أطباء في غزة يُخطئون ولا يُحاسَبون «1 من 2»

2 يناير 2012

من يشاهد ضحكات التوأم «شذى» و«ندى» صيدم، البالغتين من العمر سبع سنوات، وهما تلعبان في فناء منزلهما في قطاع غزة يظن أنهما تعيشان طفولة سعيدة، لكنه لا يدري أن هذه الضحكات تُخفي آلاماً كبيرة؛ رافقت الطفلتين منذ خمس سنوات، حُرمتا خلالها حنانِ أمهما منال، التي فارقت الحياة نتيجة خطأٍ طبي، أثناء إجراء عملية تنظيفاتٍ للرحم.

لا قانون للأخطاء الطبية

في اليوم السادس من أغسطس 2006 شعرت «منال»، التي كانت تبلغُ من العمرِ 32 عاماً بآلامٍ شديدةٍ في البطن، توجهت على إثرِها إلى مستشفى غير حكومي مختص بالولادة والعقم وأطفال الأنابيب، كانت تتلقى فيه العلاج في السابق، وبعد أن كشف طبيبها المعالج عن حالتها؛ تبين أن الجنين الذي تحمله لا ينبض بالحياة، ما يستدعي إجراء تنظيفاتِ للرحم، التي تُعَد عمليةً بسيطةً بالمقاييس المهنية الطبية، لكن سرعان ما تحولت إلى عملية خطرة، فخلال عملية التنظيف تسبب الطبيب في حدوثِ ثقبينِ في الرحمِ والأمعاءِ. وقد أقر بكتابٍ خطي للعائلة بأن ما حدث معه ثقب بالرحم؛ اضطره لفتح البطن وإجراء عملية جراحية، وعمل اللازم، وأبلغ العائلة أن الأمعاء الدقيقة سليمة، إلا أن تقريراً صدر عن مستشفى الشفاء بتاريخ 14/9/،2006 بعد أن نقلت إليه، يقر بأن الأمعاء أصيبت بأضرار بالغة أثناء عملية التنظيف.

بعد أن عجز الأطباء في غزة عن السيطرة على وضعها الخطر، خصوصاً بعد أن أصيبت بفشل التنفس، نتيجة ما يعرف طبياً بـ«الصدمة الجرثومية»، تم تحويلها إلى مستشفى سوروكا الإسرائيلي في مدينة بئر السبع داخل الأراضي المحتلة عام ،1948 وحاول الأطباء هناك علاج ما يمكن علاجُه، لكن التسمم انتشر في جميع أنحاء جسدها، جراء تهتك الأمعاء، لتفارق الحياة، تاركة آلاماً كبيرة، سترافق طفلتيها وعائلتها.

«جلّ من لا يُخطئ»، فالأخطاء والإهمال الطبي ظاهرتان لا تقتصران على بلد معين، فحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، فإن مريضاً واحداً من كل 10 مرضى في جميعِ أنحاء العالم يصاب بأضرارٍ أثناء تقديم خدمات العلاج والرعاية لهم، إلا أن مستشفيات قطاعِ غزةَ، الحكومية منها والخاصة، التي لا يتعدى عددها 10 مستشفيات؛ شهدت حالات من الأخطاء الطبية، تم توثيقها في تقارير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ووزارة الصحة الفلسطينية، في حين لا يوجد قانون ينظم علاقة الطبيب بالمريض، ويغطي الأخطاء الطبية.

ولا تقتصر المشكلة على عدم وجود قانون للأخطاء الطبية، بل إن القانون الفلسطيني غائب عن هذه المشكلة، خصوصاً أن قانون العقوبات الذي وضعه المندوب السامي لفلسطين عام 1936 لايزال مرجِعا للعقوبات في قطاع غزة، رغم تعاقب 13 حكومة فلسطينية منذ إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية عام ،1994 وبقي القانون معمولاً به في قطاع غزة، رغم خضوع قطاع غزة لحكم الإدارة المصرية، وللاحتلال الإسرائيلي.

ويرجع المحامي المحكّم عدنان أبوموسى، أسباب عدم تغيير هذا القانون الى عوامل عدة كما يقول«بعد قيام السلطة الفلسطينية عام 1994 تم طرح مشروع قانون العقوبات في المجلس التشريعي، وعرض للنقاش والمداولة، لكنه واجه معارضة كبيرة على بنود عدة من قبل التيارات الفكرية في فلسطين، الإسلامية منها والعلمانية واليسارية، إذ كان هناك من يريد صبغه بالصبغة الإسلامية، فيما فضل البعض أن يتم تخفيف العقوبات الخاصة بجرائم الشرف والأخلاق، وهذا ما أدى إلى تجميده، وكان ذلك في عام 1998». ويضيف: «بعد حدوث حال الانقسام الفلسطينية عام 2007 وحكم (حماس) لغزة لم ينعقد المجلس التشريعي بحضور جميع الكتل والأعضاء في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية، ولا يوجد توافق».

تناقض

توجهت عائلة منال بشكوى عاجلة إلى وزارة الصحة والنائبِ العام في قطاع غزة، لكن رد الوزارة اعتبر أن المستشفى الذي أجريتْ بداخله العملية مؤسسة غير حكومية، ولا تتبع للوزارة إدارياً .

رد الوزارة هذا يناقض قانونَ الصحة العامة الفلسطيني رقم 20 لعام ،2004 الذي ينص في المادةِ الثانيةِ منه على اختصاصِ وزارةِ الصحةِ بترخيصِ المؤسساتِ الصحيةِ غيرِ الحكومية ومراقبتِها.

مدير الدائرة القانونية في وزارة الصحة بغزة سليمان الغلبان، يؤكد هذا التناقض، ويشير إلى أن «وزارة الصحة هي التي تمنح التراخيص للمستشفيات الخاصة، وهي المكلفة الرقابة عليها، وهي تقر بهذه المسؤولية، وتقوم بهذا الدور».

لم ترْضَ العائلة بهذا الرد، وبعد وقوع الانقسام الفلسطيني عام ،2007 جددت الشكوى لدى النيابة العامة؛ بعد أن تبين أن ملف الشكوى غير موجود، وبقيت العائلة تنتظر رد الوزارة حتى يوليو عام ،2010 الذي أقر بوجود خطأ. لكنها جعلت السبب غامضاً، ولم تصدر أي مساءلة بحق الطبيب الذي أجرى لها العملية، إذ ذكرت الوزارة في الرد أن سبب الوفاة قد يكون ناتجاً عن خلل إداري فني في المستشفى، لكن الأمر لا يحسم إلا بتقرير الطب الشرعي.

وهنا يقول والد منال سعيد الترك، إن «رد وزارة الصحة لم يقدم لنا أي شيء، فهل يعقل أن يتم تشريح جثة ابنتي بعد أربع سنوات من وفاتها لمعرفة سبب الوفاة الذي أقرت به الوزارة؟».

وإن كانت وزارة الصحة قد جعلت سبب الوفاة والخطأ غامضين، إلا أن مصدراً فيها كشف لنا بصورة سِرية أن أحد الأطباء الذين استقبلوا منال صيدم في مستشفى الشفـاء بغـزة، أكـد أن مـا حـدث معها هـو من «أبشع الجرائم» التي عاصرها، حـسب قول المصدر.

مها والجرعة الزائدة

تعويض الضحايا كيف يكون إذا فقد الإنسان حياته، وحتى إن لم يفقدها؛؟ فلا شيء يمكن أن يعوِضَ مُصابَه، وهو ما حل بمها عطا الله أبوالصعاليك، التي توجهت إلى مجمع ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوب قطاعِ غزة يوم الحادي عشرَ من شهرِ أغسطس عام ،2010 وقبل أنْ تُجرَى لها الفحوص المِخبرية التي تسبق عملية الولادة القيصرية، أدخلت غرفة العمليات، وتلقت المخدر (البنج) عن طريق الوريدِ، لكن مفعوله كان ضعيفاً، فأُعطيتْ جرعة ثانية عن طريق الأنف بواسطة الكمامة (الماسك). تمّت عملية الولادة، ووضعت مها طفلتها «سما»، لكنها غابت عن الحياة، فسرعان ما تفاعلت جرعتا البنج، وتوقف قلبها، وفقدت الوعي، وتحول لون جسدها إلى الأزرق، فحاول الأطباء إجراء عملية إنعاشٍ للقلب؛ لكن من دون فائدة.

يقول والدها الذي كان حاضراً لحظة إجراء العملية «بعد أن تمت عملية الولادة أخرجت مها إلى الغرفة الخاصة بالنساء بعد الولادة، لكن الممرضة رفضت استقبالها وقالت إنها غير طبيعية، فتم تحويلها إلى غرفة العناية المركزة لمدة 72 ساعة لمتابعة حالتها».

ويضيف الوالد «عندما يئس الأطباء من حالتها؛ تم تحويلها بعد خمسة أيام إلى مستشفى (رابين هشارون) الإسرائيلي داخل الأراضي المحتلة عام ،1948 وهناك تبين عبر الفحوص وجود تلف شديد في الخلايا الدماغية لمها، جراء إعطائها كمية بنج زائدة على الحد المطلوب».

الأطباء عجزوا عن تقديم علاج لمها، وكيف لهم ذلك وقد بلغت حالتها مرحلة خطرة يصعُبُ تجاوزُها، ليكون الطريق مسدوداً أمام أي إجراءٍ آخَرَ؛ سوى تحويلِها إلى مستشفى الوفاء للتأهيل الطبيّ بغزة، في اليوم الأخير من أغسطس عام ،2010 في محاولة لرعايتها في ظل حالتها المستعصية، ومنذ ذلك التاريخ وهي ترقد وحيدةً في المستشفى في حال موت سريري تُعاني غيبوبة كاملة، وشلَلاً رباعياً حركياً، هذا عدا عن فقدانِها البصر، نتيجة تلف عصب الإبصارِ الذي نتجَ مصاحِباً لتلَفِ الدماغِ، كما تواجِهُ صعوبةً في التنفس، وهذا ما يؤكده مدير مستشفى الوفاء للتأهيل الطبي الطبيب حميد أبوموسى، «نحن نعتبرها حالة موت سريري، وإن كان القول قاسياً، لكن هذا الواقع، فهي لا تستطيع الحركة بشكل كامل، وتحتاج إلى رعاية كاملة ودائمة».

الطبيب الذي أجرى العملية لمها أبو صعاليك، رفض الحديث إلينا، لكن حجم الضرر الواقع على الضحية، والمتزايد في كل يوم، يرجح حدوث خللٍ ما أثناء إجراء العملية. ويكشف مدير مستشفى الوفاء أن سبب حدوث المضاعفات عند مها أبوصعاليك هو غياب الفريق المتكامل في الطوارئ، حيث يقول «بحكم خبرتي ومعرفتي في هذا المجال أستطيع أن أقول إن غياب الفريق العامل المتكامل صاحب الخبرة الكاملة في الطوارئ هو أحد أسباب حدوث مثل هذه الحالة، وغياب هذا الفريق يؤخر تقديم العمل الطبي في وقته».

نقابة الأطباء.. الدور الغائب

نقابة الأطباء الفلسطينيين كانت قد شكلت لجنة تقصي حقائق في الثامن والعشرين من يونيو 2006 حول شكوى عائلة الضحية منال الترك. وتمكنت اللجنة من الحصول على التقارير الخاصة بالقضية، لكن قبل أن تجتمع اللجنة لتحديد النتائج، لم تتمكن من متابعة الإجراءات اللازمة؛ بسبب أحداث الانقسام والاقتتال الفلسطيني الداخلي الذي حدث في قطاع غزة خلال تلك الفترة، كما يوضح أمين سر نقابة الأطباء البشريين في قطاع غزة جهاد العتال «في السابق كانت النقابة تستقبل شكوى المريض حول وجود خطأ أو إهمال طبي، وتعرض الشكوى على الطبيب الذي وجهت الشكوى ضده، وتنتظر رده، وعلى إثره تشكل لجنة التحقيق، التي تضم جميع التخصصات المتعلقة بحالة الشكوى، كما تحقق مع الطبيب وكل ما تتناوله القضية وتخرج بالنتائج».

ويضيف «لكن منذ حدوث حالة الانقسام عندما نرسل إلى المستشفى لتزويدنا بملف عن المريض الذي قدم الشكوى ترفض إدارته التعامل معنا. كما أن وزارة الصحة لا تتعاون معنا في هذا الشأن، ولا يسمح لنا بتشكيل لجان تحقيق أو إصدار قرارات وبيانات».

وبغياب دور نقابة الأطباء، تبقى شكاوى المواطنين والاتهامات للأطباء دون معالجة، وهو ما يؤكده النائب في المجلس التشريعي الفلسطيني خميس النجار: «حتى يتم تحديد المسؤولية التي تقع على الطبيب لابد من وجود نقابة للأطباء تكون شاملة لجميع الأطباء العاملين في غزة، في القطاعين الحكومي أو الخاص، عندها يمكن أن تدافع عن الطبيب، وتهدي القضاء إلى التحقيقات الكاملة في حالات الأخطاء الطبية».


تعليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *