التقصير وشبهة الجنون تحجر على نساء مريضات

26 مارس 2015

الثورة – بنظرة شاردة تتكئ الأربعينية جميلة على جدار في ركن داخل قسم النساء بمستشفى الأمل الخاص للأمراض النفسية، والعصبية في صنعاء. مظهرها يوحي بأنها تعاني إعاقة حركية، أو تيبسا في أطرافها، وتقوسا في عمودها الفقري.

على أن عيون جميلة الغائرة، تعكس معاناة نفسية وجسمية سبَّبها لها زوجها الذي عزلها عن العالم الخارجي “مقيدة بجنازير قرب الحيوانات داخل زريبة مواش” لمدة 20 عاما، هي نصف عمرها، على ما يقول طبيبها محمد الأشول: “أصيبت بمرض حين كان عمرها 25 عاماً، فاعتقد زوجها بأنها جُنَّت، ولاعلاج لها”، حسبما يشرح اختصاصي الطب النفسي. ولم تُعرض جميلة على أي طبيب طيلة تلك الفترة.

“تخلصت جميلة من القيد حين كبر ابنها، وأحضرها للمستشفى قبل خمس سنوات”، حسبما يستذكر طبيبها: “كانت بحالة مزرية لحظة وصولها، خضعت لعلاج طبيعي مكثف بسبب القيد المُزمن، ثم تخلّى الابن عن والدته؛ لتبقى مع 20 مريضة أخرى مكفولة لدى المستشفى على نفقة فاعل خير”.

سلوى ذات الـ (35 ربيعاً) تقبع هي الأخرى منذ 20 عاماً في غرفة مظلمة في قريتها “أرتل”، إحدى ضواحي العاصمة (صنعاء) بعد أن أحكم أهلها الحصار عليها. تحدق بجدران وقواطع إسمنتية تفصلها عن محيطها، لا لشيء؛ إلا لأنها مصابة بمرض نفسي. خضعت سلوى قبل خمس سنوات لعلاج مدته ستة أشهر داخل مستشفى الأمل (خاص) على نفقة فاعل خير، بحسب شقيقتها الصغرى ياسمين. لكنها أخرجت قبل أن تشفى؛ ما سبب لها انتكاسة قوية. ولم تستطع بعدها مواصلة العلاج، لأنها غير مغطاة بمظلة تأمين صحي حكومي مجاني، حالها حال جميع اليمنيين.

أما حنان (20 عاماً)، فأجبرت على ترك الجامعة ولازمت المنزل، حيث خضعت لجلسات على يد شيخ “طبيب شعبي يعالج أيضاً شقيقتها الكبرى سمية (23 عاماً)”.

جميلة، سلوى، وحنان ثلاثة أجيال لفتيات اليمن ونسائه تتعرضن للاضطهاد والعزل على يد عائلاتهن لمجرد الشكوك بقدراتهن العقلية في مجتمع محافظ يخشى “وصمة العار”، حسبما وثقت معدة التحقيق بعد 20 شهرا من التقصي. يحدث ذلك في غياب قانون “للصحة النفسية” نتيجة إهمال وزارة الصحة، وعدم اطّلاع غالبية مسؤوليها على مشروع القانون، أو مآسي هذه الشريحة.

يفترض أن يكفل القانون علاجا مناسبا للمرضى النفسيين بما في ذلك تأهيل سلوكي يحميهم من سوء معاملة الأهل والأقرباء في مجتمع ذكوري، لا يزال يوصم المرضى النفسيين بأنهم غير أسوياء عقليا.

في الأثناء تواصل المرأة دفع ثمن “وصمة” مجتمع وسط تعطيل مشروع قانون اقترحته وزارة الصحة عام 2008، لكنه لم يصل بعد إلى مجلس النواب لإقراره.

مدير برنامج الصحة النفسية بوزارة الصحة والسكان د. محمد الخليدي يصر على أن الوزارة أرسلت مشروع القانون إلى مجلس النواب عام 2010 ؛ تمهيداً لمناقشته وإقراره. يوافقه الرأي وكيل الوزارة لقطاع الرعاية الصحية د. ماجد الجنيد.

على أن مُقرر لجنة الصحة العامة والسكان بمجلس النواب د.سمير رضا يستغرب ذلك، قائلاً: “لم يصل إلى المجلس حتى الآن”.

 وكيل قطاع الإفتاء والتشريع بوزارة الشؤون القانونية د.مطيع جبير يتهم وزارة الصحة بعدم متابعة مشروع القانون، ويقول: “لأنه غير سياسي وغير سيادي لم تدرجه وزارة الصحة ضمن مشروع خطة 2013″، مشيرا إلى أنه “حدثت صحوة في فترة معينة حول قانون الصحة النفسية، وتم تناوله ودراسته، وفجأة تم تجاهله وغاب من يتابعه من الوزارة بشكل غريب”، حسبما يرى جبير.

وكيل الوزارة ماجد الجنيد يبعد التهمة عن الوزارة ويبرر التأخير :”لأن العديد من القوانين أخذت وقتاً طويلا في مجلس النواب”. لكنه يقر بأن “قضية الصحة النفسية لم تنل حقها من الاهتمام من حيث محدودية الخدمات والأدوية”.

وزير الصحة السابق أحمد العنسي رفض مقابلة معدة التحقيق، فاتجهت إلى نائبه د. ناصر باعوم الذي تولى منصبه في عام 2013، ليؤكد بدوره “أنه لم يطلع على مشروع قانون الصحة النفسية، بل لم يبلغ به أيضا”.

مشروع القانون لم يمر كذلك على وكيل الوزارة لقطاع الطب العلاجي د. غازي اسماعيل، رغم أنه تولى منصبه منذ 2008. ويُقِر: بـ”تقصير الوزارة وعدم استجابتها لكل المتطلبات”.

مشروع قانون قاصر

حتى مشروع القانون المؤجل- الذي حصلت معدة التحقيق على نسخة منه من وزارة الشؤون القانونية- تعتريه “نواقص وثغرات عديدة قد تستغل لانتهاك حقوق الإنسان”، بحسب المستشار القانوني محمد المسوري.

إذ تنص المادة (36) من فصله الثاني على أنه: “يحق للمريض الاعتراض على قرار إدخاله الإجباري إلى المؤسسة العلاجية النفسية للتقييم أمام مجلس المراقبة، كما يحق له أن يمارس هذا الحق عن طريق محاميه، وذلك خلال الأسبوعين الأولين من الحجز”. ويجادل المحامي المسوري بأن “فاقد الإدراك يعد فاقد الإرادة ولا يحق له توكيل محام، فتوكيله باطل”.

كما يشوب مشروع القانون “اختلالات في الصوغ اللغوي، الشروط القانونية، الضوابط والأمور الفنية والملزمة للدولة”، حسبما يضيف، داعيا إلى “مراجعته كليا”. ولم يحدد مشروع القانون “حقوق المريض ذكراً كان أو أنثى وواجبات الأسرة، المجتمع وحتى الدولة”.

رئيس المؤسسة العربية لحقوق الإنسان الخبيرة الدولية رجاء المصعبي تشاطره الرأي، معتبرة أن المشروع “لا يحمي المرأة المنتهكة حقوقها”. وتنفي الحاجة لقانون الصحة النفسية فيما لو نفذت الاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية بطريقة صحيحة.

لكن مدير برنامج الصحة النفسية بوزارة الصحة يؤكد “استقلالية الاستراتيجية عن القانون، فهي مؤقتة بخطة عمل معينة محددة بمدة زمنية (2011 – 2015)”.

حتى الآن فشلت الحكومة في اعتماد هذه الاستراتيجية في بلد تبلغ فيه ميزانية الصحة (753 مليون دولار)، بحسب تقديرات الموازنة العامة عام 2014، فقط 2.8 % من هذه الموازنة تخصص لقطاع الأمراض النفسية. فبحسب كشف حصلت عليه معدة التحقيق من البرنامج الوطني للإمداد الدوائي بالوزارة، فإن مخصصات علاج الأمراض المُزمنة والمُنقذة للحياة تبلغ 11.059.810 دولارات، يخصص منها 308 آلاف لشراء أدوية للأمراض النفسية والعصبية والصرع. ثلاثة أنواع من هذه الأدوية خاصة بالأمراض النفسية المستعصية توزع على مكاتب الصحة والمحافظات، ومصحات السجون في المحافظات الرئيسة.

إحدى عشر منشأة فقط من بين 164 مستشفى حكوميا وخاصا تضم عيادات وأقسام رعاية نفسية، وفق دراسة نشرها الصندوق الاجتماعي للتنمية عام 2008.

في اليمن 127 الفاً و630 حالة مصنفة ضمن الأمراض النفسية (إجمالي عدد النساء والرجال المترددين على العيادات النفسية الخاصة والعامة)، بحسب آخر دراسة نشرها أساتذة الطب النفسي د. محمد الطشي، د. علي الطارق ود. بلقيس جباري في يوليو/ تموز 2008 بالاستناد إلى إحصاءات حكومية جمعت عام 2006. ويلفت الأطباء إلى أن العلاجات المتوفرة “غير كاملة”، وتغطي جزءا بسيطا من “الأمراض النفسية والعصبية”.

بحسب الدراسة فإن 32.60 % من إجمالي المراجعين إناث مصابات بالفصام مقابل 37.71 % رجال مصابين بالفصام. لكن الآلاف غيرهن لا يخضعن للعلاج، بل انعزلن  عن المجتمع في منازل ذويهن أو أزواجهن، حسبما تتبعت معدة التحقيق.

لا أرقام رسمية دقيقة عن عدد المرضى النفسيين من إجمالي عدد السكان البالغ 24 مليون نسمة. لكن تقديرات دولية تشير إلى إصابة 7 % من السكان بأمراض نفسية، 1 % من هذه مصابون بمرض الفصام، وهو اضطراب حاد في الدماغ يشوه طريقة التفكير، والتصرف والتعبير عن المشاعر.

يعمل في اليمن 44 طبيباً نفسياً – من بين 8534 طبيباً – أي طبيب نفسي واحد لكل نصف مليون شخص تقريباً، بحسب الدراسة. بينما تحدد إحصاءات البنك الدولي طبيبين لكل 10.000 مريض.

 ما يزيد تعثر الصحة النفسية في اليمن، ضعف إقبال طلبة الطب على التخصص، إذ يؤكد د.عبد الله شويل أن “آخر ما يفكر فيه الطبيب بعد التخرج هو الطب النفسي”.

وفي حوارات مباشرة لمعدة التحقيق مع 20 طالباً في كلية الطب بجامعة صنعاء استبعدوا جميعاً فكرة دراسة الطب النفسي، بحجة الميول، والنظرة المجتمعية للمريض التي تعتبره مجرد “شخص مجنون”.

أما القلة المتحمسة للتخصص، فيتطلعون لدراسته “لأسباب ذاتية” أو رغبة منهم في مساعدة المريض نفسياً. ويرى نائب عميد كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة صنعاء الدكتور علي الميري “أن الطلبة يتجهون للتخصصات الأكثر تشويقاً”، معللاً أن التخصص ليس قائماً بذاته لأنه ضمن مادة الطب الباطني ولا يجني مالاً كالتخصصات الأخرى.

مدير برنامج الصحة النفسية بالوزارة د. الخليدي. يحمل الحكومة “مسؤولية” التقصير، ويجادل بأن “وزارة الصحة هيئة إشرافية وليست علاجية، ولا يدخل العلاج ضمن نطاقها أو في برنامج الصحة النفسية. ولا يوجد مسؤول عن هذه الفئة”.

بينما يُقر وكيل الوزارة للطب العلاجي د.غازي إسماعيل ب”تقصير الوزارة الكبير في توفير كميات الأدوية المطلوبة وتلبية احتياجات الناس”، إذ يضطر المرضى لدفع ثمن العلاج على حسابهم الخاص.

بالتقصي الميداني لم تعثر معدة التحقيق على دار إيواء أو مصحة نفسية حكومية في العاصمة سوى مصحة السجن المركزي، ويؤكد  مدير إدارة الخدمات الطبية بإصلاحية السجن المركزي سابقاً د. أحمد نعمان أن “الإشكالية الكبيرة التي تواجه عمل المصحة، تتمثل في عدم توافر الكادر وقطاع الرعاية (لمعالجة النساء والرجال)”.

نائب مدير السجن المركزي – المقدم محمد الإدريسي يقول: “نعاني  شحا كبيرا في الأدوية والكادر الطبي وأدوات النظافة والموظفين”، رغم وجود اتفاقية موقعة بين وزارتي الصحة والداخلية، فيما يخالفه الوكيل المساعد لمصلحة السجون العقيد عبدالسلام علي صالح بالقول: “إنها اتفاقيه شفهية فقط، ونصت على أن تتحمل وزارة الصحة توفير الكادر والأدوية، وتتحمل وزارة الداخلية توفير مواد النظافة والإشراف”.

القانون رقم (48) لسنة 1991 بشأن تنظيم السجون بالفصل الخامس الخاص بالرعاية الصحية للمساجين في المادة (25): “يصدر وزير الداخلية بالاتفاق مع وزير الصحة العامة لائحة تفصيلية لتنظيم الشؤون الطبية والصحية داخل السجون، وتحديد واجبات الأطباء المساعدين وإجراءات نقل المرضى المساجين إلى المستشفيات العامة وتحديد جداول مقررات الطعام والملابس والفرش والأثاث اللازم للسجناء”، ويوضح العقيد صالح بأن التدهور الحاصل في مصحة السجن، يأتي لعدم تفعيل لائحة تعزز القانون وتحدد التزامات واضحة لكل جهة من الجهات.

نائب مدير السجن المركزي المقدم الإدريسي، يؤكد عدم قدرة المصحة على استقبال مرضى من خارج السجن، إلا في حال تقدّم الأهل بطلب للنيابة لـ”سجن المريض”، من ثم تصدر النيابة أمرا بإيداعه للعلاج في المصحة.

تضم المصحة 120 سجينا – ليس بينهم أي سيدة – إذ تفوق قدرتها الاستيعابية بنحو 25%، ويعالج 80 آخرون في القسم العام بالسجن رغم نقص الأدوية والأطباء، ويشرف عليهم 3 أطباء نفسيين وأخصائي نفسي واحد، بحسب الإدريسي، ويزيد: “الاكتظاظ يطال أيضا السجن الذي يضم 2500 نزيل، مع أن طاقاته الاستيعابية  لا تتجاوز 1100”.

4 سجينات فقط عولجن بهذه المصحة، 3 منهن مصابات بالفصام، تلقين العلاج بقسم سجن النساء لعدم وجود مكان مخصص لعلاجهن، فيما لم يذكر التقرير الإحصائي السنوي الصادر عن مصلحة السجون التابعة لوزارة الداخلية 2012 أي مريضة نفسياً بين النزيلات.

وتنتقد المصعبي خبيرة حقوق الانسان وجود مصحة نفسية “في جهة عقابية. فمن الصعب إيواء المريضات نفسياً في مصحات السجون، لاعتبارات الوصمة الاجتماعية والنظرة القاصرة للأنثى بأنها عورة”.

يشتكي أهالي مرضى من ضعف رقابة وزارة الصحة على خدمات الصحة النفسية. إذ إن 27 % من 164 منشأة لا تفتح ملفاً طبياً للمريض وبياناته، ولا تسجل تواريخ تردد الحالات، ما يدل على وجود إهمال وتقصير حكومي وأهلي في مجال الصحة النفسية والحقوق الإنسانية للمصابين بأمراض نفسية بخاصة النساء، بحسب دراسة أساتذة الطب النفسي.

الجنيد يعلل عدم توافر سجلات خاصة بمرضى الفصام بقوله: “يفترض أن لا يكون هناك سجل صادر عن الوزارة أو برنامج الصحة النفسية، بل يجب دمجها في إطار السجلات ونظام المعلومات الصحي العام”.

الأستاذ بكلية الطب في جامعة صنعاء د. محمد الطشي وأستاذ الطب النفسي بالكلية ذاتها مدير مستشفى الرشاد د. عبد الله شويل يؤكدان أن معاناة المرأة تفوق معاناة الرجل وبخاصة المريضة نفسياً.

ويؤكد أطباء إمكانية الشفاء من الفصام إذا تعاون الأهل، إذ تصل نسبة الشفاء التام إلى  10%، بحسب وصف الطبيب محمد الأشول في حال خلو العامل الوراثي، عبر علاج مبكر، ووجود علامات موجبة، واهتمام الأسرة ودعمها. بينما تتراوح نسبة التحسن من المرض بين 50 و60 % إذا استخدم العلاج بانتظام، لكن 20 % من المرضى لا علاج لهم، ويحتاجون لأماكن مخصصة لإيوائهم.

سلوى

الطبيب الطشي المشرف على حال “سلوى” يرى أنها تعاني أعراضاً انسحابية، وهي موجودة بمرض الفصام المزمن والاكتئاب، ويبدو أن الأثر البيئي كان سبباً لظهور أعراض تصل للتبلد، والانسحاب العاطفي والاجتماعي، وفقدان مهارات التواصل واللغة وعدم الاكتراث بما يدور حولها. كما يرى أيضاً أن رغباتها وطموحاتها مفقودة، وتحتاج لجهد كبير حتى تتحسن مع متابعة علاجية طويلة وبرامج تأهيلية كاملة، ابتداءً بكيفية تلبية احتياجاتها الأساسية تماماً كطفلة.

جميلة

الأخصائية النفسية بمستشفى الثورة د. جميلة عيسى تؤكد أن “افتقاد حنان (20 عاماً) للأمان وتعرضها لضغوط ومشاكل أسرية، أجبراها على ترك دراستها”. وفاقم ذلك مرض شقيقتها الكبرى ومصاحبتها لأماكن يتعرض فيها المرضى للضرب، بحجة إخراج الجن والمس، و”تلقت حنان صفعة غير متوقعة من والدها خلال صلاتها، في الوقت الذي كانت فيه الأخت الكبرى سمية في اللحظة ذاتها تعاني حالة هيجان عند استخدامها لوصفة علاجية حدّدها شيخ يعالج بالقرآن (طب شعبي رائج محلياً)”، حسبما تقول د. عيسى، لافتة إلى أن “تلك الصفعة كانت كفيلة لتخرج حنان من عالم الإدراك وتدخلها في عالمها الخاص”.

مصحّات دون المستوى

حتى وإن توافر المال وتساهلت النظرة الاجتماعية تجاه المرأة المريضة نفسياً، تبقى سعة المصحّات النفسية الخاصة دون المستوى المطلوب، وهو الحال ذاته في عدد الاطباء النفسيين والمختصين بتحليل علم النفس وطواقم الإسناد.

الأخصائي النفسي بالسجن المركزي عادل هويدي يوضح أن المريضات يتلقين العلاج ويخضعن للفحوص “داخل قسم السجينات”، وذلك يتعارض مع القانون رقم (48) لسنة 1991، بشأن تنظيم السجون، إذ تنص المادة (26) منه على أنه: “عند إصابة المسجون بمرض عقلي أو نفسي ينقل إلى مستشفى الأمراض العقلية والنفسية، بناءً على تقرير الطبيب المختص، وبموجب اللائحة الخاصة بذلك”، بحسب الوكيل المساعد لمصلحة السجون العقيد عبد السلام علي صالح.

ويرى العقيد صالح أن “السجن ليس مكانا لعلاج المرضى النفسيين، ولا يوجد أي منظمات إنسانية وحقوقية تسهم بدعم المرضى في السجن بأي شكل من الأشكال، بعد أن أكمل الصليب الأحمر الدولي مهامه لدعم المرضى بالسجن المركزي عام 2005”.

يذكر نائب مدير عام الإصلاح والتأهيل لشؤون الرعاية بالمصلحة الدكتور عبد العزيز المخلافي بأن: “اللجنة الدولية للصليب الأحمر تعمل على الصعيد العالمي بتقديم المساعدات الإنسانية، وكانت مصلحة السجن المركزي إحدى اهتمامات الصليب الأحمر الدولي بين 95 و2005 ، والتي سميت بالفترة الذهبية للمصلحة، إذ كان الكادر الطبي والأدوية والخدمات اللازمة للمصلحة والسجناء متوافرا، وبعد أن سلم الصليب الأحمر المصلحة للدولة بسنة واحدة، عادت إلى العوز في العلاج والفراش وأدوات النظافة”.

وبحسب الهويدي فإن شحاً في الأدوية يواجه إدارة المصحة، ويؤكد: “نستعين بأهل النزلاء أحياناً لشراء العلاج على نفقتهم الخاصة، حتى لا يتوقف المريض عن استخدامه بشكل مفاجئ، وبعضهم الآخر لا يجد من يشتري له الدواء”.

يبقى المريض بمصحة السجن “لمدة لا تزيد على شهر، بعدها يعود ليكمل محكوميته في قسم السجن مع تلقي ما تبقى من كورس الدواء المخصص لحالته، لكن سرعان ما تعاوده الحالة المرضية، ويعاد مرة ثانية للمصحة”.

انتقادات حقوق الإنسان

3 أقسام للطب النفسي في صنعاء ضمن مستشفيات حكومية لكنها (غير مجانية). إحدها في مستشفى الثورة، ويُعد هيئة مستقلة مالياً وإداريا، إلا أن قسم الأمراض النفسية والعصبية بالمستشفى لا يصلح للحالات المُزمنة أو المستعصية. كما أن فترة الإقامة فيه لا تزيد على الشهر، وتقدر تكلفة رقود المريض بالقسم ذاته في المستشفى بـ(84) دولارا شهريا، والمتوافر من الأدوية قليل جداً، لا يفي باحتياجات المرضى، بحسب رئيس قسم الأمراض النفسية بالمستشفى د.عبد الله الشرعبي، مشيرا إلى توجهات منظمة الصحة العالمية بدمج المصحات بالمستشفيات العامة التي ما تزال قيد الإنشاء بوزارة الصحة اليمنية.

علاج مكلف في الدور الخاصة

مستشفى الأمل ضمن 3 مستشفيات خاصة للطب النفسي، ويتبع جمعية الإصلاح الخيرية. (غير مجاني) ويحصل على مساعدات حكومية تقدر بـ(126 الف دولارا) سنوياً. هذا المستشفى هوالوحيد الذي ييتضمن حالات نفسية مصابة بالفصام، وتبلغ طاقته الاستيعابية 200 سرير، لا يخصص للنساء منها سوى 50 سريراً، لكن المفارقة تكمن في عدم وجود مريضات بالفصام على لائحة الانتظار؛ لأن الطاقة الاستيعابية لا تمتلئ في المستشفى نظراً للوصمة المجتمعية.

أما مستشفى الرشاد للأمراض النفسية والعصبية (قطاع خاص) فيحوي 30 سريراً، تخصص للحالات المستعصية فقط، ولا يوجد قسم خاص أو أسرة خاصة للنساء، وفق مديره العام د. عبد الله شويل.

تقدر كلفة علاج الفصام في غرفة مستقلة في مستشفى الأمل بـ 630 دولارا شهريا، تنخفض إلى 210 دولارات للغرفة المشتركة، يضاف لذلك تأمين نقدي قدره 327 دولارا، دون احتساب الأدوية والفحوص، في بلد يعيش 18% من سكانه تحت خط الفقر بمعدل 1.25 دولار في اليوم.

 تقرير الأمم المتحدة الصادر في ديسمبر/ 2013 يشير إلى أن الفقر طال ما يقرب من ثلث سكان اليمن في عام 2006، وارتفعت النسبة إلى 54.4 % من السكان عام 2011. ويفيد تقرير المنظمة الدولية الصادر في سبتمبر/ أيلول 2013 بأن مسألة الفقر في اليمن هي قضية إنسانية حقيقية، تحتاج لمتابعة المجتمع الدولي، وأن هناك ستة ملايين مواطن يمني لا يحصلون على الخدمات الصحية المجانية، أو ما يستحقونه من مساعدات في مجال الصحة.

الطبيب الطشي يؤكد أن “معظم الحالات تعالج بنظام العيادات الخارجية، ونادراً ما تزور المستشفيات”، مقراً بوجود “تقصير كبير في الاهتمام بالصحة النفسية في اليمن”.

ويدعو إلى تخصيص “أقسام ضمن المستشفيات الحكومية أو وحدات صغيرة” لهذه الفئة. ويدعم الفكرة زميله د. عبد الله شويل مدير مستشفى الرشاد النفسي (خاص) بقوله إن “العرف الطبي العالمي يرفض المصحات المستقلة، ويؤكد دمج المريض النفسي في المستشفيات العامة”، مستثنياً بذلك “ثلث مرضى الفصام ممن لا علاج لهم وبحاجة لدور إيواء”.

غياب تنفيذ الاستراتيجية الوطنية

تستهدف الاستراتيجية (التي وضعها الصندوق الاجتماعي للتنمية بالتعاون مع وزارة الصحة العامة والسكان) “توفير وتعزيز خدمات صحية نفسية نوعية في مجالات الوقاية والعلاج وإعادة التأهيل ورفع الوعي لكل أفراد المجتمع اليمني”.

يقول الدكتور الخليدي: “جاءت الاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية، لتعزز برامج الصحة النفسية وتقويها، ولتوسيع نطاق عمل البرنامج”، مستدركا “لدينا استراتيجية لكن لا توجد ميزانية لتنفيذها، والميزانية المقررة لدعم الصحة النفسية قليلة جداً إذ تبلغ “37.383 دولارا” وتصرف في أمور أخرى .

يقول مدير عام صحة الأسرة ومشرف برنامج الصحة النفسية بوزارة الصحة علي محمد جحاف إن “برنامج الصحة النفسية أقر من مجلس الوزراء عام 2004، لكن لم يوفرالمال لتوسيع أعماله وزيادة نشاطه، كما لم تقدم الوزارة خطوات لدعم الاستراتيجية، بذريعة أن الموازنة لا تكفي، ويبدو أن أولويات الحكومة بعيدة كثيراً عن الصحة النفسية”.

“لكن الاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية (2011- 2015) التي أعدها (الصندوق الاجتماعي للتنمية وقطاع الرعاية الصحية الأولية بوزارة الصحة) وتهدف لتطوير الصحة النفسية وتحفيز المجتمع لدعم المرضى، لم تحقق شيئاً على أرض الواقع فيما يتعلق بتخفيف معاناة المريضات والمرضى بالفصام حتى اللحظة” وفق جحاف.

وبانتظار قانون طال انتظاره ليحمي ويخدم المرضى النفسيين ، فإن سلوى حبيسة الغرفة المظلمة، وجميلة التي قضت نصف عمرها أسيرة قيد في زريبة للمواشي ما تزال تعاني، وسوط القسوة الذي طال حنان، وقصص أخرى أكثر ألماً ما تزال مجهولة، وستبقى دون خدمة ورعاية نفسية، في مجتمع يرى المرأة “عورة”، وجهات حكومية مغيبة لدورها في ظل تشتتها وإهمالها لحقوق المرأة المريضة بالفصام.

إنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية) .