسال نسخة من المحضر إلى قسم الشرطة والنيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية وإزالة المخالفة.

وينص قانون الجبانات الصادر عام 1960 على إزالة المقبرة التى تقام بدون ترخيص، غير أن خبراء قانونيين يؤكدون أن المسئولين بالإدارة المختصة بالإزالة لا يستطيعون هدم مقبرة مدفون بها جثمان وذلك لأن القانون ينص على معاقبتهم؛ ولذلك يستغل أصحاب المقابر هذه الثغرة ويقومون بتعليق لافتة تشير إلى دفن جثمان فى المقبرة فلا يستطيع المسئولون هدمها. فمن الناحية العملية لا يستطيع المسئول إزالة المقبرة التى تُقام بدون ترخيص إلا أثناء بنائها وهو ما يجرى تحت جنح الظلام كما يؤكد أهالى القرية. ويؤكد رئيس الوحدة المحلية أنه تم تخصيص قطعة أرض فى الصحراء لبناء جبانات للقرى والمدن التى ليست لها مقابر، بما فى ذلك مدينة المنيا، وأن ذلك سيحل مشكلة زاوية سلطان. 

قبر داخل منازل القرية

لكن أهالى زاوية سلطان يؤكدون أن هذه المساحة المخصصة لم تمنع زحف المقابر على قريتهم. ويقول موجه وزارة التربية والتعليم «فيض الله» إن الأرض الجديدة المخصصة للجبانات تبعد عن مدينة المنيا حوالى 60 كيلومترا وهى بعيدة تماما عن الكتلة السكانية ولذلك لا يوجد إقبال عليها حيث يفضل الأهالى دفن موتاهم قرب الكتلة السكنية.

يرسم الموجه التعليمى «فيض الله» الصورة القاتمة لقريته قائلا «لا يستطيع أحد هنا أن يفرق بين منازل الأحياء وأحواش الأموات، فالحياة هنا بطعم الموت. والفاصل الوحيد بين الحى والميت حائط مشترك».

تم إعداد هذا التقرير الإخبارى بدعم شبكة أريج ضمن برنامج تدعيم الإعلام لتغطية قضايا الإدارة العامة فى المحافظات.


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *