أمراض جهاز التنفّس أصبحت ثالث مسبب للوفيات في دمشق

3 ديسمبر 2007

تحقيق: ظافر أحمد

تشرين – مازن العلبي لم يتجاوز عمره ال25عاماً يقضي معظم وقته في سوق مدحت باشا المعروف بهوائه شديد التلوّث وسط دمشق القديمة أصبحت المضادات الحيوية من العيار الكبير مرافقه له نتيجة معاناته من التهابات صدرية والتهاب اللوزات.

كذلك حال جيرانه في السوق عبد الرزّاق صباغ وياسين العلبي وأنور الشامي..وآخرون يعانون من التهابات متكررة في الجهاز التنفسي، حيث سجّلت قياسات التلوّث بالعوالق(الجزيئات الناجمة عن دخان السيارات والأنشطة السكانية والصناعية والتجارية..) حوالى 11ضعف المسموح به عالمياً.

وتكتمل طبقة من الغبار وهباب الفحم على وجوهم مع نهاية دوامهم في السّوق، بما يكشف التلوّث الشديد للهواء الذي يتنفسونه، وسبق إجراء مسحٍ صحيٍ في شارع (مدحت باشا) عام 1999 شمل 120 شخصاً وتمّ تسجيل 38شكوى التهاب قصبات مزمن، و25 التهاب قصبات تحسسي، و3 تليّف رئوي، وأربع ربو، 13 سعال مزمن، 9 التهاب طرق تنفسية علوية، و6التهاب جيوب..

ويستغرب الكثير من تجّار شارع مدحت باشا المصابين بأمراض الجهاز التنفسي تحذير الأطباء لهم من التدخين خلال ترددهم المكثّف على عياداتهم، فيؤكدون أنّهم لا يدخنون، بل ينتمون إلى سوق معروف بتلوّثه ودخان سياراته.!

هذا حال سوق من أسواق دمشق، فكيف حال العاصمة التي يقطنها ثلث سكان سورية، “حيث تلعب سياراتها دوراً رئيسيّا في زيادة الغازات الملوثة للهواء” كما أكدت الاستراتيجية وخطة العمل البيئية، التي أعدتها وزارة الإدارة المحلية والبيئة عام2003بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبنك الدولي؟.

وحسب سجلات مديرية النقل 20%من سيارات دمشق تتجاوز أعمارها 17عاماً، وتستعمل وقوداً دون المواصفات العالمية وبملوّثات مرتفعة، حسب وزارتي (النفط) و(الإدارة المحلية والبيئة).

ويكشف تحقيق (تشرين) أنّ أمراض جهاز التنفّس التي كانت السبب الرئيسي الرابع للوفاة في دمشق عام 2000 زادت مخاطرها، وأصبحت تشغل السبب الثالث للوفاة في العام 2006، مع وجود مؤشرات عديدة عن علاقة هذه الأمراض بتلوّث هواء دمشق، وأوّلها نموذج تجّار سوق مدحت باشا..

قياسات التلوّث للأرشفة؟!

لن يتحسن الوضع البيئي “قبل تحسين مواصفات المازوت والبنزين، والانتقال إلى الوقود الغازي في النقل وتطوير نظم المرور وإحلال منظومة النقل العام مكان الأنظمة الفردية الحالية، ووضع اشتراطات بيئية لاستيراد السيارات..”، بحسب الاستراتيجية وخطة العمل البيئية وخبراء البيئة والأطباء الذين التقتهم تشرين.

وحسب الهيئة العامة لشؤون البيئة، فإن “عمليات قياس التلوث غير دائمة وتجري بفترات متباعدة، ريثما يتمّ تشغيل شبكات رصد مستمر لنوعية الهواء، ويتوقّع تركيبها في دمشق التي هي من المحافظات الأشدّ تلوّثاً نهاية العام الحالي2007، وتشمل أربع محطّات رصد في أربع مواقع من المحافظة”.

واعتمدت وزارة الإدارة المحلية والبيئة بيانات من دراسة نفّذها مركز الدراسات البيئية حول ملوثات الهواء في مدينة دمشق خلال(2001-2004-2005). وحددت المتوسط الكلي للتلوّث بالعوالق في ثلاث مواقع بدمشق، هي ساحة باب توما، ساحة البرامكة، التجارة بجوار مدرسة بسام حمشو، خلال سنوات القياس بما يتجاوز ضعفي المسموح به عالمياً.

وسبق ذلك قيام بعض المؤسسات العلمية والبحثية (مركز الدراسات والبحوث العلمية ومركز الدراسات والبحوث البيئية وهيئة الطاقة الذرية، ووزارة الدولة لشؤون البيئة والباحث البيئي الدكتور محمّد العودات، وآخرون..)، بإجراء قياسات أكثر تفصيلاً في فترات متقطعة مابين 1989و2001. وأشارت القياسات إلى تدني نوعية هواء دمشق، إذ بلغ تركيز العوالق الكلية أربعة أضعاف المسموح به عالمياً. وبلغ تركيز العوالق ذات الأقطار الأقل من10ميكرون (صغيرة وخطيرة وقابلة للاستنشاق) 222 ميكروغرام/م3 بما يتجاوز ثلاثة أضعاف المسموح به عالمياً(70ميكروغرام/م3). وبلغ تركيز العوالق ذات الأقطار الأقل من 3ميكرون (شديدة الصغر والخطورة لأنّها تخترق الدفاعات التنفسية ويمكن وصولها إلى الحويصلات الرئوية) 115ميكروغرام/م3 بما يتجاوز7.5 ضعف المسموح به عالمياً (15ميكروغرام/م3).

ويمكن إيجاز بعض نتائج قياسات ملوّثات الهواء الأخرى (1989-2001) في دمشق وفق التالي: (ارتفاع قيم المتوسطات الساعية واليومية لثاني أكسيد الكبريت SO2 عن الحدود القياسية المسموح بها بمقدار الضعف- متوسط تركيز أوّل أكسيد الكربون ضعف المسموح به – تركيز الأوزون أعلى 2.5مرة من المعيار المسموح به عالميا -سجل تركيز أكاسيد الآزوت قيمة تفوق 1.5مرّة القيمة المسموح بها عالمياً.)

كافة الملوثات المذكورة معروفة لدى منظمة الصحة العالمية كأحد مسببات أمراض جهاز التنفس، وبعضها شديد الخطورة على الرئتين وتسبب الموت المبكر، (كالعوالق التي أقطارها أقل من 10و3ميكرون)..

كذلك تمّ تسجيل تراكيز مرتفعة للهيدروكربونات الحلقية العطرية ذات الخصائص المسرطنة، والتي تنتج بشكل أساسي من عمليات احتراق الوقود غير الكامل في وسائط النقل، ويفوق تركيز أشهر تلك المركبات (البينزيرين) ب2.3مرّة المعايير العالمية.

أمّا بخصوص الضباب الدخاني الذي أصبح ظاهرة يومية في دمشق خلال فصل الصيف بسبب ارتفاع الحرارة فينجم -وفق الهيئة العامة لشؤون البيئة والباحث د.العودات ومراجع علمية منها تلوّث الهواء، لـ (د.نصر الحايك)- عن تفاعل الملوثات الأولية، وخاصة أكاسيد النتروجين مع الأكسجين بوجود الهيدروكربونات وثاني أكسيد الكبريت، تحت تأثير الأشعة فوق البنفسجية، وخاصة في ساعات الصباح الأولى. وتتكون نتيجة هذه التفاعلات مجموعة من الملوثات الخطيرة على الصحة وجهاز التنفّس، وهو –وفق د.العودات- “دليل صريح على زيادة الملوّثات في دمشق”.

ويأتي زحام السيارات كمصدر رئيسي لتلوّث هواء دمشق وفق وزارة الإدارة المحلية والبيئة. وإن ما يسير في شوارع العاصمة لا يقتصر على السيارات المسجلة فيها البالغة 278ألف سيارة حتّى تموّز 2007، وفق إحصائيات مديرية النقل. وتفيد التقديرات الرسمية أن ما يزيد عن خمسين ألف سيارة أخرى تدخل وتخرج دمشق من المحافظات كافة.

ويفرض الزحام حركة بطيئة جداً للسيارات وبالتالي- وفق المراجع العلمية منها (السيارة وتلوّث البيئة، د.علي مصطفى علاء الدين)- يسبب استهلاكاً أكثر للوقود وقذف ملوّثات أكثر. وحسب الهيئة العامة لشؤون البيئة فإنّ “ملوثات السيارات القديمة أضعاف ملوثات السيارات الحديثة بسبب رداءة محركاتها”.

وهكذا عندما تتكدّس العوالق بما يشبه “هباب الفحم” في أنف المواطن وعلى جبينه كالذي يحصل مع سكان دمشق القديمة يصبح هاجسه (الصحة والعافية) وسط زحام جعل اليوم الدمشقي “يوم الهمّ المروري”. فكيف يكون الوضع الصحي للسكان؟

التلوّث ووفيات مرضى جهاز التنفّس؟

وفق إحصاءات وزارة الصحة (العام 2006) فإنّ الوفيات الناجمة عن أمراض جهاز التنفّس تشغل المرتبة الرابعة ضمن قائمة الوفيات في القطر، بينما تشغل المرتبة الثالثة ضمن الوفيات في دمشق. وبلغ عدد الوفيات في سورية أكثر من 57ألف وفاة، 5.5%بسبب أمراض جهاز التنفس، في حين بلغت وفيات دمشق 13287وفاة في العام المذكور6% منها بسبب أمراض الجهاز التنفسي(تعادل حوالى800وفاة)، وكانت نسبة الوفيات بأمراض جهاز التنفّس 4.7% ضمن إجمالي وفيات دمشق عام2000.

إذاً خلال ستّ سنوات زادت نسبة الوفيات بأمراض جهاز التنفّس 1.3% ضمن وفيات دمشق، وهي تعادل (400وفاة جديدة) بأمراض جهاز التنفّس وفق الإحصاءات الرسمية.

كما يبلغ عدد مرضى الجهاز التنفسي في دمشق 4352مريض عام 2006 توفي منهم 800مريض، إذاً نسبة الوفيات في مرضى الجهاز التنفسي تتجاوز 18%، وهذا يوضّح خطورة الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي..

وحسب منظمة الصحة العالمية فإنّ “علاقة أمراض جهاز التنفّس وثيقة بتلوّث الهواء”. ويمكن التنبّه إلى زيادة مخاطر أمراض جهاز التنفّس في دمشق ما بين 2000-2006 بما يترافق مع زيادة بأعداد السيارات تبلغ خمسين ألف سيارة سنوياً، وفق مديرية النقل، وزيادة اختناقات المرور واستهلاك الوقود، وتوفّر مؤشرات تتمثّل بزيادة تلوّث دمشق، وزيادة الأمراض، وفق د.أديب دشّاش، أستاذ الطب المهني والبيئي، في جامعة دمشق لسنوات طويلة، أمين سر نقابة الأطباء حاليا. ويقول د. دشاش: “علمياً فإنّ 80%من أمراض جهاز التنفّس متعلقة بتلوّث الهواء، وكذلك 80%من سرطانات الرئة..”

وتقول الحكومة في خطتها الخمسية الحالية: “.. تشير دلائل كثيرة إلى تراجع الوضع الصحي في المناطق التي تعاني من التلوث والكثافة السكانية العالية”، وسبق أن اعتبرت دراسات لوزارة الصحة منذ 1995، أنّ إصابات الجهاز التنفسي في المناطق الملوثة في سورية، تفوق بثلاث أو أربع مرات عددها في المناطق النظيفة. كما اعتبرت (خطّة العمل البيئية2003) التلوث بالعوالق لوحده (قد يكون سبباً لوفاة أربعة آلاف مواطن سنوياً في سورية).

واعتبرت الهيئة العامة لشؤون البيئة مشكلة تلوّث الهواء بأنّها “تمثّل أولوية بيئية، والمؤشرات عليها زيادة الأمراض والوفيات المبكرة الناجمة عن الأمراض التنفسية..”.

ويشير بحث مشترك قام به الباحث د العودات من هيئة الطاقة الذرية، ود.عدنان غاتا (جامعة البعث) عام 2005 إلى دراسات (Anan and pan.2004) جرت في الصين اعتبرت التعرض غير المديد إلى زيادة قدرها 10 ميكروغرام/م3 من العوالق التنفسية، يؤدي إلى زيادة موت مرضى الجهاز التنفسي بمعدل 6 أشخاص لكل 1000 مريض. أما التعرض المديد فيزيد من الأمراض الصدرية بمعدل 3.1% عند البالغين و4.4% عند الأطفال). وقالوا بأنّ دراسة أخرى قام بها (Schneider,2004) اعتبرت أنّ التعرض المديد للعوالق التنفسية الصغيرة يخفض العمر المتوقع 2-3 سنوات..

وبدلالة المؤشرات السّابقة فإنّ أمراض جهاز التنفّس في دمشق خطر متفاقم، فما العبء الذي تشكله على خزينة الدولة؟

العبء “المجهول”؟!

لا يوجد لدى وزارة الصحة تصوّراً حول العبء المالي الذي تمثّله أمراض جهاز التنفّس ووفياتها في دمشق وباقي المحافظات، علماً أنّه لدى الوزارة مديرية خاصّة بالأمراض البيئية والمزمنة. وحسب د.فاديا معماري، رئيسة دائرة السل والأمراض التنفسية، يمكن الوصول إلى تصورات في هذا المجال في السنوات القادمة. أمّا د.عاطف الطويل، رئيس دائرة البيئة، فاعتبر معرفة العبء المالي تتطلّب برنامجاً خاصاً وخبرة في ترجمة المشاكل البيئية إلى أرقام مالية، وأنّه توجد مطالبة من أجل تأسيس برنامج تكلفة العبء المرضي ويحتاج ذلك إلى مساعدة أساسية من منظمة الصحة العالمية.

بادرت (تشرين) إلى وضع مؤشرات لتكلفة بعض الحالات الفردية من تلك الأمراض. فمثلاً المعالجة الشعاعية والكيميائية في حالة سرطان جهاز تنفسي لدى مشفى الأورام بدمشق تكلّف حوالى 200ألف ليرة سورية (4000دولار) للمريض الواحد، وهذا يعني أنّ مرضى أورام الجهاز التنفسي البالغين 125حالة عام2005 في دمشق، حسب السجل الوطني للسرطان، يكلّفون 25مليون ل.س شعاعياً وكيميائياً، دون ملاحظة النفقات العلاجية الأخرى، والإقامة في المشافي، والتعطّل عن العمل. وفي نموذج أحد الذين توفّوا نتيجة سرطان رئة فإنّ نفقاته خلال العلاج وحتّى الدفن تجاوزت المليوني ليرة سورية.

أحد الذين يتلقون العلاج الكيميائي حالياً وهو أب لأربع أطفال، يتحدّث عن معاناته منذ عام بسبب سرطان الرئة، وكلّفه العلاج حتّى الآن حوالى (ثلاثمئة ألف)ل.س، بسبب تعطّله عن العمل، ولولا العلاج شبه المجّاني الذي تقدّمه الدولة له لكان رفض أيّ علاج بسبب عدم قدرته على العلاج المأجور، ويقدّر النفقات التي تحمّلتها الدولة من علاجه حتّى الآن بحوالى(مئتي ألف ل.س).

أبو علي، المصاب (بالتهابات الرئة) يقدّر نفقات مرضه والأضرار المالية التي سببها له خلال ثلاث سنوات بأكثر من نصف مليون ل.س. إذ في كلّ مراجعة ومعاينة للطبيب (خمسمئة ل.س)، وفاتورة الدواء الواحدة لا تقل عن ألف ل.س. والإقامة في المشفى عندما تستدعي الحاجة تكلّفه أكثر من (30ألف ل.س) لخمسة أيّام فقط..

أبو نزار ترك عمله في دمشق نتيجة معاناته من الربو وعاد إلى ريف حمص الغربي حيث الهواء النظيف، وقال: الربو كلّفني ترك عملي الذي كان يؤمّن لي عائداً شهرياً لا يقلّ عن 25ألف ل.س..

إلى متى؟

يعتبر د.أكرم خوري، مدير عام الهيئة العامة لشؤون البيئة، أنّ وزارة الإدارة المحلية والبيئة تعمل على طرح الحلول واقتراح الإجراءات الكفيلة بتحسين نوعية الهواء التي يُفترض تنفيذها قبل نهاية عام2015، كما ورد في الاستراتيجية وخطّة العمل البيئية.

ويقول لتشرين: “إنّ مشكلة تلوّث الهواء تشترك في مسؤوليتها جهات متعددة ومهمّة معالجتها متشابكة وتحتاج إلى اشتراك شتّى الجهات بذلك وخاصة وزارة النفط تجاه تحسين الوقود، ووزارة النقل تجاه تطوير أنظمة المرور ..”.

وبانتظار إجراءات تحسين نوعية هواء دمشق، فإنّ كلّ ما يسبب التلوّث تقرّ الحكومة بزيادته (زحام وسيارات و استهلاك وقود..) بينما القياسات والبحوث قليلة والأمراض وفق إحصاءات وزارة الصحة متفاقمة.

ويبقى الهواء الصحي مطلب السكان فمتى يتحقق ذلك؟

هذا السؤال يزداد حرارة مع دموع (أم محمّد) وهي تراقب ابنها الذي يذوب وهو في ريعان شبابه يصارع داءً رئوياً مزمناً وضعه على حافة الموت، وتنقل الأمّ الحزينة عن ابنها أنّه كان يحلم بهواء نظيف في دمشق فلم يجده..

 

أنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج) www.arij.net


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *