هزات "أوراق بنما"

2016/04/13
التاريخ : 13/04/2016

رنا الصباغ: تتوالى الهزات الارتدادية لكشوفات “وثائق بنما”، امتدادا لعاصفة التحقيقات التي نُشرت وبُثت دفعة واحدة في كبريات وسائط الإعلام، بمشاركة صحفيين مستقلين، بمن فيهم عرب، نسقّوا فيما بينهم ضمن أكبر مشروع استقصائي عابر للحدود حتى الآن.
والحبل على الجرار.
فبعد أسابيع، سينشر الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين اللائحة الكاملة للشخصيات والشركات التي وردت أسماؤها في “قنبلة العصر”.
الوجبة الأولى من قوائم كبار العملاء، تشكّل نقطة في بحر قياسا إلى تسريبات أرشيف يضم أكثر من 11 مليون وثيقة، تغطي 40 سنة من التعاملات بين شركة الخدمات القانونية “موساك فونسيكا” في بنما، دولة المقر وأفرعها حول العالم، وبين وزبائنها الذين هم خليط من ساسة ورجال أعمال ووجوه عالم الإجرام ونجوم الفن والرياضة.
وستستمر هذه التسريبات طالما ظلّت جزر الملاذات الضريبية مسارا موازيا للاقتصاد العالمي السائد، حيث تتداخل نخب سياسية بعالم المال والأعمال للاستحواذ على مفاتيح الاقتصاد وإخفاء الأصول، وسط عجز دول عديدة عن مكافحة التهرب الضريبي وتبييض الأموال. وقبل “تسريبات بنما”، لمعت تسريبات “سويس ليكس” و”لوكس ليكس” وغيرها.
بموازاة ذلك، تتعولم حركة الصحافة الاستقصائية يوما بعد يوم ويشتدّ عودها. يتجلّى ذلك في الجهد الاستثنائي لعشرات الصحفيين الذين أثبتوا نجاعة التنسيق والتعاون عابر الحدود بشكل سري، وببحث هادىء ومعمق.
ماذا حدث؟
صحيفة “سود دويتشه تسايتونغ” الألمانية -التي سربت لها الوثائق- طلبت مساعدة فنية من “الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين”، كونها لم تكن قادرة على التعامل وحدها مع هذا السبق الذي يخص العالم كله. وقد سبق للاتحاد أن نسق عملية جمع المعلومات وتحليلها في ملفات “سويس ليكس”، التي اعتمدت على تسريبات وثائق عملاء بنك “أتش. أس. بي. سي”، وبمشاركة ذات الصحفيين العرب.
عُقد الاجتماع التنسيقي الأول في مدينة ميونخ الألمانية قبل ثمانية أشهر. هناك، دعا الاتحاد 100 مؤسسة إعلامية وأعضاء مستقلين للتباحث حول اسم المشروع، وآلية العمل، وطرق تبادل المعلومات وفرزها وتثبيتها، وصولا إلى توحيد توقيت النشر حول العالم لخلق الصدمة المطلوبة وإحداث تغيير صوب الأفضل. وتوسعت الشبكة تدريجيا لتضم حوالي 400 صحفي؛ من 107 مؤسسات إعلامية في 78 دولة.
كان ضمن الفريق صحفيون استقصائيون متخصصون في قضايا التهرب الضريبي، فضلا عن خبراء في حماية نظم المعلومات وتشفيرها. وقد ركز الجميع على تقصي شخصيات عملت في الحقل العام أو السياسي، بالاستناد إلى بحث معمق في أكوام من السجلات، وإجراء مقابلات، لمطابقة الحقائق مع التسريبات. واتفق الصحفيون على ضمان حق الرد لجميع من نُشرت أسماؤهم.
من بين الروّاد ستة صحفيين عرب. وهم يعملون اليوم على تجهيز الوجبة الثانية.
كيف سيتعامل الإعلام العربي مع التسريبات القادمة؟
الجواب واضح. إذ طغى التضليل والتعتيم بدرجة كبيرة على محتواها الإخباري، رغم تورط شخصيات عامة ورئيسة في دول عربية عديدة، فضلا عن شخصيات حكومية سابقة ورجال أعمال. لماذا؟
لأن السلطة ورأس المال يلجمان الإعلام بحبل يمتد طوله بحسب تقاطع المصالح. والإعلام العربي الخاضع لسيطرة الدول الغنية دافع عن مريديه وكشف أعداءه. وغالبية وسائل الإعلام العربية الخاصة لم تذكر أسماء الشخصيات العربية التي تخص بلادها وكأن “العرس عند الجيران”.
بعضها منع صحفييه من نشر التحقيقات التي كشفوها، كحال زميل في الجزائر اضطر لنشر تحقيقه في موقع إلكتروني فرنسي بعد ضغط الوزير المعني على صاحب الصحيفة المحلية. وفي اليمن وسورية، حيث الإعلام منقسم بين “الشرعية والمليشيات”، نشر زملاء تحقيقاتهم بأسماء مستعارة في صحيفة عربية مقرّها لندن. وقد تعرض للاختراق موقع “إنكفادا” التونسي، الذي شارك صحفيوه في المشروع الدولي. فيما تعرض رئيس تحريره للتهديد والشتم من قبل بعض مؤسسات الإعلام الخاصة. وفي العراق، يستعد زميل لنشر تحقيق مماثل باسمه، علما أن المؤسسة الإعلامية الحكومية التي يعمل بها فصلته بعد أيام من ورود اسمه في قائمة الصحفيين العرب الذين عملوا على “وثائق بنما”.
وسائل إعلام عامة وخاصة ركّزت على التسريبات المتعلقة بمعارف بوتين والرئيس الصيني وأقربائه، ورئيس أوكرانيا، ولاعب الكرة ليونيل ميسي. منهم من تجاهل النشر في اليوم الأول واكتفى بنشر وجهة نظر مكتب “موساك فونسيكا”، الذي ادعّى تعرضه للقرصنة. وآخرون استحضروا نظرية المؤامرة وحمّلوا وكالة الاستخبارات الأميركية مسؤولية خراب مالطا، ومحاولتها كسر هيبة الرئيس الروسي الذي أعاد المجد والنفوذ لبلاده. وكذلك التشهير بزعماء عرب من الحلفاء التقليديين لواشنطن بسبب انتقاد البيت الأبيض لسياساتهم. واستشهد بعضهم بانتقادات موقع “ويكيليكس” لجهد زملائه في الاتحاد الدولي، للطعن بصدقية العمل وبنوايا الممولين.
بعضهم نشر غالبية الأسماء المدرجة باستثناء الشخصيات التي تخص بلادهم، وكأن الأمر لا يتعلق بأموالهم العامة. وصحف أخرى أخفت الخبر في قسم الرياضة، عبر “ميسي الذي سيقاضي الإعلام الإسباني بسبب وثائق بنما”.
ومع تدحرج الكرة، اضطرت غالبية المؤسسات العربية إلى التعاطي مع خبر استقالة رئيس وزراء آيسلندا والعاصفة التي هزّت رئيس وزراء بريطانيا الذي قرر أخيرا الإفصاح عن سجله الضريبي.
بالطبع، لا يتصرف القائمون على وسائل الإعلام من فراغ. فسياسات التحرير تعكس طبيعة النظام السياسي ومدى انفتاحه واستقلالية السلطتين التشريعية والقضائية. وكذلك حيوية المجتمع المدني وقناعة وسائل الإعلام بقدسية دور “السلطة الرابعة” والإصرار على محاسبة المسؤولين عن أقوالهم وأفعالهم. حال الإعلام يعكس تراجع مناسيب الحريات في العالم العربي وتصاعد الرقابة الذاتية بسبب قوانين مكافحة الإرهاب.
في المقابل، لم تخف الصحف العالمية أسماء مشاهير الوجبة الأولى، وإن ركّز بعضها على تراتبية الأسماء. ووجدت في التسريبات مادة دسمة لفضح المتهربين ضريبيا والضغط على الحكومات لفتح تحقيقات قضائية.
هل نتوقع مظاهرات عربية تطالب بالتحقيق مع من نشرت أسماؤهم؟ وأن تتحرك السلطات الضريبية على الأقل للتحقيق مع من وردت أسماؤهم مثلما حصل في الغرب؟ غالبا لا. لأن من ينظّم مظاهرة سيعرض نفسه للمساءلة القانونية في غالبية الدول العربية. وسيقف الناس له بالمرصاد قبل الحكومة، خشية أن يفضي أي حراك إلى عدم الاستقرار.
هل ستأخذ الدول العربية زمام المبادرة وتصوب قوانينها لضمان وقف التهرب الضريبي والأنشطة المخفية، التي يقترفها مسؤولون وهم على رأس عملهم؟ ربما. فغالبية الدول العربية -الجامدة سياسيا والمغلقة اقتصاديا- لن تحرك ساكنا إلا إذا أجبرت على تطبيق معاهدات دولية. وبموجب اتفاقية “فاتكا” مثلا، تلزم أميركا دول العالم بكشف حسابات مواطنيها وممتلكاتهم.
مرة أخرى تنفرد تونس في تعاملها مع تداعيات “أوراق بنما”؛ إذ توعّدت الحكومة بفتح تحقيق قضائي. وبذلك لحقت بركب الدول الديمقراطية، مثل بلجيكا وآيسلندا وفرنسا.
يتوقع أن يضرب التغيير فضاء الملاذات الضريبية ليس لأسباب داخلية، بل لعوامل خارجية. فسيأتي اليوم الذي ستفرض فيه أميركا أو الاتحاد الأوروبي قرارات تمنع سرية عملاء شركات الـ”أوف شور”. فهذه دول ملتزمة بملاحقة المتهربين ضريبيا بحكم ديمقراطياتها الراسخة وسلطاتها التشريعية.
لا أمان بعد اليوم للمال المخفي مع تمدد تأثير حركة الصحافة الاستقصائية العالمية. وأمس، طالب خبير أممي بإنهاء عهد السرية المالية والتمويلية. فمن سيثبت خلو عقوده من الأخطاء وشفافية الطرق التي جنى من خلالها ثروته، لن يخشى من الفضيحة المجلجلة والعقاب. أما من يتصرف خلاف ذلك، ويستغل منصبه العام للتكسب ونهب ثروات بلاده، فليدفع الثمن ولو لمرة. فأكثر الثروات غير المشروعة تتراكم في أكثر البلدان استبدادا وفقرا وتخلفا وقمعا.


تليقاتكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *