تقرير حول تجربة التعاون مع الزميل حمود العجاج في تحقيق “الحيار” لدى مناقشة الفرضية(*) مع حمود عارضته فيها. كنت أعتقد أنه لم يعد لعرف “الحيار” وجود واقعي اليوم، وأن الأجيال الجديدة، ولا سيما المتعلمين، في مجتمع محلي يغلب عليه الطابع العشائري كمجتمع الرقة، تجاوزوا منذ عقود هذا المفهوم الذميم. ورغم إصرار حمود على استمرار عادة الحيار بصورة ملحوظة حتى اليوم، عجز خلال أربعة أشهر عن توثيق حادثة واحدة راهنة. لذا خلت مسودة التحقيق الأولى من الوقائع الملموسة، واقتصرت على إفادة شاهد عيان مسن على أحداث وقعت في زمن غابر، ورأي لباحث في التراث، واستطلاعٍ لآراء شرائح من شبان الرقة المعاصرين كادوا ينفون وجود الظاهرة اليوم، ومقتطفات شعرية لشاعر تناول الحيار في أدبه.. حتى “أسعف الحظ” حمود فجأة عندما أقدم طالب حقوق شاب في الرقة على قتل ابنة عمه التي رفض والدها تزويجها له بحسب العرف. فتحت الواقعة أمام حمود باب مركز الطبابة الشرعية (وسجلاتها لاحقاً) وبوابة سجن الرقة حيث نجح في الحصول على إذن الإدارة والسجين على إجراء لقاء معه. مع ذلك استمر الاستعصاء في التقصي شهرين آخرين إلى أن اقترحت الزميلة رنا صباغ توسيع الرقعة الجغرافية للتحقيق ليشمل دير الزور والحسكة إضافة إلى الرقة. فتح الاقتراح آفاقاً في التحقيق لم تكن ملحوظة في الفرضية الأولية وخطة المتابعة، إذ اتجه ثلاثة مساعدين استعان بهم حمود في البحث عن واقعات “حيار” مؤكدة وتوثيقها، إلى أرياف المحافظات الثلاث، وعثروا على ما لم يكن مرئياً للعيان: عادة ذميمة تؤدي في كثير من الحالات إلى مآسي اجتماعية وإنسانية مؤسفة، ثمة ميل عام للتستر على استمرار ممارسته، خاصة عندما تكون النتيجة حادثة قتل أو انتحار. وليس نادراً ما يجري تزوبر معطيات التحقيق الجنائي لينسب انتحار فتاة (ضحية الحيار الأولى) إلى غير السبب الحقيقي. لهذا واجه توثيق كثير من الحوادث التي تطرق إليها تحقيق حمود صعوبات جمة، ساعده في التغلب عليها تعاون ناشطة نسائية من دير الزور مطلعة على مجريات الحياة في المحافظة، بسبب موقعها في الإدارة المحلية هناك، وصحفية شابة من الحسكة متابعة لشؤون المحافظة، وصحفي محلي في الرقة.في خطوة لاحقة ساعد الطبيب الشرعي في الرقة، بعد كسب تأييده للموضوع بحوار مستنير، على توثيق حوادث عديدة أكدت أن “الحيار” ما زال ظاهرة اجتماعية وثقافية مستمرة، وليس مجرد حوادث قليلة متباعدة في الزمن. درس مستفادة: أ. تنتشر الظاهرات الاجتماعية التقليدية في المجتمعات ذات الطابع العشائري وفقاً للخريطة الاجتماعية وليس الجغرافية أو التقسيمات الإدارية، وتنتشر في الريف أكثر من المدينة. كان من شأن وعي هذه الحقيقة من قبل كاتب التحقيق أو المشرف على عمله أن يوفر زمناً غير قصير من فترة الإنجاز. ب. هناك دائماً في بيئة العمل من يؤمن بقضية التحقيق الذي نجريه، أو له مصلحة فيه، ولديه ما يقدمه لنا مما يدعم جهودنا. علينا أن نبحث عنه (عنهم)، نعي دوافعه، نحسن محاورته ونحفز حماسته. (*) الفرضية كما اقترحها حمود في ورقته الأولية: “الحيار مشكلة اجتماعية مرت عليها مئات السنين ولم تندثر بعد.. شبان وشابات ضحايا أسر اجتماعي خطير.. العادات البالية وقصور التوعية والأمية وراء المشكلة..”